عباس عبد جاسم - إعادة تعريف الكتابة الروائية

تعرّضت واقعية السرد إلى تكسير متدرِّج، لدرجة لم يعد يتطابق فيه السرد مع الواقعية، لأن العالم الذي يحيط بالرواية ويشتمل عليها قد تغيّر فعلاً، وصار التشظي والانقسام من أهم سماته القارّة، فاختلط الثقافي بالاجتماعي، والثابت بالمتحوِّل، حتى انهارت الحدود التي كانت قائمة بين الرواية والأجناس الأدبية الأخرى.
كما انهارت الحدود الفاصلة بين الواقعي والتخييلي/ الممكن والمحتمل/ المرئي واللامرئي/ العرضي والجوهري، حتى صارت كتابة الواقع، تثير في واقع الكتابة، الشك والتساؤل والاستفهام من حركة العالم ومصير البشرية، وبذا لم يعد ممكناً تقديم هذا الواقع بوصفه واقعية قارة. ورغم تغيّر مفهوم الواقع وتبدّل أنماط الحياة، وتغيّر مفهوم السرد وتبدّل أنماط الكتابة، فإن الواقعية لم تتغيّر بما يوازي حركية هذا التغيير، فتراجعت حتى تحوّلت إلى «واقعية رثة».
إن فهم الواقع المتغيّر يفترض طرقاً جديدة لاستيعاب التغيير أو التوافق معه في الأقل، ابتداء من ظهور الإشكالية الفلسفية الجديدة للفيزياء الكوانتية، التي تحوّلت فيها الواقعية وتبدّلت إلى واقعية رياضية، ثم انحلّت الواقعية الرياضية إلى واقعية احتمالية، كالموجة في النظرية الكوانطية بوصفها مستوى معيناً من المعرفة البشرية، وكيف ينبغي أن يغتني الواقع بتطور هذه المعرفة، حتى أن ميكانيكا (الكوانتم) لم تفضِ إلى واقعية جديدة نتيجة التطورات المذهلة التي حدثت في العلوم الجديدة، بدلالة تحرّر فلسفة العلم من التمركز حول فيزياء (الكوانتم)، أو كالطفرة في جين معين مصحوبة بالتغيير الحاصل في أنزيم معين أيضاً. لهذا يمكن التحرّر من الواقع الخام، بواسطة المعرفة، ليس لأن المعرفة مصدر قوة في الاكتشاف، والتأسيس لبنى واقعية جديدة، وإنما بوصفها المهمة الثقافية لتجاوز أسلبة «الواقعية الرثة» مع الاحتفاظ بالواقع من دون التفريط بجوهر بنيته الخفيّة»(عباس عبد جاسم/ نقطة إبتداء في الحداثة والتحديث والنقد الثقافي).
ويستدعي تحوّل الرواية من بنية إلى أخرى، إعادة تعريف الواقع استجابة لما يجلبه التحوّل من طرائق جديدة في تقديم الواقع بسمات جديدة أيضا. وإزاء تعرض (مرآة الواقع) إلى المزيد من التهشيم: ما جدوى انعكاس الواقع في المرآة؟ إن الرواية ليست سرداً، وإن كانت إحدى مجالاته الحيوية، فقد اضمحلت فكرة السرد المنغّم بالواقع، إن لم أقل مات السرد المحبوس بالواقعية، وبذا لم يعد نافعاً للرواية، وإلاّ ما جدوى محاكاة السرد للواقع؟ إذن لا يمكن إعادة تعريف الكتابة الروائية، من دون خرق واقعية الرواية، وزحزحة واقعية السرد بجماليات جديدة لا تحاكي الواقع، وإنما تبني واقعاً آخر عبر التخييل، وصولاً إلى الطبقة اللامنظورة من الواقع أو المسكوت عنها. لقد انتهى طور المرآة، وانتهى الحتم مع تفكّك اليقين وانهياره، حتى أصبحت الواقعية، «تخليص الواقعي من مبدأ واقعيته»(جان بودريارد/ التبادل المستحيل) والانفتاح به على مستويات الواقع الأخرى. وهنا تقتضي الضرورة استبدال السؤال الذي طرحه كارلوس فوينتيس، هل ماتت الرواية ؟ («جغرافية الرواية» كارلوس فونيتيس).

نعم.. مات السرد، فعلاً في عصر المعلومة والشيفرة والأتمتة والميديا وتكنولوجيا الاتصالات، قبل انهيار الرواية الواقعية بمصادراتها الإنسانية عند ديستوفسكي وبلزاك ونجيب محفوظ، وتهشّمت مرايا الواقع بـ(نظرية الشواش) و(تشوّش الحواس الإنسانية)، حتى لم تعد الرواية تُعنى باليقين والوثوقية، وفقه الضرورة برؤية العالم وتشريح تفاصيله في الواقع، حتى أصبحت الرواية جزءاً من عالم متغيّر يحاكي ذاته، بل لم تعد الرواية «مرآة تسير في الطريق» مثلما وصفها ستندال في مقدمة روايته «الأحمر والأسود» (مفاهيم نقدية/ تأليف رينيه ويليك). صحيح أن الواقعية كانت نتاج هزات اجتماعية: الثورة الصناعية/ انتصار البورجوازية/ الحس التاريخي الجديد/ حتمية العلم الذي زحزح ربوبية القرن الثامن عشر، ولكن من عيوب نسق الواقعية المضمرة: «الخلط بين الرواية والمرآة والحتمية، في حين أننا «نعيش في عالم قائم على معادلات غير حتمية» (بوريس بورسوف/ الواقعية اليوم وأبداً).
ومنذ العصرالصناعي أخذت الواقعية تضمحل وتتلاشى تدريجياً، بعد أن انقسم الانسان في بعده الواحد على ذاته، ثم اختلط بالآلة، وتماهى مع الهوية اللانهائية، حتى أصبحت «الحدود بين الإنساني واللاإنساني في طريقها إلى الإمّحاء، ولكن ليس باتجاه الإنسان الأعلى وتحوّل القيم، وإنما باتجاه الإنسان الأدنى إلى ما هو دون الإنسان، بل حتى نحو اختفاء الخصائص المميزة للنوع»(عباس عبد جاسم/ نقطة إبتداء في الحداثة والتحديث والنقد الثقافي). وقد آل مصير الواقعية إلى تشقق السرد وتفكّك واقعية السرد، لدرجة لم تعد تحتفظ الواقعية بعناصر القوة والتحدي والبقاء، بما يجعلها متجدّدة مع حركة الواقع. لقد اعترفت ناتالي ساروت، بأن الإنسان المعاصر ـ أكثر تعقيداً من إنسان القرن التاسع عشر، وإن وسائل بلزاك، وحتى تولستوي لم تعد نافعة لتصوير كل دقائق حياته النفسية (بوريس بورسوف/ الواقعية اليوم وأبداً). ولم يتوقع بوريس بورسوف ما آل إليه مصير الواقعية الاشتراكية و»كيف خرج كُتّابها على النظام الاشتراكي وتمرّدوا على الواقعية الاشتراكية»(عباس عبد جاسم/ نقطة ابتداء في الحداثة والتحديث والنقد الثقافي).
وبعد أن استنفدت الرواية الواقعية في منعطف القرن العشرين كل إمكاناتها بوصفها نوعاً، أصبح من الضروري بلسان فرجينيا وولف: أن (نبتكر) نوعاً جديداً من الكتابة الروائية (جماليات ماوراء القص/ دراسات في رواية مابعد الحداثة). وإن كان العالم قد تغيّر، والرواية قد تطوّرت، فهل بإمكان الرواية الأكثر واقعية أن تتطور بطرق غير واقعية؟ لا أشك في ذلك، ولكن من الضروري تجاوز الواقع بعد الانغمار به، خاصة أن «التجاوز هو احتفاظ بالواقع، وإنهاء لحالته التي كان عليها قبل التجاوز بتغيير أو تطوير أو تشكيل جديد، وبوجه خاص بخلق تركيبات جديدة»(مبارك ربيع/ الواقع والواقعية الروائية/ مجلة الآداب).
ويمكن أن نلحظ أن الرواية دخلت في عالم جديد من الانشعال بذاتها ـ كالانشغال بوظيفة الراوي ودوره، وكيفية تمثيل السرد لمستويات الواقع بأصوات متعدِّدة من غير الإخلال أو التشويه بين الشيفرة والرسالة من جهة، وبدرجة لا تقل عن الانشغال بتحوّلات العالم من جهة أخرى.
وفي هذا العالم «لم يعد ممكناً اللجوء إلى بنية نسقية ذات تطور منطقي» و»لم يعد الخاص انعكاساً للعام، بل أصبح نوعاً من الصدام المستمر، بعد أن استحال التوفيق بينهما»(صبري حافظ/ نقل المركزية الروائية وجماليات سرد مابعد الحداثة/ بحث مقدم إلى مؤتمر القاهرة للابداع الروائي/ 1998). إذن الكتابة الروائية تجاوزت (طور المرآة) و(انعكاس الواقع) بجماليات جديدة قائمة على تقويض واقعية السرد بقوانين عمل جديدة أكثر استجابة لتناقضات الواقع وتمثيلاً لجماليات الحياة المعاصرة.

٭ ناقد وكاتب من العراق
أعلى