أبو يونس معروفي عمر الطيب - رسائل (رياح القدر) للكاتب مولود بن زادي بلغت مستوى الرسائل الأدبية التي تبادلها جبران ومي زيادة!

ونحن إذ تجدنا في بداية الغوص في الرواية بكل حيثياتها وتواريخها، نلمس الخيوط الأولى للمنفى منذ البداية فنشعر أننا بصدد الخوض في مضامين الرواية الشاعرية الرومنطيقية التي تمازج بين المحكى السردي والإيقاع الشاعري، ولكن هذا المنحى لم يخرجها عن واقعيتها باعتبار أنّ السارد وإن امتلك خيالا واسعا إلا أنّه لم يجنح عن أرض المنفى بعيدا، وظل يستنطق الواقع بكل ما يحمله من تناقضات بين المنفى والمنسلخ ليغوص في البيئة التي عاش فيها بذاتيته كحقبة تنتمي إلى الماضي المحجوز مُقرا في مقدمة روايته بواقعيتها معتمدا تأريخ الأحداث في مجاراة زمن مُعاش وانقضى؛ الأمر الذي لا يدع مجالا للشك لدى المتلقي في كونها واقعية خاصة وأنه ضبط الوقائع ضبطا زمنيا محاولا ازاحتها خارج المنفى، وتحويل مشاهد رحلت، وظل أثرها في النفس حاضرا، إلى مشاعر يقينية على الأقل. ولعل المناحي الاجتماعية التي تخللها صراع أسرة فؤاد والكثير ممن حوله من "أقارب، وأصدقاء، وزملاء" مع واقعهم اليومي وتصديهم للعديد من العوائق تنفذ بسلاسة إلى نفسية المتلقي التي يكون قد عايش ولو جزءا يسيرا من ذلك. وتظل شخصية أمل الأكثر تعرضا "لرياح القدر" باعتبارها منفية نفيا قسريا من حضن الأم كوطن، ثم استسلامها تقاليد مجتمعية تصنع من المرأة كائنا ثانويا سلبيا كمنفية "لأنّ المنفى لا يتحدد بمكان، بل أثر المكان على روح الانسان وعقله. ولهذا يمكن أن يكون الإنسان منفيا في وطنه، وأن يكون طليقا في مكان بعيدا عن الوطن؛ لأنّ المنفى حالة شعورية وجدانية " نستشف تعاطفا واضحا بين السارد كمنفي وبين شخصية امل كحالة ثنائية النفي .
إنّ أمل "رياح القدر " تشابهت الى حد كبير مع أمنة "دعاء الكروان لطه حسين"؛ فـ آمنة قارئة مثقفة تلقت كم من المعارف والخبرات نتيجة عملها في منزل المأمور لصيقة لابنته المتعلمة والتي كانت تلح في إشراكها في تلك الدائرة التي سرعان ما استهوتها "فأصبحت (آمنه) تبحث عن الكتاب بل تتشمم رائحته التي قد تقودها إليه بكل سهولة رغبتها الملحة في الاطلاع "، وفي المقابل هناك " أمل " التي ظهرت ثقافتها في حواراتها و ما كانت تحمله رسائلها الكثيرة من لغة راقية رومانسية وتعابير جياشة تترجم مشاعر فياضة رقيقة حتى بلغت مستوى تلك الرسائل الأدبية التي تبادلها "جبران ومي " وقد بدت شخصية أمل من ناحية أخرى في تماهيها مع شخصية هنداي الأخت الكبرى لآمنة؛ فقد مثلتا بشخصيتيهما "أمل وهنداي" وما ارتبط بهما من أحداث، فرعا مهما من فروع الرواية التي تصب جميعها في مجرى المرأة المضطهدة الساذجة، واللتين وإن ساهمتا بسلبيتهما في مواجهة الاضطهاد شكلياً إلا أنهما وقعتا في بؤرة القمع منذ الطفولة ولم يبديا مقاومة كافية للخلاص من المعاناة على حد تعبير سعداء دعاس والمؤكد هنا أنّ الرؤية السردية التي تحاول تصوير المعاناة وتوظيف صفة الضحية بشكل بارز على كل الشخوص التي تقع تحت وطأة المعاناة والظلم دون مراعاة ماهيتها، إنما هي تسرب لرؤى السارد من منفاه كتنفيس ذاتي عن طريق شخوصه لأنّ "ثمة في المتخيل العربي تسليم أيضا بأن اللغة هي التي تمدّ الكائن بالمقدرة على مواجهة رعب الوجود وتوسيع دائرة الخلاص"، رؤية تصب أيضا في المذهب الرومانسي؛ على أساس أنّ الرومانتيكيين "يتغنون بجمال النفوس عظيمة كانت أم وضيعة فمجدوا شأن العاطفة وجعلوا حقوق القلب تطغى على قوانين المجتمع ونظمه من الرحمة بالجنس البشري كله فتفيض عيونهم بالدموع لضحايا المجتمع منادين بإنصافهم مهاجمين ما استقر في المجتمع من قواعد ومتمسكين بالحياة الوديعة الجميلة في الطبقات البسيطة التي تحي بما لا يحظى به ذووا الجاه من الطبقات الأرستقراطية "
هذه الأحداث والشخصيات في كلتا الروايتين كانت منسجمة في أدائها سلبا وإيجابا بعيدا عن البناء المخيالي أضفت هي الأخرى صبغة الواقعية على السرد الروائي باعتبار أنها تؤرخ في بنيتها الزمنية لفترة معينة ظهرت معالمها من خلال وصف البيئة والأحداث بتمكن شديد باعتماد الضبط الزمني للوقائع حتى لا يظل النص الروائي أحادي السياق، وذلك بالتركيز على ممازجته بسياقات عدة من خلال توظيف النمط الاجتماعي المعيشي كتناص تاريخي؛ الأمر الذي سيحتم على قارئ روايتي دعاء الكروان ورياح القدر أن يتخيل تلك المنطقة الريفية المصرية مجرى الأحداث، وأن يعيش تلك اللحظات والأحداث في أجواء العاصمة الجزائر، ومن ثمة إجراء مقارنة بين تاريخ هذه الأحداث ومطابقتها بعمره الزمني.



مولود بن زادي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى