د. اشراقة مصطفى حامد - نوال السعداوي نهر الوعي

١)
كنت في يافعة تفتح بذرات الوعي في المتوسطة حين سمعت اسم نوال السعداوي وبعض حكايات عن تمردها ومناصرتها للنساء وبالطبع الكثير من الهجوم القاسي عليها. منذ ذلك الوقت ولم يكف النداء عن تتبع سيرتها إلى أن اهداني عم صديقتي كتابا لها وكان محرضا ببريق ذكي في عينيه حتى توهمت بتظاهرة الفراشات الحاشدة في طرب لعصافير قلبي الغض. لم افهم كل المحتوى حينها ولكن ثمة عصف اصابني دون رحمة.
في زمن لاحق كنت من البنات المحظوظات بأن تكون لهن معلمة في وعي وصمود العز فضل الله. كانت بدايات شغفي بالتهام الكتب التي راقت لي ووجدت فيها عزاء لل ( الأجنحة المتكسرة) وبادية حسن نجيلة وتلك الكتيبات الصغيرة التي لم يضعها أبي في مكتبته انما في ( الخزنة ) التي ملكني اسرارها وكنوزها في تلك الكتيبات الصغيرة للشهيد محمود محمد طه. في تلك الخزنة خبات اول صحيفة سرية للميدان دستها بحرص استاذتي العز فضل الله قبل أن يتم اعتقالها وهي عروس.
٢)
في تلك المكتبة الثرة وجدت ضالتي.. كل كتب نوال السعداوي واخذت اول ثلاث كتب من ذلك البيت العامر بالمعارف؛ آل ابو ادريس. ( المرأة والجنس)/ الرجل والجنس والوجه العاري للمراة العربية وخباتها بخوف وحذر. وحالما ذهب أبي لينام اشعلت الفانوس وبدأت اقرأ. لم انتبه للوقت إلا على وقع اقدامه عند صلاة الفجر وهو يسألني لماذا لم انم؟ لاحظ حينها الكتاب الذي اخفيته تحت الوسادة حافظة قلقي وعصفي الذهني. بيد واجفة مددت له الكتاب وكنت ارتعش من الخوف فكيف تقرأ بنت كتابا مثل المرأة والجنس. بهدوء قال لي: (يا بتي المعرفة ما بنخاف منها المعرفة بخافو عليها). وكانت الميدان السرية التي كنت اقراها مع شقيقتي منى مدعاة لخوف أبي من شراسة امن نميري... لهذا إذن كان يخبيء كتيبات الجمهوريين؟ لم يكن يوما جمهوريا ولكنه كان ومازال يقرأ بذهن مفتوح. منذ تلك الطمانينة لم اكف من الاطلاع على ما نشر لنوال السعداوي وصارت كتبها تزين المكتبة التي جعلت نافذة غرفتنا المائلة بسبب الأمطار مكتبة بعد أن استغنيننا عنها وظلت تحفظ كتبي التي حرقها رجال الأمن بعد اسبوع واحد من انقلاب الانقاذ الإسلاموي.... فهل استطاعوا أن يطفئوا نار المعارف المشتعلة وعيا التي كانت نوال السعداوي احدى جمراتها المشعة؟
٣)
نوال السعداوي تزور فيينا 2002 بدعوة من معهد رينا العالمي للعلوم السياسية. واخيرا ساراها وجها لوجه... اخيرا ساسمعها وكم كانت فرحتي اكبر من تحتملها صغيرتي في بطني الممدوة امامي ذلك حين سألتني مديرة تحرير مجلة التضامن النسوي النمساوية ان كان بالامكان محاورتها.
هدر ذلك النهر القديم... لن انسى بذرات الوعي الأولى ولا روح المقاومة وكنت اسألها في المؤتمر الصحفي قبل لقائي بها مساء في بهو الفندق. أجابت باريحية... حكيت لها ما فعلت بعقلي الغض وبعد ساعة من الحوار الذي تم نشره بعنوان : (المرأة التي تمشي على النار حافية.). تقبلت بذهن متقد اختلافي مع بعض أطروحاتها وناقشتني بندية.
قالت لي ضاحكة بطريقة مرحة ( ده انت عطشتيني باه)... ثم فجأة وبلا مقدمات قالت: (ايه رأيك نروح سيما)؟ أستاذنت دقائق ثم عادت ببنطلون ابيض وحذاء رياضي وتشيرت بسيط وذهبنا.
في السينما بالحي السابع بفيينا شاهدنا فيلما باللغة الانجليزية ... ضحكنا كثيرا حين ابحر جنيني طولا وعرضا في نهر رحمي. ( ماتخافيش انا ممكن اولدك وما تنسيش اني طبيبة)... شكلها بنت متمردة.... قالت ضاحكة ثم هدأ ضجيج الموجات حالما هدأ رفس الاقدام الصغيرة.
٤)
غابت نوال السعداوي وتركت أثرا مضئيا في كل أركان الأرض.... في بيتنا وبيوت أخرى في كوستي... في أرياف ومدن و.... كانت ومضة الوعي الأولى التي يظل شعاعها اثرا في دروب الاستنارة.

د. اشراقة مصطفى حامد

فيينا ٢١ مارس 2021


1616444445539.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى