محمد المخزنجي - وسط الزحام… قصة قصيرة

امرأة نحيفة متلففة بالسواد تحمل سلة على رأسها في زحام الشارع التجاري الكبير، كأنها تراني بظهرها، وكأنني أطاردها وهي تهرب مني، إذ كلما اقتربت منها، عفوا، وأنا مسرع في طريقي، تسرع، تروغ مبتعدة، وتداري عني وجهها.
إنها أمي!


أناديها: ” أمة. يا أماه ” وأمسك بها محاولا إنزال السلة، لأحملها عنها، لكنها تلوذ مني بالفرار. ما أغرب ذلك! لقد كنت معها في البيت قبل أن يخرج كلانا، ولم يصدر عني ما يغضبها. ما أغرب ذلك!
ترد يدي بعصبية لتمنعني من أخذ السلة التي ألمح داخلها “قراقيش حبة البركة” التي أحبها مع شاي الإفطار.
تهتف أمي هامسة، وكأنها توشك على البكاء إلحاحا: ” روح أنت يا بني في طريقك. روح أنت “، وتدهشني إذ ترفع صوتها، كأنها تجيب على سؤالا لي – لم يحدث – عن مريض أعالجه: ” سألت عليك العافية يا حضرة البيه الدكتور. يا أكبر دكتور. علاجك جاب الشفا من أول يوم “، وكانت وهي تقول ذلك تنفض عن صدر قميصي – بسرعة وحذر – قشة لا تكاد تبين، ثم وهي نافذة الصبر تهمس، متوسلة، دون أن تفلت السلة أبدا: ” يا بني روح أنت في طريقك وسيبنى، هدومي مش قد كده يا ضنايه “.
أشد من يدها السلة، لكنها – هي الضعيفة ضعف دجاجة عجوز – تغلب يدي، وتنفلت. لا أعرف هل غيبها عن عيني الزحام الذي أسرعت تغوص بسلتها فيه، أم حجبها عن بصري ستار دموع طبيب امتياز صغير، يومها، مضى . . يجرفه الزحام.


من الكتاب القصصي: رشق السكين




أعلى