طاهر الدويني - في سايكولوجية الكراسي

كرسي الحلاق – في العادة – وثير لا تنقصه الوجاهة ولا الراحة، وفوق ذلك كله فإنه يشعرك متي أسلمت نفسك للحلاق بأهميتك، فمن خلال بتنسي لك أن تري عبر المرايا المثبتة أمامك وخلفك تقاطيع وجهك وتضاريس رأسك في مختلف الأوضاع من الأمام والجانبين ومن القفا أيضا، يزيد من أهمية كرسي الحلاق وقوفه ذاته وهو ينكب علي رأسك أو ذقنك يشدها أو يقصرها أو ينعمها بالعطور أو المراهم.

أثناء الحلاقة لابد وأن إحساسا ما قويًا تشعره يكبر في داخلك، إنك إنسان ذو أهمية خاصة حتي لو كنت في قرارة نفسك لا تملك القناعة بأنك أهل أو تستحق هذه المكانة، تستطيع مثلا أن تملي الأوامر للحلاق باختبارك لنوع القصة التي تروق لك ونوع التسريحة التي تحبذها والمقدار الذي ترغبه من قص شعرك وأن بغير الموس أو الشفرة إذا ما عن لك ذلك.
والحلاق بالطبع لا يملك إلا أن يمتثل لما تأمره به وكل هذا بالطبع نظير أجرته المتفق عليها، وهو يقبل ولا يناقش لأنه يعتقد لا شعوريا بأن ما يقوم به هو من صميم عمله وواجبه مفترضًا من الأساس أن زبونه علي حق طالما سيدفع الأتعاب، وهذه السيكولوجية بالطبع يرفعها الحلاقون من باب الغريزة في كل أنحاء الدنيا ولذا فهم لا يجادلون الزبائن
إن امتثال الحلاق لما تأمره به يعكس من جانب آخر وهو ما تحسه أيضا بأنك تملك الحلاق ذاته والكرسي أيضا، لكن هذا الإحساس بطبيعة الحقائق لا يدوم طويلا فبمجرد اقتراب الحلاق من الانتهاء من عمله سرعان ما يتبدد هذا الوهم لتعود من جديد لاكتشاف أنك لا تملك الكرسي ولا صاحبه، وأن كرسي الحلاق عمره قصير، ولأن الجميع يدركون هذه الحقيقية فلن يعود بوسع أحد ممن يجلسون علي كرسي الحلاق البقاء فيه لا الحلاق الذي ينتظر الزبون التالي ولا الزبون الذي لابد أن تكون له مشاغل أخري يود إنجازها بعد الانتهاء من مراسم الحلاقة.
هذا ما يتعلق بكرسي الحلاق وسيكولوجيته، لكن كرسًا من نوع آخر يملك سيكولوجية خاصة تشد المرء إليه حتي ليتمني أن يجلس فيه وعليه إلي الأبد ، إنه كرسي ساحر مغر، وما أكثر هؤلاء الذين يقعون تحت سحره ويفتنون به أكثر من افتنانهم بالغيد الحسان، بل أكثر من أي شهوة في الحياة الدنيا.
الأسباب التي تدفع مثل هؤلاء الناس إلي التشبث بهذا الكرسي أكثر من أن اعد أو تحصي علي أن أهمها علي الإطلاق هو تلك الهالة التي يسبغها الكرسي علي من يستحوذه ممزوجة بذلك الاحترام المصطنع قبل الآخرين فضلاً عن حاجة الناس للخدمات والمصالح التي يفترض أن يهيئها من يجلس علي الكرسي، أو التي يجنيها لنفسه من خلالها
ثمة إذن قيمتان لصاحب الكرسي، قيمة مادية وأخري معنوية يصعب الفصل بينهما والإشكالية هنا حين يرتاح صاحب الكرسي إلي هذه الوضعية ويبني حساباته علي أن بقاءه من الثوابت التي لا ينالها التغيير أو حوادث الزمان وحين يقبل بصورة أو بأخرى أن يعامل من قبل الآخرين علي أنه والكرسي شيء واحد أو وجهان لعملة واحدة
ولعل أبلغ تعبير في هذا الصدد ذاك الذي أورده الإمام علي كرم الله وجهه حين قال: من ولاها (الولاية، المنصب، الإدارة) وهي أكبر منه كبرت في عينيه ومن ولاها، وهي أصغر منه صغرت في عينيه .
بهذه الكلمات الموجزة بالغة الحكمة يلخص لنا الإمام علي، مشكلة الكرسي وأصحابه وكأنه يريد أن يقول لنا: إن المقياس دائما هو الإنسان، فمتي كان صغيرًا في نفسه ركن إلي المنصب وغرته تلك المباهج والأوهام التي بصنعها ومتي كان كبير النفس عالي الهمة لم يترك فرصة لتلك الأوهام أن تستحوذ عليه وتسرقه من نفسه التي يعرفها أكثر من غيره.
بقي أن نقول إن لصاحب الكرسي تواريخ ثلاثة، قبله وأثناءه، وبعده. الأول يعرف فيه نفسه حق المعرفة ويدرك أنه مخلوق من طينة البشر، والثاني ينسب فيه نفسه ويكاد يصبح في مصاف الآلهة، والثالث مكان بين البشر والآلهة يعبش كالبشر، لكنه يتذكر ماضي الآلهة وبجتر تاريخه السابق.
سيكولوجية الكراسي معقدة وصعبة الفهم. ألستم معي؟ ومع ذلك فثمة من عصمهم ربهم من استحواذ الكراسي عليهم وما أقلهم .
*عن sudanyat-org

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى