محمد مستجاب - هروب.. قصة قصيرة

قمت مبكراً فاتضح لي أن حزني لايزال حارقاً، اغتسلت بالماء والملح ودعوت على رئيس التحرير بالدمار، كانت أمي تقول لي: الدعاء بهذه الطريقة يصبح نافذا. احتسيت كوب الشاي وعدت إلى الدعاء على رئيس التحرير بالدمار من جديد، كنت قد قررت أن أزحم السماء بالدعوات علّ واحدة منها تخترق الحجب وتنزل صاعقة فتلف جسده بقماش أبيض وسوائل مطهرة بأوراق الجريدة في يوم العدد الأسبوعي، ذي الصفحات المكتظة، ونزلت إلى الشارع.
دهمني إحساس أن أفصل بيني وبينه هذا اليوم، أي أن ألجأ إلى حديقة أو مقهى أو دار سينما، فليس من المعقول أن أترك رئيس التحرير في العاشرة مساء ثم أدخل عليه – ومازالت متورما مخنوقا في العاشرة صباحا. يوم واحد يتيح لي أن ألتقط أنفاساً وأرى شجراً ووجهاً حسنا وبقعة مياه ولو كانت في مساحة بركة صغيرة، والصباح لايزال مبكرا وكوب آخر من الشاي في المقهى المختار قد يغير من الأفكار الحارقة. غير أني لم أعبر الشارع، فقد كان المقهى المختار مغلقاً، وبعض الأفراد الذين أعرف وجوههم يرصون الكراسي أمام المقهى المغلق، ولما كنت من زمن لم أذهب إلى حديقة الحيوانات فقد أراحني أن أتحرك إلى الشارع الكبير بحثاً عن مواصلة للحديقة. ثم لم ألبث أن فكرت في السير على الأقدام، كي أذيب ملح التوتر من الأعصاب، وكي أهلك وقتاً آخر، لكن رئيس التحرير ظل راكبا فوق أكتافي، وقد هززتها مرات لأنفضه عني، وخشيت أن أظل أهز أكتافي فلا أستعيد ثباتها، وكان بعضهم ناظرني مرات أثناء عملية الهز المتوالية، فشعرت بحرج، بل توقفت كثيراً، وأحسست بأن الأمر لا يعالج بهذه الكيفية، وكنت –في وقت آخر وفي قصة أخرى-قد قررت أن أقتل رئيساً آخر للتحرير، ولم أفعل شيئاً. وجاء بعده صف من رؤساء التحرير، وضايقني أنهم يأتون في كل مرة لصالحي لكنهم – وبمجرد الاحتكاك – تبدأ تروسي تطقطق في تروسهم، حتى إن المؤسسة تضيق دائماً بهذه الطقطقة. كان صوت الطقطقة مزعجا، ولم أكن صالحاً للقتل ولا للتعالي، ولا للنسيان، ولا للمرح، فكانت جهودي في التوافق معهم تضيع، حتى إن بعض هذه المحاولات تحول إلى نفاق واضح وسخيف. عندما وصلت في تفكيري إلى هذه النقطة أيقنت أن الأمر لا يعالج في حديقة الحيوانات، أو في المقهى أو في السينما، وكانت الحديقة اقتربت بسورها المنمق بالحديد المدبب وخشيت لو اقتربت من بابها لوجدته مغلقاً. لأن لو ذلك حدث فسوف أحس بالتواطؤ ضدي، أي تترسب في كياني أن رئيس التحرير وراء إغلاق هذه الأبواب، فاضطررت أن أتحاشى ذلك وابتعدت عن أي من أبواب الحديقة بل وأبعدت نظري عن الأبواب واستبعدت بالتالي – فكرة اللجوء إلى السينما. وهالني أنني أحسست بالراحة وأنا أدور حول نفسي غير قادر على توجيه جسدي وجهة معينة حينئذ، وفي مثل هذه المناسبات أو الأحوال، تطفو على الذهن الغائص في الرغبات القديمة، امرأة أو بنت، رحلة صيد تطارد فيها الغزلان المنهكة، حريق تنقذ فيه جميلة الجميلات، ثم تمتلكها، نقود كثيرة تشتري بها قصراً ونساء وبحيرة، نقود أكثر تشتري بها جريدة.
مرة أخرى بدأ رئيس التحرير يهز أقدامه فوق أكتافي، سأستبعد الجريدة من الأمنيات، جناحان أطير بهما فوق المدينة وأخترق أجواءها الضبابية، فتح يا أعمى، الله يخرب بيوتكم، وكان الصوت غاضبا والسيارة تكاد أن ترتطم بجسدي، جريت محرجاً وغاضباً والغزلان تخترق الحرائق وتقفز أسوار القصور والبحيرات، فتح، يا أعمى الله يخرب بيوتكم، وكان الرجل سقط على الرصيف وتناثرت أرغفة الخبز في اضطراب.
استندت على الحائط. ظللت أمعن النظر في العابرين وكانوا قلائل، واحد منهم مر ثالث مرات متوالية، وآخر كانت عينه في عيني، اقترب مني-وهو لا يزال ممعنا-وطلب مني ورشق سيجارة في فمه-عود كبريت وضعت يدي في جيبي بحثا عن الكبريت ثم تذكرت أنني لا أحمل الكبريت. لماذا؟ لأنني لا أدخن، وضع يده على كتفي وسألني، في هدوء شديد، لماذا أقف هنا؟ لف ذراعه حولي –في هدوء وقوة-وقال وهو يبتسم: أنه يريد أن يرى بطاقتي الشخصية لأنه يشتبه في شخصي، كنت قد تحركت معه، نزعت ذراعه من جسدي غاضباً وقلت في هدوء ذي عصبية مكتومة:
أنا صحفي.
قال: أريد أن أرى إثبات شخصيتك.
قلت: مدافعا عن حقوقي: وأنا أريد أن أري إثبات شخصيتك، أليس هذا من حقي؟
من حقك بالطبع، وأخرج بطاقته وعليها صورته متوجة بنسر الشرطة، لكني –حينما عدت لأضع يدي في جيوبي-لم أجد أيا من بطاقاتي، لا الشخصية ولا كأرنية النقابة، أعوذ بالله منك يا أخي، وكنا قد وصلنا إلى سيارة بجانبها شخصان، وطارت بي السيارة لتضعني في مركز الشرطة.
في أخر نهار ذلك اليوم جاء رئيس التحرير بشخصه إلى قسم الشرطة مبتسماً كعادته، متململا كعادته، ورمقني بعيون صياد يوقع أوراق استلامي. سرت خلفه، سرت في نشاط أليم خلفه فانحنيت، فتسلقني بجسده القوي، وبدأ يهز أقدامه فوق أكتافي.



محمد مستجاب
- من مجموعته القصصية الحزن يميل للممازحة-
أعلى