أمل الكردفاني- المأزق الديني..جهد سياسي أم تطور طبيعي

الأيام السابقة بدأت قراءات في التاريخ الأوروبي والأمريكي على حد سواء، ذلك أنه لا يمكنك فهم الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأمريكي دون العودة إلى أوروبا..قراءاتي كانت سببها قانوني محض، ثم اكتشفت أن الواقع القانوني الراهن نفسه ليس بمعزل عن حركة التاريخ بكل كثافتها الآيدولوجية والاقتصادية. لذلك نشأت العلوم الجنائية الحديثة واهمها حاليا علم الإجرام الثقافي cultural criminolofgy. والذي سيسوقني بآلة الزمن إلى الماضي أي حوالى القرن السادس عشر (١٥٠٠) وحتى اليوم.
لكنني لا أحب تسريب كل أسرار التاريخ دفعة واحدة، لسبب مهم وهو أن تلك الجرعة قد تكون قاتلة لثقتنا في الإنسانية وفي حريتنا وإرادتنا ومن ثمَّ حركة التاريخ، فالوعي يخلق إضطرابا نفسياً مدمراً للإنسان.وأكثر من يتعرضون لذلك التدمير هم المخلصون لآيدلوجياتهم، حينما يكتشفون أنهم قضوا سنيٍَهم في ملاحقة الوهم. عليه فإنني لن أمنح إجابات مشبعة لذلك التساؤل الخطير جداً حول أزمة الأديان اليوم، هل هي جهد سياسي (صناعي) أم تطور طبيعي (خالص الإنسانوية)؟
واقصد بالإنسانوية الخالصة التطور الهيجيلي او حتى الماركسي الطبيعي في فهمنا وتفاعلنا مع المعطيات، كالانتقال من مجتمعات الالتقاط للصيد للرعي ثم الزراعة وحتى الصناعة، وكذلك الحال في تطورنا الأدبي كتطور ذلك المسرح اليوناني إلى الرومانسي وحتى البرجوازي فالشعبي وصولاً للمسرح الطليعي والمسرح البديل (الرقمي). ذلك هو التطور الطبيعي، وهو المضاد للتطور المصطنع أي التي تحدث فيه قطيعة متعمدة تخلق فراغات وتحرف مسارات الحركة الطبيعية للصيرورة البشرية.
دعنا نوجه السؤال لحقبة ما بعد الاستعمار، والتي ظهرت فيها بقوة وقسوة في نفس الوقت محاولات الإصلاح الديني والخطاب الديني والتي لم تتبلور كزمرة ذات نسق واحد. ولا زالت مشتتة وغير قادرة عل لملمة مجهودها كتيار او كمذهب، ورغم ذلك سنلاحظ ترنح التيارات (الكاثوليكية) القديمة، ثم بروز تلك الارثوذوكسية الأخلاقية واخيرا الوقوع في بروتستانتية حديثة تشمل كافة الأديان ومن ضمنها الإسلام. تعرضت الأديان لضربات متلاحقة، تلك العشوائية، وتلك المعتمدة على السلطة كالحرب على الإرهاب منذ سقوط الإتحاد السوفيتي،وكالتحولات (السريعة والمفاجئة) في المملكة العربية السعودية. هاتان حالتان محتاجتان للدراسة المتأنية. وربما تكون الحالة السعودية أجدر بالدراسة بعد أن قادها ولي العهد محمد بن سلمان فسدد ضربات قاضية وسريعة للتيارات السلفية. وهذه الضربات لم تؤثر فقط على الشعب السعودي، بل امتدت لتؤثر على باقي دول الخليج، ومن ثم سقوط النموذج السلفي من عليائه في الدول الإسلامية والعربية الأخرى في إفريقيا وشرق آسيا والشرق الأوسط.وربما كانت تلك الضربات ممهدة لامتصاص أي ردود فعل عنيفة في عمليات التطبيع مع إسرائيل..

الصانع والصناعة:
هناك صانع أساسي لمشروع الكبح الديني وهي الرأسمالية التي انتصرت إثر الثورة الصناعية..لقد انتجت البرحوازية عدة قيم في مواجة القوى الارستقراطية القديمة ومن تلك القيم:
١- العلمانية.
٢- الدموقراطية.
٣- إنهاء العبودية.
٤- التجاروية الزراعية.
٥- الفردانية.
٦- مركزية الإنسان.
قد تبدو تلك المنتجات الستة متباعدة عن بعضها، ولكن هذا غير صحيح، فكل هذه المنتجات (القيم الصناعية) تتراص وتتكامل لتخدم بشكل كامل السيطرة البرجوازية.
كان من الواجب إنهاء العبودية التي أصبحت عبئاً على الدولة الصناعية، أذ أضحت الآلة تؤدي ذات غرض العبد. العبيد مكلفون (مأكل ومشرب وحراسة)، فضلاً عن أن العبيد يخدمون الطبقة الارستقراطية ويزيدون الاقطاعيات الزراعية (كان لابد من تجاروية الزراعة
Mercantilism)،
كمضاد للإقطاعيات القديمة، وهكذا تم تبني الثورة الزراعية في هولندا ثم بريطانيا فأمريكا كمدخل للثورة الصناعية، حيث سقط صغار المزارعين في المنافسة وتحولوا إلى عمال في المناطق الصناعية.
إنهاء العبودية،كان -بالإضافة إلى عدم الحاجة للعبيد- كان أحد أهم أسلحة البرجوازية لتقليم أظافر الارستقراطية القديمة (مُلاك العبيد). وكان لا بد أن يتبع ذلك تغييراً ثقافياً توتاليتارياً؛ لتحويل الشعوب الاجتماعية إلى الفردانية، ولتقليل التحالفات العدالوية، ورفع الدعم الاجتماعي عن الافراد ذلك الدعم الذي يدفع بالفرد إلى الكسل ويعزز رفضه للعمل الشاق. كانت الماركنتالية هي البداية لبث تلك الثقافة الفردية، ولتجريد الفرد من أي حماية كان لا بد كذلك من تجريده من تكتلاته المجتمعية وخصوصياته الثقافية ومن ضمنها الدين كأفيون للشعوب.
ونضع نقطة ها هنا، فذات النظرة الرأسمالية للدين كمعرقل للعمل الفردي، استهلمها ماركس (في طريقه الثالث)، ولكن على نحو راديكالي. فالراسمالية لا تدعوا لإنهاء الدين لأنه يخدمها من زاوية أخرى، وهي الصبر على مشاق الحياة الرأسمالية الجافة لذلك سنرى -بعد عدة قرون- صمويل هنتجتون في مؤلفه يدعو إلى دعم البروتستانتية في مواجهة الكاثوليكية هذه الأخيرة التي تعرقل التحول الدموقراطي، فالكاثوليكية تُسقط الفرد في الجماعة، والبىوتستانتية تسقط الدين في الفرد، وبالتالي تعتبر البروتستانتية علمانية للدين (ستحميها الدموقراطية المركزية).
ولكن لماذا تعتبر الدموقراطية من أسلحة الراسمالية. تؤدي الدموقراطية إلى إنهاء التكتلات الاجتماعية الكلاسيكية (القبيلة والطوائف)، كما تؤدي إلى دعم الفردانية Individualism. وبالتالي تخفيض معرقلات حركة القوى الرأسمالية المركزية. كانت الحركة النقابية -في المقابل- هي التي استهدفتها الماركسية لمواجهة قوة الرأسمالية ضد الفرد الأعزل.
لقد كانت كل تلك القيم ثورة ثقافية (برجوازية)، وكان لا بد من تعزيزها باستمرار لحماية الرأسمالية. غير أن الماركسية خففت من غلوائها كثيراً، كانت الماركسية قوة إعلامية معاكسة لشيطنة الرأسمالية، وهكذا بدأ الصراع الحتمي والأزلي بين القوتين.
أذاً؛ فالدين كان دائما ضحية الصراعات التاريخية في أوروبا، (الانوار (البرجوازية) ضد الكنيسة(الأرستقراطية)) ثم (البرجوازية ضد البروليتاريا). وعند انتصار الراسمالية العالمية، تفرغت البرجوازية للدين في حرب معلنة وخفية. كما أسلفت في مقال سابق: قال السيسي بأن الدين سابق في الأهمية على الإنسان، ورد ماكرون بأن الإنسان صانع للدين وبالتالي سابق عليه. وهذه النزعة اي مركزية الإنسان كانت السلاح الأخير لدى القوى الرأسمالية في العالم.
كان كل ما سبق أكثر وضوحا في الحرب الأهلية الأمريكية، بين الجنوب الزراعي الارستقراطي والشمال الصناعي الفرداني والبرجوازي.
لقد استفاد الكثيرون من ذلك الصراع ومنهم العبيد، فقد عمدت القوى الصناعية في الشمال الأمريكي لإنشاء حركات التحرر والنشطاء الحقوقيين (حُماة مركزية الإنسان) في الولايات المتحدة الأمريكية، لضرب الارستقراطية الجنوبية، ولتعزيز تلك القيم المؤدية إلى إضعاف مقاومة الجماعات وتفتيتهم إلى افراد فقد بدأت شيطنة العقاب البدني corporal punishment، وذلك لإفقاد أصحاب العبيد قدرتهم على السيطرة على العبيد بحظر الجلد وعقوبة الإعدام. وهكذا استفاد العبيد وتم إدخالهم في بؤرة الملاحظة والحماية. وقد تم ايضاً إنشاء مجموعات للإصلاح الديني (علمنة الدين)، وكانت حربا ضروساً كما وصفها ميشيل فوكو إثر حديثه عن حظر العقاب البدني إلى أن الغرض كان هو فرض علاج تأديبي قمعي سعى إلى "السيطرة على الناس من خلال تأديب عقولهم وليس أجسادهم.".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى