أحمد الشهاوي - ليلـة فـي الـسـجن.. ابن بطوطة المصري يحكى كيف دخل السجن في فنزويلا

[SIZE=18px] غادرتُ صديقي (جورج) وغادرتُ مدينة (بيورتو ياكوشـو) وغادرتُ محافظة أمازونيا في جنوب فنزويلا متجهاً نحو الشـمال في طريقي إلى جبال الإنديز .. ولكنني قابلتُ رجلاً في محطة الأتوبيس وسـألني منذ متى وأنا أتجول في فنزويلا .. فأجبته حوالي شـهرين حتى الآن وبقي أمامي أن أصعد إلى جبال الإنديز والاسـتجمام على شـواطئ البحر الكاريبي .. فأردف: من لم ير محافظة (لـوس لـويانوس) فأنه لم ير فنزويلا .. فقلتُ له: وما هو الشيء المميز في هذه المحافظة فرد قائلاً: (هـاتو) .. (هـاتو) هو الـَمَزرعة التي يعيش فيها الإنسـان والطير والحيوان والثعبان معاً .. ومن لم يعرف ويري ما هو الـ (هـاتو) فأنه لم يفهم طـبيعة الحـياة في فـنزويلا .. لـوس لـويانوس Los Llanos هي أرض ثعبـان (الأناكوندا) .. فقلتُ له: ولكن المحافظة كبيرة ولا أعرف إلى أي (هـاتو) أذهب ،هل تعرف عنواناً أو مكاناً محدد .. فرد قائلاً: نعم على مقربة من مدينة صغيرة اسـمها (مِانتكال) Mantecal يوجد (هـاتو) يمتلـكه رجل اسـمه (رومـان) .[/SIZE]

هذا كان كل ما أعرفه .. أنه يوجد (هاتو) يمتلكه رجل اسـمه (رومان) وهو قريب من مدينة اسـمها (مِانتكال) وهي تقع في محافظة (لـوس لـويانوس) .. فقررتُ أن أغير طريقي وبدلاً من أذهب إلى جبال الإنديز بدأتُ في البحث عن مدينة اسـمها (مِانتكال) .. فأخرجتُ خرائطي وجلسـتُ أبحث عن تلك المدينة التي يصعُب وجودها على الخريطة .. ولكن هذه المدينة تقع في وسـط الشـمال الغربي لفنزويلا وأنا الآن في محافظة أمازونيا في الجنوب .. فالطريق إلى هناك بعيد ويفصلني عنها مئات الكيلومترات بالإضافة إلى أنه لا يوجد أتوبيس مباشـر إليها .. وقد يحتاج الطريق إلى هناك يومين أو ثلاثة أيام .. ولكن لا بأس من كل ذلك ،فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة .. فالمطلوب مني هو أن أخطو الخطوة الأولى وأركب الأتوبيس الأول الذي يُـقربني من الهدف المنشـود .. وأثناء السـاعات الطويلة التي قضيتها في الأتوبيس أخرجتُ كتبي وبدأتُ أقرأ عن محافظة (لـوس لـويانوس) .
هي محافظة ذات سـافانا فريدة من نوعها .. وبها البرك والأنهار ومليئة بالطيور والحيوانات المختلفة .. والحياة هناك لها طابع خاص حيثُ ينقسـم المجـتمع إلى مجـموعتين الأولى منهم هم مـلاك الأرض الكـبار والثانية هم العامـلون في الأرض .. وبالطبع فإن الذين يقـررون طـريقة مجرى الحـياة هناك هم مـلاك الـ (هـاتو) .
الـ (هـاتو) عبارة عن مسـاحات شـاسعة من الأراضي الزراعية تصل إلى عشـرات ومئات وربما آلاف الأفدنة يربـون فيها الأبقـار .. ويعمل في الـ (هاتو) الكـثير من رعاة البقر .. وهناك تعيش الحـيوانات والطـيور بين السـافانا بينما تعيش التماسـيح وثعبان (الأناكوندا) في البرك والمسـتنقعات .. إنها ولاشـك منطقـة تسـتحق الزيارة ويكـفيك سـبباً لذلك أن ترى ثعبـان الأناكـوندا العمـلاق في بيئتـه الطبيعيـة .
بدأتُ أتنقل من أتوبيس إلى أتوبيس ومن مدينة إلى مدينة .. وقد حدث عُطل في الأتوبيس و اضطررتُ لانتظار أتوبيس آخر مما أدى إلى تأخير وصولي سـاعات عديدة عن الميعاد الأصلي .. وأنا دائماً أحاول أن أتجـنب أن يكون وصولي إلى المدن في الليل .. في حالة القرى والغابات فلا خوف هناك من الليل لأن الجريمة والخطر الحقيقي يكمُنان في المدن .. وعرفتُ أن الأتوبيس سـيصل في العاشـرة مسـاءاً إلى (مِانتكال) .. وهذا ميعـاد يُنـذر بالخطـر في هذه البـلاد .. إنه ميعاد وصول له خطورته وخصوصاً أنني غريب ولا أعرف أين سـأبيتُ ليلتي ،ولا أعرف هل توجد غرفة أو فندق للمبيت في هذه المدينة ؟ .. فقد رأيتُ هنا مُـدن كثيرة تكون في التاسـعة مسـاءاً خالية تماماً إلا من الشـياطين الآدميـة .. وبينما أنا أجلس في الأتوبيس بدأتُ أعمل اسـتعدادي للحظة الوصـول .. فأخرجتُ سـكينتي الصـغيرة من الحقـيبة ووضعتها في جيبي حتى تكون قريبة من متناول يدي في حـالة الخطر وإن كنتُ أعـرف أنه إذا حـدث اعـتداءُ حـقيقي ،فـلن تنفـعـني هذه السـكين الصـغيرة كثيراً في مواجهة المسـدسـات والرشـاشات والقبضات الحديدية .
حاولتُ أن أجد طريقة أخري توفر لي الأمان فاتجهتُ إلى الرجل الذي يجلس بجواري على مقعـد الأتـوبيس .. وكان في الخمسـين من العُمر وله رأس كبير به قليل من الشـعر ممتلئ الجسـم وله بطن مسـتديرة مما جعل مقعد الأتوبيس يضيق به .. وحاولتُ أن أكسـب وده فأعطـيته قطعـة من الـ (بنبون) .. وقد عرفتُ أنه من أهالي (مِانتكال) .. ورغم أني لا أعرف إلا بعض كلمات قليلة من اللغة الأسـبانية قد تعلمتها في فترة وجودي هناك فقد حاولتُ أن أشـرح له أنني غريب ومسـافر وحدي ولا أتحدث لغـة أهل البلد وإن موقفي صعب لأنني سـأصل إلى (مِانتكال) في الظلام ولا أعرف مكـان أو عـنوان أي فـندق وربما لا تفـتح الفنادق أبوابها في المسـاء وأرجو منه أن يسـاعدني حتى أجد مكان للمبيت هذه الليلة ،أو يسـاعدني في الحصول على تاكسي ليوصلني إلى أي فندق .. فقال: بالطبع سـأسـاعدك في الحصول على فندق ،فهذا أمر بسـيط .. فقلتُ له إنني مُسـتعد لاسـتئجار تاكسي ليوصلني إلى الفندق وما عليه إلا أن يقـول لسـائق التاكسي عن اسـم الفندق الذي يجب أن يقودني إليه .. فرد قائلاً: أنه في هذا الوقت من الليل لا يوجد أي تاكسي في المدينة .. وكان هذا خبر سـيئ بالنسـبة لي ،لأنه عندما يكون المكان خـطراً ،فإنني أسـرع في اسـتئجار تاكسي .. والهدف الأول من ذلك أن يحميني من نظرات الفضوليين الذين يريدون أن يعرفـوا من هو هذا الغـريب .. وثانياً أني أشـعر في داخل التاكسي بشيء من الأمان وإن كنتُ أخاف من سـائق التاكسي الذي يمكن أن يقـودني إلى مكان لا أعرفه ،إلا أن خوفي في هذه الحالة يكون من شـخص واحد وهذا أفضل من وجودي في الشـارع فريسـة لكل من يراني .. ولكن في هذه المدينة لا يوجد تاكسي في هـذا الـوقـت المتأخر من اللـيل .
وقد وعدني الرجل الذي بجواري أنه سـوف يسـاعدني في الحصول على مكان أبيتُ فيه هذه الليلة بمجرد وصـولنا إلى آخر محطة .. واعتمدتُ عليه في ذلك وإن كان إحسـاسي يقـول لي إن هذا الرجل لا يمكن الاعـتماد عليه .. ولكن ليس أمامي خـيار آخـر .
توقف الأتوبيس في محطة لعدة دقائق لإنزال بعض الركاب ،ولكنها ليسـت المحطة النهائية .. وعندما بدأ الأتوبيس يتحرك بطيئـاً فجأة وبدون سـابق إنذار وقف الرجل الذي بجانبي ولم ينظـر أو يلتفت لي ثم قفـز خـارجاً من باب الأتوبيس الذي كان مازال بطيئـاً في حركـته .. ودون أن يقـول لي أي كـلمة أو يعطيني أي إشـارة .. كان مثل اللص الذي يسـرق حافظة النقـود من أحد الركاب ويقفز خارجـاً من الأتوبيس قبل أن يقبضـوا عليـه .. فقد قفـز هذا الرجل دون أن يقـول لي كلمة وداع أو حتى ابتسـامة أو إشـارة .. فنظرتُ مبهوراً ولم أكن أتوقع أن تصل قلة الذوق والنـذالة إلى هذا الحد .. فكان بإمكانه أن يعتذر ويمضي في طريقه .. ولكنه تجاهلني تماماً وكأنني لسـتُ إنسـاناً من لحـم ودم .
مع نزول هذا الرجـل من الأتوبيس فقدتُ الأمل الأخير الذي كنتُ أتعلق به .. ولكن بعد ذلك لم يسـر الأتوبيس أكثر من خمسـة دقائق ثم توقف في المحطة النهائية فقد وصلنا إلى (مِانتكال) والسـاعة الآن تقترب من الحادية عشـرة مسـاءاً .. ونزلتُ كما نزل باقي الركاب .. ووقفتُ على رصيف الشـارع لأسـترد أنفاسي وأفكر في طريقة البحث عن مكان يحميني حتى الصباح .. فحملتُ حقيبتي على ظهري وعصاي في يدي وتوكلتُ على الله .. ورغم أن الوقت يقترب من منتصف الليل إلا أنني وجدتُ المدينة في هـرج ومـرج والبائعـون في الشـوارع والموسـيقى تعزف والأجسـاد تتمايل وأيضا الرؤوس .. فالشـوارع مملوءة بالسـكارى الذين يمسـكون بزجاجات الـ (روم) في أيديهم ،وهو مشـروب قـوي تصل نسـبة تركيز الكحول فيه إلى أكثر من 40 في المائة .
من أهم أوجه التمتع بالحياة عندهم هو شـرب الـ (روم) والرقص على أنغام الموسـيقى وحفلات الكرنفال التي بدأتْ في هذا الوقت من العام تنتشـر في كل مكان وينتظرها الجميع كل عام .. بطون النسـاء عارية .. وسـواء كان جسـم المرأة رشـيقاً أم كانت مؤخرتها ضخمة الحجم فكلهم يرتدون البنطلونات الضيقة جداً .. وكلهم يرقصون الـ (سـامبا) والـ (سـالسـا).. أما رقصة السـامبا فهي تعتمد على هز المنطقة الوسـطي من الجسـد مما يسـبب الإثارة والرغبة وهذا ليس مسـتغرباً وخصوصاً إن الرقص الشـرقي المعروف عندنا يعتمد أيضا على هز الوسـط والمؤخرة بل ويزيد على ذلك في هز الثديين .. وكنتُ اعـتقد أن الرقص الشـرقي هو أكثر أنواع الرقص إثـارةً ،وإن الرقص الشـرقي يحتل المكانة الأولى في ذلك لأن المرأة تهز فيه من جسـدها كل ما هو قـابل للهـز .. وكنتُ اعتقد أن المكان الثاني لهذا النوع هو رقصة الـ (سـامبا) التي نراها في حفلات الكرنفال البرازيلية وهي رقصة منتشـرة في أمريكا الجنوبية وتعتمد أيضاً على هز المنطقة الوسـطى من الجسـم ،كان ذلك هو اعتقـادي ومعلوماتي العامة عن أنواع الرقص الـمثـير حتى رأيتُ رقصـة الـ (سـالسـا) .. وما أدراك ما الـ (سـالسـا) ؟!.. إنها
الرقصة الملتهبة التي تعدت كل الموانع والحواجز وتعدت الخطوط الحمراء .
عندما رأيتُ هذه الرقصة كان على الرقص الشـرقي أن يتزحزح إلى المرتبـة الثانية ويفسـح المكان الأول في الرقص المُثير لرقصة الـ (سـالسـا) .. فللوهلة الأولى كنتُ اعتقد أن هذا ليس رقصـاً ،وإنما هو تمهيد لعملية جنسـية .. فيضع الرجل سـاقه بين سـاقي المرأة وتضع المرأة سـاقها بين سـاقي الرجل ثم تبدأ عمليات الهز والاحتكاك المباشـر في المنطقة الوسـطي من الجسـد مع أنغام الموسـيقي الحارة .. إنها نوع غـريب من الرقص لم أكن أتصور في يوم من الأيام أن الرجل والمرأة عـندهما من الجرأة أن يرقـصا مثل هذه الرقـصة أمام الآخـرين .
إنها من الرقصـات التي من الصعب مزاولتها لأنها تحتاج إلى ليـاقة بدنية عالية .. أيضاً من الصعب النظر إليها بدون أن يغلي الدم في العـروق ،بالطبع سـيغلي الدم في العروق في حالة إذا كان الإنسـان عنده دم .. وإن لم يكن عنده دم فليفـعـل ما يشـاء .. فإن لم تسـتح فافـعـل ما شـئت .
الجو مازال حاراً رغم أن الوقت يقترب من منتصف الليل .. وحاولتُ بصعوبة أن أشـق طـريقي وأخترق الصفـوف بين الجموع الـُمكتظة من السـكارى .. وفجأة رأيتُ في وسـط الجموع أمامي ذلك الرجل الخسـيس الذي كان يجلس بجواري في الأتوبيس .. فـوجدتُ نفسي أمسـكه من كتفه وأسـتعمل كل الكلمات التي أعرفها وأسـأله: لـماذا فـعـلت ذلك ؟.. لـماذا هربت مني ؟.. فرد قائلاً: لا يوجد تاكسي ولا يوجد فـنادق .. ثم تركني وضاع بين الزحام ،فقررتُ أن أخرج من هذا الزحام إلى أطراف المدينة بعيداً عن السـكارى الذين يلوحون في وجهي بزجاجاتهم ويحـاولون خـطف قـبعة رأسي .
خرجتُ من منطقـة الزحام .. ومن الميدان الكبير إلى الشـوارع الضيقة حيثُ
الحواري الـمُظلمة فكل مصابيح الشـوارع تقريباً مكسـورة .. ورأيتُ شـاباً على جانب الطريق فسـألته عن أي فندق هنا .. فأشـار بيده إلى نهاية هذا الشـارع الطويل الـمُظلم .. فأسـرعتُ الخُطى وبالفـعـل وجدتُ فندقاً له باب مصنوع من شـبكة حديدية .. واقتربتُ من الباب حيثُ يقف رجل في الداخل خلف القضبان الحديدية وما إن اقتربتُ من الباب حتى قال أنه ليس عنده مكان لي .. فأوضحتُ له أنني مرهق ولم أنم منذ يومين فأشـار إلى طفلين في العاشـرة من العمر بأن يذهبا معي ليرشـداني إلى فندق آخر .. وذهب الطفلان معي وأخذا يقـوداني في طرقات المدينة المظلمة من شـارع إلى شـارع ومن بيت إلى بيت .. وبينما أنا في إحدى الحواري المظلمة شــعرتُ بأحد السـكارى يحاول أن يشـد حقيبتي من على ظهري فأدرتُ ظهري ولوحتُ بعصاي صارخاً في الظلام في اتجاه ذلك الشـخص فرأيته يركض خوفـاً من أن تصـيبه عـصاي الطـويلة .. وأسـرعتُ في الخطي خوفاً من أن يتبعني هو ورفاقه .. ومن خلفي الطفلان الصغيران يهرولان ويحاولا أن يسـاعداني فقد وعدتُ كل منهما أن أعطيه ألف بوليفار إن وجـدتُ مكـاناً للنـوم .
مازلنا نتجول في الشـوارع والسـاعة تقترب من الثانية صباحاً .. وبدأ التعب ينال مني بعد ثلاثة سـاعات من الركض من حارة إلى حارة ومن مبنى إلى مبنى حتى وصلنا إلى أطراف المدينة قريبـاً من المزارع ووقف الطفلان أمام أحد المباني يتشـاوران فسـألتهما عن هذا المبنى .. فرد أحدهما محاولاً التوضيح بالإشـارة ،وذلك بأن وضع قبضتي يديه بجوار بعضهما البعض ليشـرح ذلك ،وكأنه يرمـز إلى الجنازير التي يضعها البوليس في يد المجرمين .. وقد فهمتُ من كلامه إن هذا المبني هو سـجن (مِانتكال) أو ربما يريد أن يقـول إن هذا المبني كان سـجناً قبل ذلك .. ولكن سـواء كان المبنى سـجناً أم لا فهذا لا يعنيني .. كل ما يهُمني هو أربع جدران أختـفي خلفها حتى الصـباح .
قد تشـجعتُ حينما رأيتُ باب هذا المبنى مفتوحاً قليلاً وضوء ضعيف يتسـرب من داخله .. فاقتربتُ من المبني المكون من طابق واحد ودفـعتُ الباب بحذر ودخلتُ إلى الداخل فكان الممر ضيق والجدران رطبة ورائحة العفن تملأ المكان وعلى اليمين حجرة مثل حجرات التحقيق مع المجرمين وهي خالية تماماً إلا من منضدة خشـبية وكرسي واحد ولها فتحة على الممر بها قضبان حديدية .. وناديتُ من خلال هذه الفتحة على الرجل الذي كان نائماً على الكرسي وبيده زجاجة الخمر وقد أسـند رأسـه إلى المنضدة .. ففتح عينيه بصعوبة وقام مترنحاً وكان مازال ممسـكاً بالزجاجة في يده وبدون أن ينظر في وجهي صار يصيح بطريقة هسـتيرية ملوحاً بزجاجته في الهواء .. ولم افهم ما يقـول ولكنني رأيتُ الطفلين قد بدأ يتراجعـان خوفـاً من الرجل .. وبدون أن أنطـق بكلمة أخرجتُ من محفظة نقـودي عشـرين ألف بوليفار ورميتُ النقـود له من بين القضبان الحديدية .. فرفع الرجل النقود من على الأرض وقـلبها في يـده مرتين وكأنه يريد أن يتأكد أنها عشـرون ألفا .. ثم نطق أحد الطفلين ببعض الكلمات وهو يرتعد من الخوف .. وعلى ما اعتقد أنه ربما قال له: أنه رجل غريب ومنـذ ثلاثة سـاعات لم نـجد له مكـاناً للنـوم .. ونظر الرجل ناحيتي بطرف عينه وهو في حالة سـكر كامل وابتسـم ابتسـامة سـخرية ثم نظر إلى النقـود التي مازالت في يـده مرة أخرى ووضعها في جيبه .. وبدون أن ينطق بكلمة أو يسـألني من أنا .. مد يده من الفتحة الموجودة في الجدار وأعطاني مفتاح مربوط به قطعة من الكرتون مكتوب عليها بخط يدوي رقم 18 .. ثم ضحك الرجل مقهقهاً وتناول رشـفة أخرى من زجاجة الـ (روم) التي كانت في يده ووضع رأسـه على المنضدة ليُكمل نومه العميق جالسـاً على الكرسي .. وكنتُ مذهولاً من المفاجأة فقد حصلتُ على مفتاح رقم 18 ولم أتفـوه بأي كلمة من الدهشـة .
أعطـيتُ الطفلين ألفي بوليفار فراحا يركضان من الفرح في الظلام الدامس ..
ومشـيتُ داخل المبني في ممر طويل خافت الضوء ورائحة القاذورات وبقايا الطعام تُزكم الأنوف .. والجدران قد تسـاقط عنها الطـلاء الجيري بسـبب الرطوبة .. وعلى الجدران كتابات ورسـومات بالطباشـير مثل التي يكتبها السـجناء على جـدران الزنزانة .. وبصـعوبة شـديدة في هذا الضوء الخافت وجدتُ باب حديدي مُصمت قد بدأتْ أطرافه تتآكل من الصدأ وارتفاعه لا يزيد عن متر ونصف ،وكان الباب مغلقاً بجنزير وقفل كبير .. وكان لونه أزرق داكن ومكتوب عليه بطـلاء زيتي أبيض بخط اليد رقم 18 .. ووضعتُ المفتاح في القفل فانفتح .. وعندما انفتح الباب أحدث صريراً مُزعجاً مثل الأصوات الذي نسـمعها في أفلام الرعب .. وخفتُ أن يسـمع أحدهم صرير الباب فاندفـعتُ بسـرعة إلى الداخل وأغلقتُ الباب من الداخل بالجـنزير والقفـل الكـبير .
هذا كان كل ما أتمناه في هذه اللحظة ،أن أكون في أي مكان يمكن إغلاقه من الداخل حتى أشـعر بالأمـان حتى وإن كان هذا المكان سـجناً .. اقتصرتْ آمالي وأحلامي في هذه اللحظة على أن أكـون بين أربعة جدران لتعطيني الإحسـاس بالأمـان .. لم أكن أتمنى في هذه اللحظة بيتـاً ولا سـيارة ولا مال ولا سـلطة .. كنتُ مثل العطشـان الذي يطمع فقط في شـربة ماء .. ومثل الجوعان الذي يطمع في كسـرة خبز .. فقد كنتُ الخائف الذي لا يطمع إلا في شيء من الأمان .. كم هو مهم ذلك الإحسـاس بالأمان !!.. وكم كنتُ سـعيداً حين وضعتُ المفتاح في القفل ووجدتُ القفل ينفتح ،وكأن أبواب الجنة هي التي انفتحتْ .
مما لفتَ نظري أن هذا الباب كان غريباً في كل صفاته .. وكل شيء به على عكس ما هو معروف ومعتاد عند البشـر .. فالأبواب العادية في بيوتنا في الغالب تُفتح إلى الداخل ويكون مقبض الباب أمام اليد اليمني للإنسـان الذي يفتح الباب في حالة الدخول إلى الغرفة .. وهذا ليس بمحض الصدفة ولكنها خبرات صناع الأبواب على مر العصور واعتقد أن الحكمة في ذلك أن يتناسـب ثقب المفتاح مع اليد اليمنى التي يسـتخدمها أغلب البشـر في الإمسـاك بالمفتاح .. ولكن يبدو أن مصمم هذا السـجن كان أشـولاً ويسـتعمل يده اليسـرى .. ولذلك فإن هذا الباب كان يُفتح إلى الخارج والقفل أمام اليد اليسـرى .. وكان هذا الوضع لا يدعو إلى التفاؤل لأننا نحن الشـرقيون نفضل كل ما هو ناحية اليمين .. حتى إننا في دعائنا ندعـو الله أن يجعلنا من أهل اليمين .
أنا مازلتُ أتذكر كل تفاصيل هذا الباب لأن صورته مازالت واضحة أمام مُخيلتي .. ولأنني قضيتُ خلف هذا الباب أسـود ليلة في حياتي .. والسـواد هنا مقصود به المعنى البـلاغي والمعنى اللفظي معاً .. أما عـن المعنى البـلاغي فكانت ليـلة سـوداء بها الكثير من البؤس والخـوف والمعـاناة .. وأما عن المعني اللفظي فقـد كانت ليلة سـوداء مظـلمة وقاتمة الظـلام حيثُ أن الزنزانة كان بها لمبة كهربائية في السـقف ونتيجة للهزة التي أحدثها الباب عندما فتحته اهتزتْ اللمبة وسـقطتْ على الأرض وأصبحتُ وحيداً في تلك الزنزانة في ظلام دامس وليلة سـوداء بكل ما تحمل الكلمة من معاني .. ولم تسـنح لي رؤية الزنزانة من الداخل إلا لمدة ثوان معـدودة وهي اللحظات التي مرتْ بين لحظة انفتاح الباب وبين اللحظة التي سـقطتْ فيها اللمبـة الكهربائيـة على الأرض .
كل وصفي لهذه الغرفة كان معتمداً على التحسـس باليد في الظـلام الدامس الذي لا ترى فيه شـيئاً على الإطـلاق .. وبرغم المعاناة التي أشـعر بها في مكان ضيق ومُغـلق ولا أعرف ما الذي يدور حولي ،إلا أنه قد يكون ذلك رحمة من عند الله .. فربما كانت هناك كائنات أخري تمشي من حولي ولو رأيتها لازداد حجم المأسـاة .. فأحياناً يكون عدم الرؤية أفضل من الرؤية .. ولكن أكثر ما كان يقلقني هو بعض الصراصير التي تحاول التسـلق على وجهي .. وعنـدما تلامس أرجـلها الصغـيرة القـذرة وجـهي تنتـابني قشـعريرة واشـمئزاز فـوق الوصـف والخـيال .
أنا في هذه اللحظة أرتدي شـورت وفانلة (تي شـيرت) بنصف كم .. وقد حاول أحد الصراصير التجول على ذراعي الأيسـر فاضطررتُ لضربه بالكف الأيمن ، فـوقع قـتيلاً ملطخاً بدمائه القـذرة التي لطختْ ذراعي ويدي ،وبرغم ذلك كان لابد أن أتحسـس معالم جـثـته بأطـراف أصـابعي حتى أتعـرف عليه .. ومن هنـا عرفتُ أنه صرصار وليس عقـرباً وربما كانت هناك عقـارب ولكن لم أرها في الظلام .
أنا بوجه عام في حياتي إنسـان متفائل ولا أحب أن أسـتعمل الألفاظ المتشـائمة .. ولكن من أجل الأمانة في وصف هذه الليلة لا أجد في قاموس اللغـة وصفاً يناسـب هذه الليلة إلا أن أقـول عنها إنها بالفـعـل كانت ليلة سـوداء .. فيالسـخرية الأيام فبعد أن كانوا يسـمونني (صياد الكوبرا) عندما كنتُ أصطاد ثعبان الكوبرا في غابات مـاليزيا .. الآن أجلس في زنـزانة (مِـانتكال) أصطاد الصراصير ..!!
الغرفة لا يزيد عرضها عن متر ونصف وطولها لا يزيد عن مترين وعرفتُ ذلك لأنني عندما حاولتُ أن أنام في الاتجاه الأول كانت رأسي تصطدم بالجدار الأول وقدمي بالجدار الثاني .. وسـقفها كان منخفضاً فلا تسـتطيع أن ترفع قامتك دون أن يصطدم رأسـك بالسـقف .. وبها مصطبة من الأسـمنت والجدران تعبق بروائح كريهة .. والصراصير لا تكُف عن التجول يميناً ويسـاراً.. ولكنني حمدتُ الله على أنني وجدتُ هذا السـجن حتى أغلقه على نفسي حتى الصباح .. بالطبع لم أجرؤ على خلع ملابسي وكنتُ أخاف أن أركن ظهري إلى الحائط فتتسـلل الصراصير إلى شـعري أو أذني أو تدخل من قفاي إلى تحت ملابسي .. فقررتُ أن أبقى بملابسي جالسـاً القرفصاء في وسـط الغرفة طوال الليل على الأرض الأسـمنتية .
الإرهاق والتعب والخوف قد أنهكوا قـواي .. ومن شـدة التعب صرتُ في حالة تُشـبه حالة السـكير أو في حالة من التخدير .. فلم أعد أشـعر بما يدور حولي ولا أعرف هل هذا الذي أنا فيه حقيقة واقعة أم أنها كلها أحلام وتهيؤات .. قررتُ أن أبقى جالسـاً القرفصاء على الأرض وضممتُ ركبتاي إلى صدري .. ووضعتُ يداي على ركبتي وعليهما أسـدلتُ رأسي في وضع الجلوس .. وجاءني إحسـاس بالبؤس والمسـكنة وتذكرتُ أمي رحمها الله .. فلو كانت على قيد الحياة ورأتْ الذي أنا فيه لبكت بدلاً من الدمع دماً من أجل ابنها الصغير .. الذي ذهب إلى أوربا ليدرس ويصير شـيئاً كبيراً وإذا به يقـبع في زنـزانة في أمريكا الجنوبيـة .
لا تحزني يا أماه .. فداكِ روحي ودمي .. لا تحزني يا أماه إن كنتِ تشـعرين بما أنا فيه .. لا تحزني فما هي إلا سـاعات قليلة وتُشـرق الشـمس وأخرج إلى الحرية .. لا تحزني يا أماه فقد دخلتُ إلى هنا برغبتي وهناك الكثيرون غـيري لم يدخـلوه برغـبتهم .
كنتُ مرهقاً جداً فانتابتني غـفلة من النوم ،ثم اسـتيقظتُ منها مفزوعاً على حركة صرصار يحاول التسـلق على وجهي .. ووجدتُ نفسي نائم على الأرض ويبدو أنني قد مِلتُ أثناء النوم على جانبي ولكن ركبتاي كانت مازالت مضمـومة إلى صـدري في وضـع القـرفـصاء .. فنظرتُ إلى سـاعتي ذات العقارب الفسـفـورية ووجدتُ عقارب السـاعة تقترب من الخامسـة صباحاً .. وقد خُيل لي إن أحد الأشـخاص كان يدق على بابي أثناء الليل ،ومن شـدة التعب لا أعرف أن كان ذلك في الحلم أم في الحقيقـة .. ولذلك فتحتُ الباب بحذر شـديد .. وحمدتُ الله إن أول ضوء للنهار بدأ في الإشـراق .. وأنه لابد من الإسراع بالخروج من تلك الزنزانة العفـنـة .. فقد كانت كل المؤشـرات تؤكد أن هذه الغرفة التي نمتُ بها كانت وربما مازالت زنزانة ،فسـقفها المنخفض الذي لا يزيد عن متر ونصف حتى أني لا اسـتطيع رفع قامتي بدون أن يصطدم رأسـي بالسـقف المصنوع من الخرسـانة الحديدية ،والباب الحديدي المصمت الذي لا يخترقه الرصاص والقفل الكبير والجنزير الحديدي الغليظ الذي لا يمكن كسـره وحجـم الغـرفة الضـئيل والطـرقات الضـيقة المظـلمة والجدران ذات الرائحـة العفـنة والرسـومات التي رسـمها المسـاجين على الجـدران أملاً في الحـرية .
كـانت هذه الليلة كـلها بؤس وصراصير وروائح كـريهة .. لقد كانت مصيبة كبرى .. ولكنني كنتُ من الذين إذا أصبتهم مُصيبة قالوا إن لله وإن إليه راجعون ولا حول ولا قـوة إلا بالله العلي العظيم .. وكنتُ كمن قال: إنني صابرُ حتى يعجز الصبرُ عن صبري ،وإنني صابرُ حتى ينظرُ الله في أمري ،وإنني صابرُ حتى يعرفُ الصبرُ أنني صابر على شيء أمر من الصبرِ .. ولكن لا بأس في كل ذلك .. لا بأس في نـوم ليلة في السـجن .. إذا كان السـجن هو أكثر الأماكـن أمنـاً في هـذه المدينة المشـئومة .. ولكنني الآن أتـوق إلى الحرية وإلى الهـواء النقي .
حملتُ حقيبتي على ظهـري وعصاي في يدي وفتحـتُ باب الغرفة بحذر وأخذتُ أمشـي على أطراف أصـابعي خوفاً من أن يقابلني أحد ويسـألني ماذا افعل هنا ؟.. ثم خرجتُ إلى الممر الطويل إلى الخارج وكان لابد أن أمر من أمام غرفة التفتيش الذي كان بها الرجل السـكير .. وكان الجو مازال هادئاً .. ولا صوت غير أصوات قدماي .. وكنتُ أشــعر أن صوت أنفاسي مرتفعاً مما اضطرني إلى حبسـها فلم يبق إلا خطوات قليلة إلى الخارج .. ونظرتُ إلى الداخل فـوجدتُ الرجل الذي أعطاني المفتاح بالأمس مازال على وضعه الذي تركته عليه .. ومازال يغط في نوم عميق ورأسـه على المنضدة وزجاجة الـ (روم) مازالتْ في يده .. فـوضعتُ المفتاح بجوار رأسـه وخرجتُ مغادراً ذلك السـجن إلى الحرية .. وأحسـستُ بالسـعادة عندما رأيتُ ضوء النهار وشـعرتُ بقيمة الهواء النقي بعد أن تنفسـتُ طوال الليل رائحة العفن والرطوبة في زنزانة رقم 18 في سـجن (مِانتكال) .. لقد مضي الكابوس المخيف ومضتْ الليلة السـوداء إلى غير رجعـة .
المثل يقـول (الجواب يبان من عنوانه) .. إي أن الأشـياء تُعرف من بدايتها .. وإن البداية في (مِانتكال) كانت ليلة تعيسـة في الزنزانة رقم 18 المليئـة بالصراصير ..فقلتُ لنفسي: إن هذه المدينة لا يُرجى منها خيراً ،وعليك أن تغادر هذه المدينة فـوراً ،وإن بلاد الله واسـعة ،وإن ضاقتْ عليك الأرض بما رحبت فأبحث عن الحياة في مكان آخر .. ولذلك قررتُ الذهاب مباشـرة إلى محطة الأتوبيس لمغادرة هذه المدينة إلى أي مكان ما .. المهم أن أخـرج من هذه المدينـة .
قبل أن أصـعد إلى الأتوبيس الذي يغادر (مِـانتكال) سـألتُ أحدهم: هل سـمعتَ عن (هـاتو) يملكه رجل اسـمه (رومان) .. فرد بالنفي تماماً وذكر لي أسـماء هاتو عديدة ولكن ليس بينها ( هاتـو رومـان ).. وربما أنه ليس هناك على الإطـلاق ( هاتـو ) يملكه رجل اسـمه رومـان ..!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى