أمل الكردفاني- عالمان- قصة

ما أتعس من تتكرر أيامه كربة منزل، من تتلاشى ساعات حضوره في الوجود بلا سعادة، المتأكد دوما بأن أسوأ شيء لم يحدث بعد.
بعد ثلاثة وخمسين عاماً، اكتشفت أنني ذلك الشخص. ثلاثة وخمسون عاماً، كان كل يوم يعتبر نجاة من الأسوأ. ولذلك لم أفكر سوى في سعدية، في ضحكتها الطفولية، تأوهاتها الساخنة كفوهة بركان..جسدها الذي يهتز حابساً العسل في جوفه. كانت كروحٍ أسطورية من حضارة الإغريق. الشيء الوحيد الجميل في حياتي..والشيء الوحيد الذي عندما فقدته ارتحت كثيراً ولا أعرف السبب...
هناك من يعملون يومياً، يعشقون الانخراط في اللا جدوى..في العبث...وهناك المحتالون الذين يتمتعون بشخصية منفتحة ومهضومة للكافة، وهناك القيء من تجار السوق، الذين عندما تراهم تشعر بأنهم يتغوطون من أفواههم في وجهك.. وهناك تجار السياسة وتجار الدين وتجار اللا دين.. تجار الآيدولوجيات عموماً، كلهم تنمطوا بقالب واحد كئيب..وبما أن أغلب البشر من جميع هؤلاء فقد كنتُ خارجَ القطيع البشري دائماً.. بكينونة ممزقة.. ورغبات مستحيلة.. كنت أعيش داخل دماغي..هناك حيث آكل وأشرب وأتغوط واتبول وأنام وأتزوج وأطلٍّق وأتاجر وأقتل وأنجب وأداوي..الخ. كان دماغي قارتي، ولذلك لم أشعر بتعاسة فقدي لسعدية كما كنت أتوقع، لأنها كانت لتخرجني من داخل دماغي إلى العالم الخارجي الذي لا يتجدد، العالم الذي يجب أن أتنمط فيه كفرج دجاجة..العالم التافه العبثي الذي يخلو من أي عمق.. لا متعٍ عميقة ولا حب عميق ولا حياة عميقة..العالم المفارق دائماً.. لذلك خلقتُ عالما محايثاً..مندمغاً ومتكاملاً داخل دماغي..عالمي هو أنا.. وبعد ثلاثة وخمسين عاماً اكتشفت أنني كنت سجيناً.. وأن عالم الداخل لا يغني عن عالم الخارج شيئاً..ففي عالم الخارج هناك الطعام الحقيقي الذي سيملأ معدتي بالفعل والحب الذي سيملأ قلبي بالفعل، بل وحتى التنميط الذي سيحقق لي نسبة من الأمن من المستقبل..ولكن اكتشافي هذا جاء بعد فوات الأوان..لقد استيقظت لأجد العالم وقد تغيَّر..العالم الذي لا يكترث بي..العالم المشغول دوماً بتجارته البكماء.. المصالح المتبادلة هي التي تخلق الجديد دوماً..كنت كمن ولدته أمه وتركته وسط طريق سريع، مهدداً دائماً وهو لا يزال عارياً وحبله السري يمتد تحت ظهره المسجى على الأسفلت الساخن..بعينين زائغتين محدقتين إلى السماء الزرقاء الصحوة.
الشخص الذي لا يصلح لعمل أي شيء..في عالم يستدعي منك أن تفعل أي شيء حتى أنك لو مت من الجوع فإنك ستموت راضياً لأنك بذلت مجهوداً ينفي عنك تهمة الإنتحار..
وإزاء هذا العجز المطلق، بت أفكر كثيراً.. نعم..خرجت من حياتي الدماغية لأملأ الدماغ بالتفكير في حياتي خارج عالمي الدماغي..عقاراتي زوجاتي وإمائي وعبيدي وخدمي وقصوري وميدالياتي الذهبية وملاييني ..كل ثروتي..كل ثروتي في عالمي الدماغي تبددت..وحينما خرجت إلى العالم الواقعي وجدت نفسي بلا ثروة..عشر سنوات في مستشفى الأمراض العقلية..كانت كفيلة بأن تعيدني إليه قسراً لأبدأ من الصفر..غير أن المرارة هي أنني لم أنسَ يوماً ذلك العالم الثري..عالم المروج الخضراء والشباب الدائم وأبقار الفريزيان والنهير الرقراق..لم أستيقظ فجأة بل كفاصل بين مقطوعتين موسيقيتين كانت يقظتي متدرجة بحيث تختلط مؤخرة الأولى بمقدمة الثانية..وهكذا لم يعد بالإمكان العودة إلى عالمي القديمة.. هكذا أنا اليوم مُلقىً وسط صحراء بلا نهاية..صحراء خالية تماماً من أي حياة.. أكاد آكل فيها أصابعي كما فعل بطل رواية اللجنة لصنع الله إبراهيم. لكنني حينما أحاول قضم أصابعي لا أجد لها طعماً، بل رائحة دماء زفرة ولحم نيئ تبعث على الغثيان..هنا حيث المشهد الذي لا يتبدد ولا يتكرر..وحين أتذكر تشبث أصابعي بالقضبان الفولاذية لنافذة المستشفى وأنا أصيح باسم سعدية، وأتذكر خيانتها لجميع أزواجها ولي ولمن خانتني معه ومن خانت معه من خانت معه من خانتني معه أسقط وبطني يعصرها الضحك.. نعم..وأنا وسط الصحراء أتخيلها امرأة خائنة لتكون هناك قصة يمكن أن أحكيها لنفسي..أن أكون رجلاً قابلاً لأن يتعرض للخيانة لأن هذا إنجاز حقيقي لزومبي مثلي. وأعبر الصحراء متمنياً أن أتعرض لانتكاسة فأعود لعالمي الأول..عالمي الثريء المليء بالملاحم والبطولات..بالحب والخيانة..بالدماء والدموع..ولكن هيهات..ها أنا في الثالثة والخمسين بلا أي حكاية..لا أملك سوى حكمة لم أفهم مغزاها حتى اليوم...حكمة أسميتها سعدية..

(تمت)..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى