أمل الكردفاني- الجسد والرقص

إننا ككائنات وضيعة داخل كون مغلق (محتاز بقانون بقاء الطاقة)، وبالتالي فإننا محاصرون داخل الجسد فلا سبيل أمامنا إلى الفيض، فإننا نكثر الثرثرة، وهي وسيلة الريفيين لتعويض فراغهم الموضوعي. وإذا كان هذا حالنا عبر الكتابة فإنني كنت لأتمنى أن أملك نصيباً من الإستقرار الذاتي لأكتب مؤلفات تعويضية بحسب ما تتيحه حياتي القصيرة، غير أن كتابة مقال فقط تكاد تكون مسألة حياة أو موت، أو رهان على المجهول، فالثرثرة الصوتية أو الكتابية، لن تزيدنا انفتاحاً، ولن تمنحنا إمكانية تجاوز سياجاتنا السخامية. لذلك فهناك أساليب أخرى نبحث بها عن الفيض. وإذا كانت العنقاء والغول والخل الوفي هم المستحيلات الثلاث، فإن الفيضية هي المستحيلة الرابعة، والتي كلما حاولنا بلوغها، ازددنا انصماماً على الذات. إن الكُتَاب والحلاقين والنساء النكديات، هم أكثر من يمتلكون روح المراهقة الباحثة عن الفيض، غير أن للشباب أساليبهم البائسة بدورها والخطرة في أحيانٍ كثيرة، كقيادة السيارات بسرعات جنونية، وكتشغيل الأغاني بصوتٍ عالٍ، وكالشجارات، والقيام بحركات بهلوانية قد تكون خطرة، وهناك بالإضافة إلى ذلك الرقص. الرقص هو إنتروبي عالي للجسد. التمازق والتطاير والتشتت، في محاولة جادة لتجربة مستحيلة. لقد كتب العديد من العلماء حول فلسفة الرقص من زوايا متعددة، فتناولت ساندرا فرالي من جامعة بتسبيرغ عن هوية الرقص عبر ميتافيزيقا الحركة وألف أروضرا كريشناسوامي من جامعة ديلهي عن التئام الجروح وتغيير الحياة عبر العلاج بالرقص، وكتبت ميغان هول بكلية كولومبيا عن دور الرقص في علاج السرطان...وغيرهم الكثير..مع ذلك فنحن لن نتمكن من بلوغ الألوهية، مهما بترنا أذيالنا الحربائية للهروب من تفاهتنا. غير أن الرقص سيظل وسيلة هروبية، ليست إلى الأمام بل في المكان والزمان. ظل للرقص ذلك النزوع نحو التبدد الفيزيائي، ولذلك انتشر في رقصات البدائيين استجداءً لرضى الآلهة، وعند السحرة، والمتصوفة، وحتى الزار هذا الأخير المستورد من إثيوبيا إلى السودان ثم وصولا لمصر، التي استطاعت بإعلامها القوي، أن تمنحه شهرة إقليمية واسعة. وفي الوقت الذي اعتبرت فيه دراسات حديثة أن الرقص علاج سنجد، أن باحثين هما د.أحمد الصافي ود.سميرة أمين قد اعتبرا الزار مرضاً نفسياً يعبر عن هلوسة، في بحثهما المعنون بالزار والطمبرة في السودان..وربما هما قد تأثرا بالخلفية الدينية الرافضة للزار، لذلك لم يكن البحث بالعمق المطلوب الذي ينظر للزار من ناحيته علاجاً لاضرابات نفسية كما حدث في البحوث الغربية. سنجد أن اليوغا نفسها الآن باتت ينظر لها كعلاج، وكذلك أنواع أخرى من الرقص.
غير أننا لن نكون أكثر منهجية من هؤلاء العلماء، إننا هنا نثرثر فقط، نتحدث عبر التأمل من وجهة فلسفية تحليلية، لا يمكن أن ندفع بها لأعلى حيث التخصص الأدق وهو علم النفس، لأن ذلك حقلاً تجريبياً. فنحن كمثرثرين نمارس الرقص بالكتابة فقط. الرقص بالكتابة هو محاولات يائسة للفيض، ولا مانع أن يعتبر هلوسة كرقص الزار. لكن، وفي كل الأحوال، فإن الرقص يظل محتمياً بالانتخاب الجماهيري، حيث السالسا في أمريكا اللاتينية، والفالس النمساوي والبريك دانس والتوركtwerk، ورقيص العروس في السودان، ورقصات الزواج الجنسية في غرب أفريقيا، حيث يلتصق العريس بمؤخرة عروسه ليرقصا تعبيراً عن مرحلة قادمة معززة بالرغبة والخصوبة، ورقصات المطر والحرب والختان، بل ورقصات الموت، وقد شهدنا في السنة الماضية اشتهار فرقة جنائزية أفريقية راقصة.
كما أسلفنا فالرقص هو نزوع نحو الفيض والتبدد في الكون، وقد يكون ذلك سره كعلاج للأمراض النفسية والجسدية، ولكن المؤكد أن للرقص فلسفته، فهو تحدي الجسد للفوضى، إذ لا يوجد رقص بلا نسق وإلا كان ترنحاً وتخبطاً، لقد رأينا رقصة المخمور عند جاكيشان، ورقصة القمر عند مايكل جاكسون، ورقصات ترافولتا في أحد افلامه الشهيرة على أنغام فرقة بي جيز، ولذلك فلا نبالغ أن للرقص انتخابه الجماهيري الذي يجعله محمياً دائماً من شعوب العالم.
الجسد بذاته مقيد بمحدودية وظائفه، لذلك يكون الرقص اختلاقاً لوظيفة جديدة للجسد، لا تقتصر على جزءٍ واحدٍ أو عضوٍ واحدٍ، بل كل الأعضاء، ولذلك يمثل الرقص توحيداً للذات وتمركزاً للإرادة ومن ثم السيطرة، يفترض هذا أن الإنسان يعلن سيطرته على ذاته بمكوناتها المادية ودمجها بمكوناتها المعنوية. لذلك يمثل الرقص هوية صارخة، تشبه هوية (وهذا المني لي) في قصيدة محمود درويش. أي الملكية التي تعلن خصائص ذاتية متفردة ومتميزة، ثم ينتقل الرقص من ذلك الإعلان العنصري إلى الإنفتاح، ففي الرقص الجماعي، تتوحد تلك الذوات، معلنة لُحمة تتحدى الضعف الفردي في مواجهة ما يحيط بالإنسان من مخاطر، وحين يعلن الراقص الواحد عن ذاته، فإن الجماهير تستدعي تلك الرغبة الملحة في تملك تلك القوة نفسها، والرقص الجماعي هنا هو عولمة معنوية بروح متناسقة لا يمكن الحصول عليها من خلال الإتفاقيات السياسية والقانونية أو المعاهدات أو المناورات العسكرية، فكل هذه الأخيرة قابلة للتقويض والخيانة لأنها ليست منبثقة عن تحرر خلافاً للرقص الطوعي. إن الثقافة بذاتها تتضاءل بل وتتقزم وتتلاشى في الرقص الجماعي، حتى عندما تكون الرقصة الجماعية رقصة لها هُوية جماعة نووية. لأن شكل النسق الديناميكي لا أهمية له بقدر أهميته كتعبير، أو علامة للفيض والتحرر، وهو بالتالي علامة عالمية. رقصات البريك دانس Breakdance على موسيقى الراب منتج أمريكي ظهر في الثمنينات فأحدث قفزة في مفاهيم الرقص، إذ عكس تحولات عالمية، كالتقنيات الروبوتية، واللدائنية والفضائية عبر الحركة المتصلبة تارة والمرونة، والسباحة البطيئة، وازداد عنف الرقص ليقترب من البهلوانية، تعبيراً عن وحشية العالم الحديث، عن قسوته، واحتياجه للقوة أكثر من العصور السحيقة حيث كانت الديناصورات والوحوش تهديداً أقل مما عليه الحال الآن. وكان الرقص الأمريكي سلاحاً لليبرالية في مواجهة الكلاسيكية والأصالة والقومية. وقبل ذلك كان للرقص الهندي رمزياته الروحية والرومانسية، حيث كل حركة تقوم بها الراقصة تعد رسالة للمحبوب أو للآلهة. أما التوريك فهو رقص بتحريك الفتيات لمؤخراتهن متتبعاً الإيقاع الموسيقي. قبل ذلك-وليس بالكثير- كانت رقصة الإلتواء أو التويست Twist والتي اعتبرت رقصة بذيئة في ذلك الزمن، لتعكس انتصار الولايات المتحدة الامريكية كحلم بالحرية، فتنتشر الرقصة في العالم بأسره، ويكون الرقص السلاح الذي هزم الإتحاد السوفيتي الذي فشل في تحريك العالم على ذات مستوى الإعلام الفني وإعلام التسلية الأمريكي. ومن هنا بدأت أمركة العالم على نار هادئة وأجساد حارة.
يبقى تحالف الرقص والجسد تحالفاً وثيقاً، لأنه رابط للإنسان الفرد بعالمه، بمفاهيمه الروحية والسياسية والدينية، فهو بالتالي يظل راتباً طقوسياً للغيبيات والوضعيات على حد سواء وإلى الأبد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى