عبدالملك مرتاض - الجنس والنوع

لم يجاوز قدماءُ النقّادِ العرب بِتصنيف الأدب إلى أكثرَ من جنسين اِثنين هما: الشعر والنثر؛ فكان كلُّ منظوم لديهم شعراً، وكلُّ مُرْسَلٍ من الكلام نثراً؛ مع أنّ الميزان العروضيّ ليس إلاّ مكوّناً واحداً من مكوّناتٍ كثيرة للشعريّة، كما أنّ نثريّة الكلام، وخلوَّه من الإيقاع العروضيّ الصارم قد لا يُبْعد عنه شعريَّتَه إن كان مشتمِلاً على أطرافٍ من مكوّناتها الجماليّة· والحقّ أنّ العرب عرفوا تصنيفاتٍ داخليّةً للنثر والشعر معاً، فعرَف الأدب العربيّ الخطابة، والمقامة، ثمّ أضرُباً من الكتابة السرديّة الأخرى· فلمّا جاء العصر الحديث وتطوّر الفكر النقديّ الإنسانيّ، وظهرت أشكالٌ جديدة من الكتابة اضطُرّ النقدُ إلى إنشاءِ تصنيفاتٍ داخليّة تميّز بينها، فكانت الرواية، والقصّة، والحكاية، والمقالة، والنقد، بالإضافة إلى الشعر الذي أدخل فيه النقادُ الغربيّون الملحمة، والتراجيديا، والملهاة، والمأساة· وظلّ التقسيم النقديّ العربيّ المعاصر، بحكم تبعيّته، خاضعاً للتقسيم الغربيّ فلا زيادةَ فيه، ولا نقصانَ منه· والأسوأُ من ذلك أنّا نختلف اختلافاً بعيداً في إطلاقاتنا الاصطلاحيّة على بعض هذه الأجناس، بل إنّ بعض النقّاد العرب المعاصرين لا يكادون يميّزون بين الجنس والنوع، كما لا يميزون بين الشخصيّة والشخص، كما لا يميّزون اللغة واللسان، فيخلطون المفاهيمَ بعضَها ببعض خلْطاً شديداً، فتضيع الدّقّة من المعرفة، والآية على ذلك وجودُ كتابٍ معروف متداوَل بين الناس عنوانه: ''الأدب وفنونه''، وهو كتاب جليل حاول أن يتحدّث عن أهمّ الأجناس الأدبيّة المتداوَلةِ التي ليست فنوناً! وكان العرب في لغتهم المعجميّة، يصطنعون معنَيَيِ ''الجنس'' و''النوع'' ويميّزون بينهما تمييزاً، فكانوا يرَون أنّ النوع أخصُّ من الجنس، فالجنس عامّ، والنوع خاص، وركْحاً على هذا التأسيس الدلاليّ فإنّ الرواية جنس أدبيّ من حيث هي، فإذا حضّر باحث أطروحة في رواية الحرب، أو الرواية التاريخيّة، فإنّه يتدحرج إلى النَّوع، مع بقائه في مكوّنات الجنس الذي يبحث في أحد أنواعه· وأمّا الفنون فتطلق في العالم المتحضّر كلّه على أصناف من المعرفة لا يأتي الأدبُ أحدَ أضرُبِها الصّريحة· ولذلك من الأَوْلى أن نذَر الفنونَ حيث وضعتْ نفسَها ونتحدّث عن الأجناس الأدبيّة (Les genres littéraires)، وليس عن ''الفنون الأدبيّة'' (Les arts littéraires)· وقد ألّف مجموعة من الكتّاب الفرنسيّين كتاباً جليلاً عنوانه: ''الأدب، والأجناس الأدبيّة'' لروبير إسكابي وآخرين، وقد ظهر هذا الكتاب بباريس سنة ·1978 ثمّ ظهر كتاب آخر، في الموضوع نفسه، بباريس أيضاً منذ ثلاث سنوات بعنوان: ''الأجناس الأدبيّة'' لدومينيك كومب· ونحسب أنّ النقد العربيّ المعاصر مطالب بجملة من مثل هذه الكتب التي تتناول هذه التصنيفات الأَجناسيّة الجديدة، مع مراعاة طبيعة أشكال الكتابة التي تفرّد بها الأدب العربيّ دون سواه، ومنها المقامة التي ظلّت تشغل الكتّاب طوال عشرة قرون على الأقلّ، وعرف الأدب العربيّ منها أكثر من مائة وعشرين مدوّنةً من المقامات···


أعلى