نـزار عبد الستــار - صندوق الأماني

عندما فتحت له الباب ووجدته معلق القامة بين عكازه الخشبي والصندوق الأحمر ، بدا لها أشد إصراراً علي أن تكون هذه المجازفة هي الأكثر جنوناً في تاريخ محاولاته الفاشلة ، كأن الصندوق قياساً بسمعته العريقة أصغر مما قد يتخيله المرء ، وليس في شكله ما يثير سوي صعوبة التكهن باستعمالاته غير العجيبة مقارنة بوظائف حقائب السفر التقليدية ، كما تدل زواياه المرقعة بالمطاط علي أنه من صناعة ( قيصرية حاج قاسم اغا ) وهذا ما أفقده برأيها ميزة التفرد ، فالناس هنا لا يملون من التكرار وعادة ما يصنعون النماذج نفسها لعدة قرون ، لذلك استبعدت أن يكون هذا الصندوق هو صندوق تحقيق الأماني النسائية لصاحبه ملا فسفيس المشعوذ المشهور . هو أيضاً فكر في هذا الاحتمال ولكنه انحاز لحدسه قائلاً بأن القاعدة الآن هي أن يحتاج الأمر في البداية إلي شئ فريد ، والباقي يترك لخفة اليد .

استعملت أقوي ما في أنوثتها من مؤثرات للتأمين علي آخر خساراته وأفدحها مدينة قناعته العاطفية بأنه الأوفر حظاًُ من مواليد 1960 ، ساعدتها علي هذا محالاتها الفاشلة في استخدام الماء لغسل الصندوق وإبطال مفعول الاستعمالات القديمة . احتفظ بطراوة ابتسامته التي نقلها من ساحة باب الطوب ليومين متتاليين تاركاً نشاطها يجرب مساحقيق التنظيف وسوائل ( الزاهي والقاصر ) المحلية في إزالة الطين الفسفوري ، وغبار المذنبات المشع عن الصندوق الأحمر ، ولكنها دمرت نعومة أصابعها دون أن تتمكن من إطفاء بروقة الفضائية ومن خرق معتقداتها الواقعية ، وأخيراً قالت له أن عليه التكفل به ، ولكن بعيداً عن الحوش لأنها تخاف علي بيتها من فضيحة الألعاب النارية .

تعاوناً علي نقله إلي الحجرة الملاصقة للمطبخ والتي كان يستخدمها كورشة تصيلح للتحف القديمة التي يلتقطها من المزادات والأرصفة وضعاه علي منضدة واطئة من بقايا أثاث غرفة الاستقبال ، وقبل أن تغلق الباب سألته أن كانت لديه أية وسيلة عن كيفية الاستفادة من الصندوق ، أجاب بثقته النادرة التي كان يصبرها بها طوال عقد وربع من الزواج بأنه سيصبح مشعوذاً .

لم تستطع عواطفها معالجة هوسة بالأشياء التي لا تنتفع فمنذ أن عادت من الحرب الأولي بساق واحدة وهو يجد الوقت الوفير لتحقيق أحلامه مستعيناً بمعادنها الأصيلة التي كانت تجعله يبدو أكثر زهواً من معوق لا يمتلك سوي امتيازات الشفقة ، كانت تمرن قلبه علي الاستخدام الأمثل لأطرافه المتبقية مظهرة فوائد أن يكون أكثر خفة وأقل ضجة في حبهما الشرعي . في البداية دأب علي جمع التحف ظناً من سعادته أن الوضع سيستمر علي هذا الرخاء المناسب ، كان يزداد فتنة كلما عثر علي شئ يستحق أن ينظر إليه لسنوات طويلة .

ووجدت في هواياته المسرفة فرصة للتعادل السلبي فقد نسي إلي الأبد أنه بحاجة إلي طفل منها وانشغل بتبذير رواتبه ومستحقاته في توفير الأجواء اللازمة لشخص يحب الحياة ، حتي وصل به الأمر إلي أن يأخذ عشر دقائق من جريدة أم الربيعين التلفزيونية ليعرض أمام ابتسامة فرقد الملائكية القصبة التي كان يكتب بها آشور بانيبال حوليات بطولاته ، والترجيلة التي اخترعها نادر شاه ، والفرشاة التي كانت في يد ( ضرار القدو ) عندما مات ، وزجاجة ربع العرق الأخير للأديب حمد صالح .

تركته ينام مع صندوقه لثلاثة أيام ، كان شعر ذقنه ينمو فيها بسرعة فائقة ،تغير شكله إلي الحد الذي ذكرها بمحاولته الأشد فقراً مع رواج زيت الحبة السوداء عندما كان يفترش الرصيف بخرقة بيضاء في مدخل شارع النجفي ، لم تصدر منه أية ضجة، كان تائه الذهن بين صفحات الكتب الصفر التي عثر عليها في الصندوق مع العصي وقطع الخشب ، وعظام مشدودة بأسلاك تعود لطير الهدهد ، مع هياكل عظمية لقنافذ دندانية الأصل ، وحصي ملون ،وخرز بيضوي ، كان يخبرها في استراحاته القصيرة أنه يحقق التقدم المطلوب نحو لقب خليفة أشهر مشعوذ في تاريخ الموصل ، أحزنها هذا الأمر ، فأزقة (عمو البقال) لم تنس له تهمة الاحتيال التي لحقت بسمعته في العام الماضي ، اعتادت أن تتركه يفعل مايريد لشعورها العميق أن من المشقة أن يولد المرء وهو علي هيئة ذكر ، وأيضاً لأنه أجدر من يثمن الجمال . وعندما بدأ البيوت تعرض أثاثها علي الأرصفة كان يجعل من موافقتها الحد الفاصل بين الفقر والغني فيخرج من البيت بجهاز التسجيل ليعود بعمامة ابن الأثير . ثم يخرج بالثلاجة ليعود بمزهرية كبيرة يقول عنها أنها تعود لسفير الصين في العصر العباسي ، استبدل محتويات البيت بكماليات فقدت أهميتها الاعتبارية علي أمل أن يجد المشتري الذي يفوقه جنوناً ، ولكنه كان يضطر إلي التخلي عن انتظار فرصته الذهبية ليعرض كنزوه ، وهو علي استعداد كبير للتضحية . لم يكن هو من ابتكر تلك اللعبة التي تظهر في موسم الأعياد مثل حلقات مربية علي الأرضفة ، ساعدته في إعداد قصاصات الورق الفارغة بعد أن قال لها أن هذه الحيلة لن تجعل الأولاد يصرفون نقودهم في شراء السجائر لإحراقها في السينمات ، استبدل كل ما يملك من نقود بلعب أطفال مغرية ووقف بها علي رأس شارع الدواسة مع كيسه الحامل لأوراق الحظ بعد أن اتفق مع أربعة من صبية الزقاق مهمتهم سحب الورقة الرابحة لتشجيع الصغار والكبار علي شراء ورقة فارغة بخمسين ديناراً ، نجح في إدارة المهرجان لساعات طويلة وكانت اللعب الفائزة تعود إليه ما أن تتغير الوجوه اليائسة من حظها ، ولكنه لم يعد إلي البيت لأن الشرطة قبضت عليه مع ثلة منمقامري شارع حلب وبائعي صور البنات التركيات .

في اليوم الرابع بدا لها أكثر هدوءاً وأشد غرابة ،أخذ يطيل النظر إلي السقف محركاً المروحة بلا كهرباء ، مما جعلها تظن بأنه سينجح في إخراج الطيور من القبعة، وفي إدخال البيضة في فمه وإخراجها من أذنه . لم تستطع رسم صورة خيالية له وهو يعرض مهاراته أمام الناس ، ولكنها أصيبت بالرعب من احتمال أن يشركها في عروضه فيقطعها بالسيف إلي قطع صغيرة ليعيد تركيبها من جديد بلمسة واحدة . هي تعرف بأن هذا الصندوق هو الأقرب إلي مواهبة من أية حماقة أخري لأنه كان يؤمن بأن الثراء محض سحر وأن الأغنياء هم أكثر الناس استغراباً من سهولة كسبهم المال لذلك لم يكن من المصادفة أن تتعمق علاقته مع مفوض جاسم الذي وجده ابن ناس يقف مع دمعته اللؤلؤية وراء قضبان التوقيف دون أن يمتلك الرغبة في التعايش الوقتي مع المجرمين ، كما أن جسده كان يخلو من الوشم ، وفي وجهه علامات طيبة فارقة . ومن مفوض جاسم عرف بأمر المزايدة العلنية التي أعلنتها مديرية الشرطة وفق قانون بيع وإيجار أموال الدولة رقم (32) لسنة (86) المعدل والتي تضم كما أخبره آلات تاريخية تعود إلي فترة الحكم العثماني مع ملابس وأحذية وساعات يدوية لمجرمين قتلتهم العدالة، وأشياء أخري كثيرة منها صندوق ملا فسفيس الذي كان يسكن في غرفة خرية خلف بناية المديرية في الربع الأول من القرن العشرين ، وأبلغه أمر مركز الأدلة الجنائية قد رفع عن الصندوق بصمات مشعوذ الموصل المعروف ، وأن الملا كما ذكرت التقارير السرية كان يحقق رغبات النساء بهذا الصندوق الذي لا أحد يعرف كيف يعمل .

في اليوم الخامس فاحت من حجرته رائحة كريهة ، وفي المساء ازدحم البيت بالصراصير التي لم تجد ما يتسع لها من شقوق مما جعلها تنتظر الصباح وهي واقفة علي سريرها ، ويعد الصراصير ظهرت الفئران بأعداد خيالية . كانت أليفة ولم تقترب من الثياب والكتب .. واختفت فجأة مع صباح اليوم التالي ، وفي اليوم السابع تلبد الحوش بغيمة صناعية سوداء أغرقت البيت بالمطر وذابت مع بواكير النهار . كان يحاول بذل ما في طاقته الذكائية من مثابرة للوصول إلي العصا التي تحقق الرغبات ولكنه تسبب بلا قصد في استدعاء أشباح موتي العائلة . تركها تثرثر في الحوش مع شبح أمها التي عادت إلي قبرها مع الفجر مؤجلاً الخبر السعيد إلي عصر اليوم التاسع .

عندما خرج من حجرته وفي يده العصا القصيرة التي تشبه ذراع المطرقة ، كان يبدو وكأنهخسر عمره واختصر من حياته السنوات التي بلا فائدة ، بدا لها أصلع الرأس وقد تهدل وجهه بالتجاعيد ، وتبقع جلده ، صار انحف مما يجب ، وقف في منتصف الحوش بعد أن اجلسها علي ( تخته ) الحمام وقال لها بصوت خريه التدخين بأنها تستطيع الآن أن تتمني ما تريد ، اضطراب تفكيرها فهي لا تعرف الشئ الكثير عن المباهج ولا تدري كيف تتصرف إذا ما ألبسها الثياب اللائقة وذهب بها إلي فندق نينوي أو يروي ، لذلك قالت له بأنها تريد استعادة الطباخ الصالون . رفع العصا ثم حركها ببطء فقط فقدح رأسها بغبار نجمي اندفع لأمتار بعيدة وتبدد تاركاً أجمل طباخ رأته في حياتها ، طلبت أيضاً أن يعيد لها التلفزيون الملون . امتلأ البيت باللمعة الخاطفة التي خلفت أكبر تلفزيون في العالم ، طلبت أن يعيد لها الثلاجة ،وعصارة الفاكهة ، والمكواة البخارية ،وأثاث غرفة الاستقبال ، وهدايا زواجها من صحون صينية وملاعق فضية ، وأشواك ، وقدور التيفال وهو يحرك العصا قاذفاً النجوم السحرية في أرجاء المنزل .. وبعد أن أعادت السجاد والساعات الجداررية ، والفرن الكهربائي والغسالة نظرت إليه وعلي وجهها أفتن ابتسامة حب . طلب منها أن تبحث عن أمنية أخري ، قالت له بأنها تريد أن تراه بساقين سليمتين ، قال لها بأن هناك ما هو أهم من ساقه ، ولكنها أصرت علي رغبتها وبشجاعة منتحر فقد الأول والأخير وضع رأس العصا علي القطعة الصغيرة المتبقية من فخذه غمره الضوء القمري للحظات لم انقشعت النجوم عن ساقه التي فتقت فرده البنطلون القصيرة وظهرت بيضاء مزينة بفتائل من شعر أشقر كما كانت عليه قبل انفجار اللغم في الحرب الأولي .

أسقط العكاز ، تركته يسير أمامها لتتأكد من مدي دقة التشابه بين الساقين ، اندفعت بقوة لتضم شيخوخته بين ذراعيها ، عندها قال بصوت حزين :

– تمتعي برؤيتنا ونحن معك لأننا سنتلاشي ، أنا والطباخ والتلفزيون وكل شئ مع صباح اليوم التالي .

نزار عبد الستار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى