إيهاب الورداني - الخروج.. الى مجول.. قصة قصيرة

يحدث لك ، إذا كنت متزوجا مثلى ، ومن قريتى ، وعائدا كما أنا من تلك التى تسمى .... خالى الوفاض : أن تضيق في لحظة ما من ساعة ما في يوم ما . تنقبض. ثم تختنق . ثم ، قبل أن تصل إلى درجة الغليان ، تؤثر راحة الدماغ والإذعان في صمت لآخر يسحبك .. يخرجك .. يرميك في الفراغ . تحملق في العتمة . يقشعر جسمك من تتابع موجات باردة تلطم وجهك ، وتنفذ من فتحات ثوبك الكستور الأغبش إلى مسامك . أشباح هائلة ، تغيم تفاصيلها ، تجري في عينيك . مبان وأشجار وبراح . وقريتك لم تنم بعد . جوار ضريح سيدى نصر غريب قابع في الركن مقرفصا غلبه النعاس فنام. تواتيك غصة فتبلع ريقا مرا ناشفا . بعد أن تقترب منه تتردد ، ثم تمضى . تسمع امرأة تناوش زوجها ، وطفلا يقهقه . تخور بقرة في زريبة بعيدة ، وينهق حمار ، تكتشف جهلك بناسك وأزقة قريتك . تحاول الابتعاد عن وسط البلد المعروفة لك ، تمرق في شارع "البهايتة" .... على مصطبة أمام بيت عتيق لم تطمس نقوشه بعد ، ينتمى لعائلة كانت كبيرة ، نقر غير قليل ، نالوا قسطا من التعليم ، يدخنون ، ويتجاذبون أطراف السياسة ، ما بين مؤيد ومعارض ولاعن للأيام الخراء . وما ان يروك حتى تعقد ألسنتهم آخذة في الخفوت . تميل يسارا . تدخل في زقاق ضيق ملتو . ينتابك يقين أنك فى سرداب عتيق مغبر . راغبا في التواصل تمضي . تحاول أن ترى : ليست مجول ما ترى !! كانت زوجتك بعدما أسرفت في اجتماعات الأدب ونواديه ، تحتج ، وتنبهك إلى ما آل إليه حالك ، مما زادك في عنادك . عكفت في حجرتك مدفوعا بنبش الذاكرة ، وكونت من نفسك مع نفسك مجلسا أعلى عليه حل المعضلة .... تكاد لا تسمع صراخها : تشكو أمك تتعارك مع سلفتها . تندب حظها حتى عندما تحيل عليك الأولاد تسرع في الهروب .. ترى أيهما يشبهك ورد أو ريحان . ؟؟ ورضاب ابنتك كم تبلغ من العمر الآن ؟؟ هل تزوجت وأنجبت وتلون شعرها بالحناء كما تفعل أمها ؟؟ يتمدد الوقت . يحط داخله ثقل . ثمة كلب وكلبة متضامان من المؤخرة ، تفح عيناها التماعة ، رغبة . يطن في أذنيك صوتت مذياع قريب . تصغى الى نشرة الأخبار : احتمالات متغيرة لتأثير أزمة الخليج . غاضبا توغل في الطريق . لا فرق ، حينما تخلط الأوراق ... تبصق قرفا لزجا ... في وسعاية " اللاشينا " ينكمش الزمن . يتداخل : بيوت عالية مهجورة ، جدران متهدمة ، حجر طاحونة تهشمت زواياه . يقف شعر رأسك . كانت أمك تقول : " الخرابة مسكونة ". تمسحها الآن بنظراتك ولسان حالك يقول : " لا يا أمى .. نحن الغلابا المسكونون " تفوح رائحة لها طعم الليل والزرع ومجرور سيدى الأربعين . تأنس جلبة .. وحين تقترب ترى عيالا في حمأة اللعب، عصبوا عينى أحدهم منهم ، لتعصب من جديد عينا الممسوك. تمشى ، وتمشى ، وتمشى .. تعبر الطاحونة ، والصهريج العالي . على مقربة يطالعك النهر ، تغرز عينيك فيه ، لا ماؤه توقف عن الانسياب ولا ارتد البصر إليك . تنزلق أسئلة كثيرة في شرايينك ، تتجمع في حوصلة قلبك ، لماذا لا تتوقف ؟؟ تركل الأرض بقدمك : ثلاثون عاما مضت ، قضيتها ، تصالح مع من حولك . تحاول أن تعصب عينيك ، تأكل من حشائش الأرض تبول على المدار .. ما جدوى أن تعرف ؟! الصدى مطارق تنزل على أم رأسك . هاهى المقابر أمامك ، قدام أنفك . وقريتك ملقاة، في الظهر ، خلفك .. ادخل .. تنحرف يمينا . تدخل أول شارع .. الموتى مرتاحون .. عيون كثيرة تطل عليك ، تقيسك من رأسك لساسك ، الموتى لا يرون ... يمنعك حياؤك من الوقوف . تتحرك ببطء . يرتشق صوت مسامير فى جلدك . الموتى لا يتكلمون .. بالتأكيد ليس المقصود أنت ، ربما غيرك تتلفت حواليك . تسمع خشخشة أعواد القش ، وصفير ريح ، وعواء نسوة .. لا يمكن .. لا غيرك .. تكاد لا تقوى على حمل نفسك أو تصلب طولك . يلتجم لسانك .. فقط تنظر .. مبهوتا بما ترى لا ورد ولا ريحان فوق ظهرك يمتطيان الحصان العجوز ويضربانه على مؤخرته ، وقفاه ولا هما يشبهانك : ما جدوى أن تعرف ؟! جوار فتحة مستديرة مدفوعا أنت لها ، تقف امرأة لها ملامح طفلة تحضن ولديها وعلى كتفها كومة لحم لها شكل بنت ... كانت ترتدى السواد ولا تبكى . ترى هل عدت ؟؟؟



إيهاب الورداني
من مجموعة على باب ناعسة
أعلى