أمل الكردفاني- العلوم كتعريف في مهارات البحث العلمي

لو قرأت حواراً بين متخصصَيْن في علم ما، فغالباً لن تفهم ما يقولان. غير أن قراءة أولية لتعريفات المصطلحات، ستكشف الإطار العام للحوار. فالعلوم ليست سوى تعريفات..هذه التعريفات هي المصطلحات.. لا اكثر ولا اقل.. فلنفترض أنك لست متخصصاً في القانون الجنائي..وسمعت حواراً بين محامييَن في قاعة المحكمة، من ضمنه مصطلح كالإسناد الجنائي. هذا المصطلح ليس ببساطة سوى أن أنسب الجريمة للمتهم مؤكداً (بالأدلة) أن الجريمة (كواقعة مادية) أحدثها ذلك الشخص (المتهم) أي أنني اسند الجريمة للمتهم. لكن المسألة قد تختلط بمصطلحات أخرى مثل (قاعدة الإسناد) في القانون الدولي الخاص: ومثالها أن صالح وهو سوداني اشترى منزل من بدرية وهي مغربية وتم توقيع العقد في بريطانيا، أما المنزل فمكانه سويسرا.. فأي قانون سنطبق؟ هنا سنلجأ للقانون المدني لنعرف أي قانون هو الذي نطبق، والمادة التي تحدد ذلك هي ما تسمى ب(قاعدة الإسناد)، والتي قد تنص على أنه في هذه الحالة يتم تطبيق قانون الدولة التي يقع فيها المنزل (سويسرا). فهي أسندت (أخضعت) الواقعة أو التصرف القانوني لقانون دولة العقار.
إذاً فالعلوم ليست سوى مصطلحات وتعريفات، حتى العلوم الطبيعية هي كذلك، فالتعريف هو قانون ينظم فهمنا لمصطلح معين او اسم معين فيضع حدوده المفهومية، فعندما نقول نظرية فيثاغورث، فنحن نعني تعريفاً لنظام حسابي هندسي معين. وعندما نقول ماء فنحن نعرفها بذرتي هايدروجين وذرة أوكسجين..
إدراكنا للمعرفة كتعاريف، يسهل علينا كيفية تجويد قراءتنا، السريعة أو البطيئة. ولذلك فإن أي بحث علمي يبدأ بتعريف المصطلحات وبيان مختصراتها.. بعد ذلك يتحرك البحث غالباً في حدود اللغة العادية Ordinary language.. كذلك يساعدنا هذا كثيراً عند الرجوع إلى محركات البحث على الانترنت، فمثلاً أثناء تصفح نظرية الكم أو فيزياء الكم، فإن موقع ويكبيديا يضع التعريفات والمصطلحات باللون الأزرق، وبالتالي سيضطر القارئ للعودة ثم العودة ثم العودة إلى جذور الموضوع عبر اللجوء للتعريفات، كمعرفة تعريف اللف المغزلي، أو الفوتون..الخ. ويفضل في البحث العلمي -بشكل عام- الإلمام بكل التعاريف اللازمة للمصطلحات ابتداءً فيما يتعلق بموضوع البحث، وهذا ما تقوم به القراءة الأولية عن موضوع البحث.
طبعا هذه المهارة مهمة خصوصاً عندما يكون البحث تركيبياً، أي متعلق بعدة حقول معرفية، مثلاً بحث عن المسؤولية الجنائية للمريض العقلي؛ فأنا رغم معرفتي بالقانون الجنائي إلا أن الطب العقلي ليس تخصصي، وهنا لابد من فهم ذلك العلم عن طريق معرفة مصطلحاته الأساسية. كذلك لو كان البحث عن التنظيم القانوني للهندسة الصناعية أو الأنسجة البشرية...الخ.. هنا أيضاً يجب على الأقل الإلمام بتعريفات المصطلحات والمفردات ذات الطابع الهندسي أو الطبي..الخ...
تساهم هذه البحوث التركيبية في تطوير البحث العلمي ونقله من نطاق الشروحات العامة للتعمق، كما تضيف ثقافة عامة جيدة للباحث.

الحياة كتعريفات: خادمة للبحث العلمي:
ليس البحث العلمي بمفرده هو الذي يعتمد على التعريفات، إن الأسطى الميكانيكي عندما يصيح لصبيه: ٢٤... فإن صبيه على الفور يعرف أن المقصود هو مفتاح أربعة وعشرين، وكلمة مفتاح نفسها يختلف تعريفها بحسب السياق الواقعي أو النصي، فالمفتاح عند الميكانيكي قد يعني مفتاح إدارة المحرك أو مفتاح الصواميل.. فلكل بيئة عمل تعريفاتها للمفردات، فعندما يقول محامي لسكرتيرته الطعن رقم كذا، فهو لا يعني الطعن بالسكين، بل الطعن في قرار أو حكم بالاستئناف أو النقض مثلاً، لذلك فإن الموظف الجديد يظل في حاجة لأسبوع على الأقل لفهم المفردات التي تفرضها بيئة العمل، بعد ذلك ينسى معاناته الأولى مع التعريفات وكأنها لم تحدث. كذلك البيئة المجتمعية، ليست سوى تعريفات في سياقات جماعية، فعندما يرغب شخص في الذهاب لشراء حاجاته ويقول صديقه: الصلاة.. فهذا يعني ضمناً تذكيره بأن الساعة الآن ساعة صلاة الجمعة وأن المحلات التجارية ستكون مغلقة، بدلاً عن أن يقول: لا تذهب..أو يقول: ليس الآن.. وهكذا تتضمن حياتنا وتداولنا اللغوي تعريفات متعددة..ومعرفتها تساعد على تجويد البحث العلمي، ويمكننا القول أن معرفتها تساعد فوق هذا على التعايش الاجتماعي كما تساعد على تطوير الآداب والفنون..فالرواية التي تنطلق من فهم لتعريفاتنا المعيشية تكون أكثر قدرة على تصوير بيئة العمل الأدبي.. وهكذا تبدو حياتنا تعريفات في تعريفات..ويمكننا -لذات السبب- أن نسبغ صفة الخبير على كل من لديه إلمام واسع بتعريفات لبيئة محددة..فسائق التاكسي الجديد ليس كالقديم، رغم أن السائق الجديد قد يكون أكثر مهارة في القيادة، ولكنه أقل إلماما بمصطلحات بيئة سائقي التاكسي..لذلك يمكننا وصف سائق التاكسي بالخبير في إطار بيئة العمل، أما من كان لديه ذات الإلمام بمصطلحات سائقي التاكسي ولكنه ليس سائق تاكسي فيكون مثقفاً. وهكذا تخدم الثقافة الباحث العلمي. سنجد ذلك في البحوث القانونية المتعلقة بعمليات الشحن البحري والجوي والبري، وعمليات البنوك، والاستيراد والتصدير، فالمحامي أو القانوني الذي لديه إلمام بمصطلحات تلك البيئات التجارية يكون الأقدر على كتابة عقودها أو فهم تعقيداتها أو اعرافها التجارية..وهكذا..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى