توفيق المديني - مناهضون للصهيونية.. قراءة في شهادة تاريخية (2/ 2)

مناهضون للصهيونية.. قراءة في شهادة تاريخية (1من2)


ابن جنرال إسرائيلي يتحول إلى ناشط سلام معارض للصهيونية.. (عربي21)
الكتاب: ابن الجنرال رحلة إسرائيلي إلى فلسطين
الكاتب:ميكو بيليد،ترجمة وتقديم محمود محمد الحرثاني
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت ـ 2019.
(302 صفحة من القطع الكبير)

ظهرت الصهيونية باعتبارها حركة سياسية منظمة في نهاية القرن التاسع عشر عام 1898، عندما تأسست المنظمة الصهيونية العالمية وكان رئيسها الأول وصاحب نظرياتها الرئيسية تيودروهرتزل. وهي تمثل حركة عرقية مغرقة في رجعيتها، واكتسبت شرعيتها العاطفية من فكرة الشعب ذي الرسالة الخالدة، أي "شعب الله المختار"، وقدمت برنامجاً سياسياً يأخذ شكل أفكار مجردة أسطورية لحل برجوازي لما سمي "المسألة اليهودية".

وكانت تمتلك قدرة على استقطاب قطاعات واسعة من يهود العالم، واستخدام كفاياتهم، ونفوذهم في الأوطان الذين يعيشون فيها، واستخدام قطاعات منهم، حيث أن البرجوازية اليهودية بوصفها فرعاً عضوياً من حركة الرأسمالية العالمية، كانت تبحث عن طريق جديدة وأكثر فعالية لإعادة اكتساب السيطرة على جماهير اليهود من أجل تدعيم مواقعها السياسية والاقتصادية في العالم الرأسمالي.

والحركة الصهيونية ارتبطت عضوياً بحركة الرأسمالية العالمية، فكانت مرتبطة ببريطانيا، حيث كانت بريطانيا قائدة للعالم الرأسمالي، وأوروبا تمثل مركز الرأسمالية العالمية، ثم ارتبطت بالنظام الرأسمالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث انتقل مركز الرأسمالية العالمية من أوروبا إلى أمريكا.

وكانت الحركة الصهيونية، التي كان الكيان الصهيوني مشروعها الاستعماري الاستيطاني، تجسد فكراً سياسياً يأخذ شكل بنية فكرية متسقة، وأن هذه البنية السياسية، تستغل اليهودي لتكتسب بعداً تاريخياً وإنسانياً، كما تستغل كثيراً من الأفكارالسياسية العلمانية والثورية لإضفاء صفة علمانية أو ثورية على نفسها.

فقد نشأت الصهيونية كحركة قومية، تهدف الحركة الصهيونية إلى تحويل الهوية اليهودية القائمة على التوراة والعابرة للقوميات إلى هوية سياسية (أمة)، أي إلى هوية قومية على غرار الأمم الأوروبية الأخرى، ونشر لغة محلية قومية جديدة مؤسسة على العبرية التوراتية والحاخامية، ونقل اليهود إلى فلسطين.

وقد كان معظم اليهود يعارضون الصهيونية عندما ظهرت، واعتبرها اليهود الفلسطينيون، وكثير من اليهود العرب، تهديدا للتعايش العربي ـ اليهودي، ولا تزال ثمة حركة بين اليهود تعادي الصهيونية. فقد برزت اتجاهات وتيارات وشخصيات سياسية وعسكرية داخل إسرائيل وخارجها تتبنّى مواقف مناهضة للصهيونية، على اختلاف توجهاتهم وأفكارهم، سواء منهم ذو التوجه الديني أو غير الديني، السياسي وغير السياسي.

في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: "ابن الجنرال رحلة إسرائيلي في فلسطين"، الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون، والمتكون من 302 صفحة، وستة عشرة فصلا، والذي ألفه الناشط السياسي ميكو بيليد، المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يدعو فيه إلى إنهاء النظام العنصري في فلسطين، يقدم فيه الكاتب عبر محطات تاريخية من حياته لوحة مؤثرة لإنسان يؤمن بإنسانيته، ويدافع عنها مهما كلفه ذلك.

جذور النشأة والتحول

نشأ الكاتب، ميكو بيليد صهيونياً في إسرائيل، ويهيم بصورة الجندي الإسرائيلي، ويتمنى أن يصبح عضواً في الوحدات الخاصة ويعتمرَ القبعة الحمراء رمز القوة والإقدام في إسرائيل. كان حلمه النهائي أن يصبح جنرالاً مثل أبيه، ماتي بيليد، الذي قاد سرية اشتهرت ببسالتها في حرب 1948، تتحقق أمنية ميكو بدخول الجيش والالتحاق بالقوات الخاصة، ويعود ذات يوم والقبعة الحمراء على رأسه، وفي قلبه فخر قومي لا حدود له.

أما والد ميكو فهو الجنرال ماتي بيليد، الذي كان واحداً من ألمع الضباط الشباب في حرب 1948، عندما كان عضواً في هيئة أركان الجيش ويُعزى إليه بناء الجيش الإسرائيلي، إذ قاد دائرة الدعم اللوجستي ـ أو دائرة اللوازم ـ في الجيش، وتعامل مع ميزانية ضخمة شهدَ له الجميع بحسن إدارتها عبر السنين.

ولكن هذا الرجل الذي ولد في فلسطين وعرف أهلها، وكانت جنسيته بحسب جواز السفر "فلسطيني"، لا يلبث أن ينقشع الوهم عن عينيه ويشق طريقاً جديداً، فيتقاعد من الجيش، ويحاول أن يفهم ذلك الشعب الذي سلبته إسرائيل أرضه، فيقرر أن يدرس الأدب العربي ويقع في حبه وحب أهله، ومن ثم يتحول ماتي بيليد من جنرال مهيب الجناب إلى محاضر في الأدب العربي بجامعة تل أبيب، في تلك الأثناء، تبلورت لديه رؤية لحل الصراع، فكان من أوائل الذين فتحوا خطوط اتصال مع الفلسطينيين، وتطورت علاقته معهم، ودافع عن حقوقهم حتى انفض عنه الإسرائيليون وأصبح متهماً بأنه "حبيب العرب".

يقول المترجم محمود محمد الحرثاني في بداية الكتاب: "من يصبح "حبيب العرب" في إسرائيل فهو بالضرورة خائن. وهذا ما حصل مع ماني بيليد، إذ لم ينفض عنه الناس فحسب، بل ابتعد عنه أصدقاء عمره مثل رابين الذي كان يزوره في بيته ويجلس وإياه ساعات وهما يتحدثان. رابين لم يزر ماني في مرضه، ولم يقدم واجب العزاء إلا من أجل البروتوكول. لقد كان رابين أشد الناس ضيقاً بماتي، لأن ماتي كان أكثر الناس فهماً لعقليته، وذلك لأنه أول من أدرك أن رابين لا يريد السلام مع الفلسطينيين، حتى بعد أن وقع أوسلو. وقد صرح ماتي بهذا وكتب عنه علانية حين نشر مقالة عنوانها: "رابين لا يريد السلام".

ويضيف: "الواقع أن هذه كانت لحظة الانقطاع التام في العلاقة بين الرجلين. تعلم ميكو من أبيه الثبات على المبدأ في صلابة، كما تعلم من أمه السمو، فكان جاهزاً لدفع الثمن، حتى لو ابتعد عنه أصدقاؤه وهجره المقربون، فصبر على آلام التحول، واتخذ له أصدقاء من بين الفلسطينيين، ولعل القارئ سوف يلاحظ أن حضور أصدقاء ميكو من الفلسطينيين وحميمية علاقته بهم في هذا الكتاب أكثر بكثير من حضور أصدقائه الإسرائيليين. ولعل ارتباط ميكو بنادر وعائلته مثال على ذلك" (صص10 ـ 11 من المقدمة).

والد ميكو بيليد هو الجنرال ماتي بيليد. ويظهر ماتي بيليد في سردية إبنه وقد تغير بعد أن اعتراه سمو رحيم، وإن كان متأخراً. ويشعر المرء أنه دخل في صراع مع نفسه حتى وصل إلى ذلك السمو. فقد كان قبل كل شيء صهيونياً مخلصاً، كما كان جنرالاً في الجيش الإسرائيلي، كثيراً ما تمت الإشادة به نتيجة لقدرته على اتخاذ القرارات وشجاعته في القتال، سواء أكان ذلك في مرحلة إنشاء الكيان الصهيوني عام 1947 ـ 1948 (النكبة) أو في حرب حزيران / يونيو عام 1967 التي قامت فيها إسرائيل بحرب استباقية خاطفة ضد جارتها مصر، وتقدمت بشكل غير قانوني لتأخذ أجزاءً كبيرة مما كان يعرف حتى ذلك الحين بفلسطين.

بالرغم من أن الجنرالات كانوا يعرفون أن الجيش المصري كان في غاية الضعف في ذلك الوقت ولم يكن باستطاعته أن يشكل تهديداً عسكرياً لإسرائيل، فقد نفذ الجنرال ماتي بيليد ورفاقه من الضباط خطتهم القاضية بالهجوم على مصر وتدمير قوتها العسكرية. مع ذلك، وحتى قبل ذلك الحدث، بدأت نظرة ماتي بيليد تتغير، فقد تركت مذبحة نفذها جنودٌ إسرائيليون ضد مدنيين فلسطينيين انطباعاً عميقاً لديه بأنه إذا كان لجيش الاحتلال أن يحتفظ بالأرض، فإنَّ هذا يؤدي في النهاية إلى عنف قبيح، لا يحرم الفلسطينيين المضطهدين (بالفتح) وحدهم من الأمل، وإنما يجرد الإسرائيليين المضطهدين (بالكسر) من الأخلاق.

بعد عقود كثيرة قضاها في خدمة الكيان الصهيوني ترك الجنرال بيليد الجيش ليعمل أستاذاً للأدب العربي في جامعتي تل أبيب وحيفا. تعلم العربية وتحدثها بطلاقة. وأصبح ناشط سلام. فقد عمل مع فلسطينيين واتخذ له من بينهم أصدقاء، كما سيفعل ابنه ميكو بعد ذلك بعقود. وكان أحد هؤلاء الأصدقاء رئيس منظمة التحرير الفلسطينية المثير للجدل، الرئيس الراحل ياسر عرفات.

يقول الكاتب ميكو بيليد في معرض سرد حياته: "أبي كان ماتي بيليد.أنا رابع إخوتي. وعندما ولدت في كانون أول (ديسمبر) 1961، كان والدي قد أكمل عامه الثامن والثلاثين. كان طوله 5.11 أقدام، وله منكبان عريضان، وعينان جادتان. ومذ عرفته، كان شعره دائماً مسرحاً إلى الوراء، تتقدمه جبهة عريضة. فقد ترك أبي بصمته في التاريخ الإسرائيلي. أولاً، كضابط شاب ميز نفسه عن غيره في المعارك عندما كان قائداً خلال "حرب الاستقلال"، فلم يكن يخشى شيئاً، وكان ملتزماً ورابط الجأش. وعندما بدأ حياته العملية كضابط، كرّس نفسه لبناء قوة حسنة التنظيم تقاتل من أجل دولة إسرائيل الناشئة. ولكن شهرته في الغالب تعود على كونه أحد جنرالات حرب الأيام الستة عام 1967، عندما احتل الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية، وقطاع غزة، ومرتفعات الجولان، وشبه جزيرة سيناء.

في ما بعد، أصبح والدي أستاذاً للغة العربية والأدب العربي، كما أصبح عضواً فاعلاً في البرلمان الإسرائيلي، وناشط سلام سابقا لعصره بعقود. ولكن، بغض النظر عن القبعة التي اعتمرها ماتي بيليد، سواء أكان جنرالاً أو باحثاً أو أباً فقد كان أسلوبه معتدلاً وعقلانياً.

وكان عمري 14 أو 15 عاماً عندما رآني أدخن. كنت خارج البيت بجانب السيارة وبدأت التدخين، مطمئناً إلى أن أحداً لن يراني، عندما رأيته فجأة يصعد التل. كان مستغرقاً في التفكير، كالعادة، وكانت نظراته إلى الأرض. لم تكن لدي أدنى فكرة عن ردة فعله، ولكني افترضت أنني سأكون في وضع صعب. اقترب مني قبل أن ينتبه ويعرفني، وكانت رائحة دخان السجائر تفوح في كل مكان، وكانت السيجارة في يدي (ص45 من الكتاب).

الصراعات داخل القيادات الإسرائيلية في الخمسينيات

حددت المنافسات السياسية والاضطرابات التي حدثت في إسرائيل في منتصف الخمسينيات وبدرجة كبيرة العلاقة بين الحكومة المدنية المنتخبة والجيش، وكان لذلك أثره على سيرة الجنرال ماتي بيليد المهنية. كان بإمكان المرء على وجه التقريب أن يصنف منهجين للعلاقات الإسرائيلية العربية في الحركة العمالية الحاكمة: الأول، منهج معتدل ودبلوماسي يقوده موشي شاريت، أول وزير خارجية لإسرائيل، وثاني رئيس وزراء. آمن شاربت بأن إسرائيل يجب أن تتجنب الحرب وتبحث عن مفاوضات تنتهي إلى تسوية سلمية مع جيرانها العرب. والثاني، منهج هومي يريد أن يؤسس إسرائيل المتفوقة عسكرياً في المنطقة، وبالتالي لن تكون بحاجة يريد أن يؤسس إسرائيل المتفوقة عسكرياً في المنطقة، وبالتالي لن تكون بحاجة إلى أن تتفاوض من أجل تسوية سلمية.

وكان ديفيد بن غوريون ـ أول رئيس وزراء لإسرائيل ـ قائد ذلك المنهج، وكانت تؤيده في ذلك قيادة الجيش العليا. في عام 1953، قرر بن غوريون الاستقالة من رئاسة الوزراء ومغادرة السياسة، كما قرر أن يعيش في منطقة صحراوية بعيدة في جنوب البلاد، تاركاً منصبه لشاريت.

في عام 1955، ونتيجة لفشل العملية السرية العسكرية الاستخباراتية في مصر والتي أدت إلى استقالة وزير الحرب بنحاس لافون، عاد بن غوريون إلى السياسة وزيراً للحرب. وبمجرد عودته، حاول هو ورئيس الأركان، الجنرال موشيه ديان. أن يطرحا خطة لهجوم إسرائيلي على مصر. عارض رئيس الوزراء شاريت هذه الخطة، وقاد تحالفاً نجح في تعطيلها، أغضب هذا بن غوريون. وعندما جرت الانتخابات في شهر تموز (يوليو) في ذلك العام، قاد بن غوريون حملة شرسة وفاز بالانتخابات كرئيس للوزراء.

وكان هذا الأمرُ مألوفاً في السياسة الإسرائيلية، كما لو كان لعبة "كراسٍ موسيقية" سياسية، وأصبح شاريت مرة أخرى وزيراً للخارجية، ولكن شاريت كان يشكل معضلة لبن غوريون، وذلك لأنه كان معارضاً صلباً في وجه بن غوريون وخطته لمهاجمة مصر، وهي خطة كان شاريت يرى أنها قد تؤدي إلى حرب شاملة لا حاجة لنا إليها، وعليه فقد أحبط عدة محاولات لبن غوريون بالتورط في عمليات عسكرية. وفي النهاية، طرد بن غوريون شاريت. المعتدلون والذين كانت لديهم ميول ليبرالية في المجتمع الإسرائيلي والذين كانوا ينظرون إلى شاريت على أنه "آخر حصون الاعتدال" كانوا غاضبين، ولكن قرار بن غوريون كان نهائياً، لا عودة عنه.

ويستطيع من يقرأ مذكرات القادة الصهيونيين بن غوريون، شاريت، دايان، آلون، غولدا مئير الخ أن يلمس هذه الحقيقة بوضوح. والقيادات الصهيونية نتيجة لذلك، لا تفكر إلا بالحرب والانتفاء وبالخطر، وبحشد القوى، وباستغلال الفرص لتوجيه ضربات، لا بالسلام مع العرب والفلسطينيين. ونقدم هنا بعض الاقتباسات المنقولة عن مذكرات موشي دايان:

يقول شاريت: "أنه ذهب لمقابلة رئيس الدولة بن زفي في 11/10/1953، وكان شاريت وزيرالخارجية، وقد سجل في مفكرته ذلك اليوم ما يلي: وبن زفي أثار كالعادة بعض المسائل الموحي بها، والتي لا غرض لها، مثل: هل لدينا فرصة لاحتلال سيناء ؟ وكم سيكون رائعاً أن تبدأ مصر هجوماً نستطيع أن نصده، ثم نتبعه بغزوالصحراء، وقد شعر باستياء شديد، عندما أخبرته بأن المصريين لا يبدون أي ميل لأن يجعلوا مهمة الاحتلال هذه سهلة لنا، عبر استفزاز دولي من جهتهم "( ليفياروكاش: الإرهاب الإسرائيلي ـ المقدس ص 41).

ويذكر شاريت بعد الهجوم على نحالين ليلة 28/3/1954 أنه تحدث مع تيدي كوليك مساعد رئيس مكتب رئيس الوزراء، ورئيس بلدية القدس فيما بعد وأن شاريت قال له " ها نحن قد عدنا إلى نقطة البداية، أترانا نتجه إلى الحرب، أم أننا نريد تجنبها". ويضيف شاريت: "في رأيي إن قيادة الجيش مشربة باشتهاء الحرب "( المرجع السابق ص 73).

ويذكرشاريت بعد الهجوم على قاعدة للجيش الأردني في عزوي يوم 27/6/1954 "أن تقاريرالسفارات الأمريكية في العواصم العربية، التي جرت دراستها في واشنطن ولدت لدى وزارة الخارجية الأمريكية الاقتناع بوجود خطة "إسرائيلية"للعمليات الانتقامية التي تنفذ استناداً إلى جدول مواعيد موضوع مسبقاً وبأن هدف هذه الخطة هوالتصعيد الثابت للتوتر، وصولاً إلى الحرب". ويصف شاريت " أنَّ الدبلوماسية الأمريكية مقتنعة بأن نية " إسرائيل" هي تخريب المفاوضات الأمريكية مع مصر، وكذلك مع العراق وتركيا وهي المفاوضات الهادفة إلى إقامة تحالفات موالية للغرب "( المرجع السابق ـ ص 75).

ويسجل شاريت يوم 26/5/1955 وهو يعلق على ما قاله دايان: "قال دايان. . إنَّ العمليات الانتقامية التي ما كان باستطاعتنا تنفيذها لوكنا مقيدين بحلف أمني" أي من الولايات المتحدة الأميركية، هي شرياننا الحياتي. أولاً: لأنها تجبر الحكومات العربية على اتخاذ إجراءات شديدة لحماية حدودها. وثانياً: وهوالأمر الرئيس، لأنها تمكننا من الحفاظ على مستوى عال من التوتر بين مواطنينا وفي الجيش. ودون هذه العمليات سنتوقف عن كوننا شعباً مقاتلاً سوف نضيع إذا لم نتمتع بانضباط الشعب المقاتل.

وقبل كل شيء لنتأمل بحرب جديدة مع البلدان العربية، بحيث يمكننا أخيراً أن نتخلص من مشاكلنا، ونحتل مجالنا. والأمثلة على زلات اللسان قول بن غوريون نفسه إن الأمريستحق دفع مليون جنيه لعربي ما لكي يبدأ هذه الحرب (المرجع السابق ص 95 ـ 96).

ويمكن إيراد المزيد من الاستشهادات لتأكيد هذا الخط الصهيوني، الذي أكدته الوقائع، بما لا يدع مجالاً للشك، ومع أن شاريت من قادة هذا الخط، ومن مؤسسيه، فإنه لا يملك إلا أن يبدي ضيقاً داخليا أحياناً.

يقول الكاتب ميكو بيليد في معرض تحليله :"في عام 1956 ، وبابتعاد شاريت عن طريق بن غوريون، وقع الأخير ميثاقاً سرياً مع فرنسا وبريطانيا للهجوم على مصر، غزت إسرائيل بموجبه قطاع غزة وسيناء في ما عرف "بحملة سيناء" ودامت الحرب من 29 أكتوبر وحتى 5 نوفمبر1956، تكبدت إسرائيل 171 ضحية، وخسرت مصر من ألفين إلى ثلاثة آلاف قتيل، وأخذت إسرائيل 6000 أسير حرب وأسر المصريون أربعة اسرائيلين ومثلما توقع بن غوريون وديان تماماً، كانت تلك ضربة مدمرة للجيش المصري.

كانت تلك أول مرة تحتل إسرائيل فيها غزة، وهي منطقة تم تحديد حدودها بشكل اصطناعي على الساحل الجنوبي الشرقي للبحر المتوسط وتحيط بمدينة غزة القديمة، المكان الذي سيق إليه اللاجئون الفلسطينيون الذين تم نفيهم عام 1948 بعد حملة سيناء تم تعيين أبي – الذي كان عقيداً حينها – حاكماً عسكرياً لغزة. حدد هذا الدور شخصية أبي، الأمر الذي ترك أثراً في حياته كلها في ما بعد(ص 55 من الكتاب).
#


*************

مناهضون للصهيونية.. قراءة في شهادة تاريخية (2من2)
توفيق المديني

ضابط إسرائيلي يروي تجربته في جيش الاحتلال ويدافع عن الحقوق الفلسطينية (عربي21)


بداية رحلة ميكو بيليد إلى فلسطين

تبدأ معركة ميكو بيليد مع نفسه عندما يكون في دورية داخل أراضي الضفة الغربية، ويشعر أنه ورفاقه من الجنود "الشجعان" يهلكون حرث فلاح فلسطيني بسيط في الضفة الغربية دون سبب، وعندما يراجعُ ميكو الضابط، مشيرا إلى أن هذا أمر غير لائق، ينهره الضابط ويأمره بالعودة لمكانه في الدورية.

بعد ذلك يرتحل ميكو في الزمان والمكان، وتتطور نظرته النقدية الضدية لكل سلوك تسلكه إسرائيل تجاه الفلسطينيين، فيتخلى تدريجيا عن حلمه الصهيوني حتى يصل إلى مرحلة وصفها ـ في هذا الكتاب ـ بقوله: "لم تعد لدي أي رابطة عاطفية مع الصهيونية"، وذلك بعد عدة تجارب مريرة أوصلته إلى تلك النهاية المحتومة. من هذه التجارب تجربة سمعها مبكرا من أمه، زيكا التي أشربته معاني السمو صغيرا، برفضها سلوك إسرائيل ضد الفلسطينيين، بل وشعورها بالعار إزاء ما يرتكبونه من جرائم.

فقد أخبرته أن الجيش الإسرائيلي عرض عليها بيتا عام 1948 في القدس؛ نظرا إلى كونها زوجة ضابط كبير ولكنها رفضت، متسائلة: "هل آخذ بيت عائلة ربما تعيش الآن في مخيم لاجئين؟! بيت أم أخرى!؟ هل يمكنك أن تتخيل كم يفتقدون بينهم؟" لقد كان شعورها بالعار إزاء ما يفعله الجنود، وتعبيرها عن ذلك مرارا منارة في طريق ميكو نحو إعادة الاعتبار لذاته المتمردة.



لقد تغيرت آرائي بخصوص حل الصراع في فلسطين/ إسرائيل كثيرا، نتيجة لرحلاتي إلى الضفة الغربية، وذلك بعد أن شاهدت استثمار إسرائيل الهائل في البنية التحتية من أجل جذب المستوطنين اليهود، ومن ثم عزل الفلسطينيين الذين تعود ملكية تلك الأراضي لهم.





وعلى عكس الضباط الكبار، كان على والد ميكو، الجنرال متني، أن يكد ويجتهد كي يؤمن له ولعائلته بيتا من عرق جبينه، ولكن التجربة الأكثر إيلاما في حياة ميكو كانت مقتل صمدار ابنة أخته نوريت، ولقد كُتب لتلك الحادثة أن تنقل ميكو إلى مستوى جديد وحاسم من النشاط السياسي.

إن ظاهرة اليهود المناهضين للصهيونية قضية جديرة بالدراسة، إسرائيل شاحاك، إبلان بابيه، نعوم تشومسكي، وغيرهم كُثر، كلهم باحثون مرموقون ومثقفون من الطراز الأول، لا يرفضون سلوك إسرائيل فحسب، بل وينددون به صراحة في كل محفل، ولعل ماتي بيليد كان من أوائل الذين أدركوا العنصرية الكامنة في بنية الكيان الصهيوني، ولأنه كان منسجما مع نفسه فقد أودع أبناءه تلك الفكرة، وأي مؤشر أكثر وضوحا على نجاح إنسان من أن يؤثر في عائلته، رغم أن أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، كما قال العرب.

ليس ميكو وحده في العائلة من يناهض إسرائيل وسياستها ضد الفلسطينيين، فأخته البرفيسورة نوريت، المحاضرة الجامعية، تسير على طريق والدها نفسه. ورغم أنها تتعرض لمحنة شديدة، فإنَّها لم تفقد البوصلة، وظلت توجه اتهامها لقادة إسرائيل، فقد قُتلتْ صمدار ابنة نوريت في عملية استشهادية قام بها شابان فلسطينيان. وعلى عكس ما هو متوقع، كان أول تصريح لنوريت بعد الحادثة أنَّ إسرائيل تتحمل المسؤولية بسبب اضطهادها للفلسطينيين.

يقول الكاتب ميكو بيليد: "وعندما كبرت، بدأت آرائي التي كانت تزداد ليبرالية عن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني تفصلني عن أصدقائي اليهود والإسرائيليين، ولم يفارقني الشعور بالصراع الداخلي والاضطراب، وذلك لأنني ما من مرة عدت فيها إلى إسرائيل، إلا وكنت أجد أن أصدقائي القدامى الذين كان بعضهم يوافقني الرأي قد التحقوا بالإجماع العام، الذي يتحول باطراد نحو اليمين والشوفينية. وعندما كان ابن أفضل أصدقائي على أبواب التجنيد، سألتُ الولد عن المكان الذي سيخدم فيه، فأخبرني أنه يريد أن يلتحق بالقوات الخاصة. نظرت إلى صديقي مندهشا، ثم في ما بعد قلت له: "أنت تعرف أن ما يفعلونه خطأ ـ ألم تخبره"، فأجاب قائلا، "إنك لا تفهم، أنت لا يهمك ابني، كل ما يهمك هو أصدقاؤك الفلسطينيون". أجبته قائلا: "نعم، أهتم بأصدقائي الفلسطينيين، وما تقوم به القوات الخاصة ضدهم سوف تكون له نتائج عكسية، وسوف يتعرض ابنك للأذى بسبب ذلك أيضا. لِمَ لمْ تخبره؟". كانت تلك آخر مرة نتحدث فيها معا.

ويضيف قائلا: "عندما التقيت يهودا أمريكيين، كان موقفي من الصراع العربي ـ الإسرائيلي يزعجهم. في الغالب. اليهود الأمريكيون كانوا يريدون أن يعتقدوا أن إسرائيل صالحة والعرب سيئون. أذكر أنني زرت طبيب عظام يهودي، وبمجرد أن عرف أنني يهودي ومن إسرائيل سمح لنفسه بأن يشن هجوما مسموما ضد العرب، ظنا منه أنني أشاركه المشاعر عن أولئك العرب السيئين". في البداية صدمت ولم أستطع الكلام، ثم أعطيته كرّاسة خاصة بمنتدى العائلات الثكلى، كي أفتح له مجالا للتفكير في الأمر، ولم أره بعد ذلك"(ص 152 من الكتاب).

حل الدولة الواحدة

يؤمن ميكو بيليد بالتعايش مع الفلسطينيين، وينادي بفكرة الدولة الواحدة، حيث يكون هناك دستور واحد للجميع وصوت واحد للشخص الواحد، فهي دولة لجميع مواطنيها، ويرى أنها كذلك في الواقع، وليس علينا إلا أن نعلن تغيير النظام من نظام فصل عنصري إلى نظام ديمقراطي. ولكنه على عكس كثير ممن يؤمنون من اليهود بالحلول السلمية، يؤكد محورية عودة اللاجئين الفلسطينيين. إن قضية العودة هي المحك الأبرز في إخلاص من ينادي بحق سلمي للقضية الفلسطينية. يضرب ميكو مثلا ظريفا على مركزية حق العودة في أي مشروع للحل.

توصل ميكو بيليد إلى إدراك أن إنشاء دولة ديمقراطية تعددية علمانية تقوم على كل فلسطين/ إسرائيل، هو أفضل شيء للإسرائيلين والفلسطينيين، وأن حل الدولتين ليس حلا على الإطلاق. وكانت تلك أكثر نقطة اختلاف بينه وبين صهره رامي. وعندما طُرح ذلك الحل لأول مرة في صيف عام 2007 ، دخل في نقاش حاد مع صهره رامي.

يقول ميكو بيليد: "لقد تغيرت آرائي بخصوص حل الصراع في فلسطين/ إسرائيل كثيرا، نتيجة لرحلاتي إلى الضفة الغربية، وذلك بعد أن شاهدت استثمار إسرائيل الهائل في البنية التحتية من أجل جذب المستوطنين اليهود، ومن ثم عزل الفلسطينيين الذين تعود ملكية تلك الأراضي لهم. وأصبح واضحا بالنسبة لي أن الصهاينة يكذبون عندما يتحدثون عن حل الدولتين. وأصبحت مقتنعا أن الحرية الكونية في وطن يشترك فيه الجميع، أفضل شيء للشعبين. لقد فشل الصهاينة في أن يبرهنوا أنَّ الأمور تسير بشكل طبيعي وسليم عندما يكونون في الحكم. ولذلك كان استنتاجي أنَّ دولة ديمقراطية تعددية سوف ينتفع منها الجميع.

ويضيف قائلا: "قرأ رامي (صهره) المقالة وعبر عن حزنه لأنِّي فقدت الأمل ـ لقد كان محقا من جهة أنني فقدت الأمل من الدولة اليهودية ومن الصهيونية_، ولكن المرء يمكن أن يقول أيضا إنَّني أصبحت أكثر تفاؤلا لأنَّني أدركت أن الإسرائيليين والفلسطينيين يمكن أن يعيشوا معا في وطنهم المشترك. لدي أمل في قدرتنا على العيش في سلام طالما أننا جميعا نملك الصوت نفسه الذي يحدد مصيرنا، وطالما أن الدولة تحكمنا كأكْفَاء.



إن الجواب المعروف بحل الدولتين ينتمي إلى واقع لم يعد موجودا، فالضفة الغربية مثقلة بمدن ومراكز تسوق ومصانع وطرق سريعة، كلها مصممة لليهود فقط، ويمنع الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة من التمتع بأي من التطور الحاصل على أرضهم.





قلت له مؤكدا وجهة نظري: "رامي، أنت تعرف جيدا مثلما أعرف أنه لا يمكن لحكومة صهيونية أن تسمح أبدا بإنشاء دولة فلسطينية على أراضي إسرائيل ـ لن يكون هناك أبدا رئيس وزراء يمكنه أن يُفرط بشرق القدس ووادي الأردن اللذين يشكلان ثلث الضفة الغربية. وبما أن الكتل الاستيطانية الكبيرة التي تستولي على مساحات واسعة من الضفة الغربية لن تعيدها إسرائيل، فأين يمكن أن تُقام الدولة الفلسطينية؟ علينا أن نتحول عن نموذج التفكير الصهيوني الذي يقول إن اليهود يجب أن تكون لهم دولتهم، إلى نموذج جديد يرى كلا من اليهود والفلسطينيين يعيشون معا أكْفَاء في دولة واحدة، ليست يهودية ولا عربية، وتقوده حكومة منتخبة تمثل الجميع"(ص 293 من الكتاب)..

وتؤكد الحكومة الإسرائيلية أنَّ لها الحقَّ في تحديد ممثلي الفلسطينيين كشركاء لإسرائيل في التفاوض، وتستخدم اعتبارات "الأمن" كاختبار حاسم. ونزعت إسرائيل الشرعية بشكل ممنهج عن أي قائد فلسطيني لم يكن على استعداد لأن يقبل "حق" إسرائيل بالسيطرة الكاملة على الأرض والخطاب. وهذا هو السبب الرئيسي وراء سجن، أو اعتقال، أو نفي أو اغتيال عدد كبير من القادة الفلسطينيين. وهذا هو السبب في أن ياسر عرفات قضى أيامه الأخيرة محاطا بالدبابات الإسرائيلية، لأنه رفض أن يقبل سطوة إسرائيل ووحدانية الرواية الإسرائيلية.

لقد خلقت إسرائيل بيروقراطية متكاملة بهدف واحد، ألا وهو جعل حياة الفلسطينين غير قابلة للعيش، ولذلك سوف يجدون أنفسهم في النهاية بلا خيار سوى المغادرة. يصف محامي حقوق الإنسان في إسرائيل ماكيل سفارد الوضع بأنه: "جبال من الحركة الممنوعة والمحرمات، ومحيط من الدران".

إن الجواب المعروف بحل الدولتين ينتمي إلى واقع لم يعد موجودا، فالضفة الغربية مثقلة بمدن ومراكز تسوق ومصانع وطرق سريعة، كلها مصممة لليهود فقط، ويمنع الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة من التمتع بأي من التطور الحاصل على أرضهم. ليست هناك إرادة سياسية في إسرائيل بإعطاء الفلسطينيين حريتهم، كل هذا يعني بوضوح أن الإجابات تغيرت.



يرى ميكو بيليد أنَّ حقَّ العودة يجب أن يكون مضمونا في أي حل. وفي إطار الدولة الواحدة، لا يمانع الكاتب أن يفوز فلسطيني برئاسة البلاد ورئاسة وزارتها طالما أنه جاء بالانتخابات.





إن الجواب على سؤال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الصعب، يمكن استنتاجه من الواقع الذي خلقته إسرائيل؛ فقد اختارت إسرائيل حين حكمت أمتين أن تكون دولة ثنائية القومية. وكل ما تبقى الآن هو استبدال النظام القائم، حيث يتمتع اليهود الإسرائيليون بالحريات وحقوق المواطنة الكاملة، بنظام يسمح للفلسطينيين بالاستمتاع بهذه الحقوق كذلك.

ففي محاضرة حضرتها له في جامعة ماليا بالعاصمة الماليزية كوالالمبور قال ميكو، "إن الصهيونية أعادت اليهود إلى إسرائيل تحت ذريعة أنهم عاشوا في هذه البلاد قبل ثلاثة آلاف سنة، ثم تطالب الفلسطينيين بعدم الحديث عن التاريخ إذا كان لديهم عزم على أن يبرموا سلاما، رغم أن كثيرا ممن طردوا من بيوتهم مازالوا يملكون المفاتيح والوثائق، المقارنة هي أن ستين عاما من المنافي قصيرة جدا قياسا بثلاثة آلاف عام".

ولذلك يرى ميكو بيليد أنَّ حقَّ العودة يجب أن يكون مضمونا في أي حل. وفي إطار الدولة الواحدة، لا يمانع الكاتب أن يفوز فلسطيني برئاسة البلاد ورئاسة وزارتها طالما أنه جاء بالانتخابات. ثمَّ إنَّ أهل تلك البيوت كانوا قد طُردوا منها للتو. وكانت أمه، زيكا، من أولئك الذين استلموا أحد المنازل التي تمت مصادرتها ولكنها رفضت أن تسكنه، إذ كان من غير المحتمل بالنسبة لها أن تجلس وترتشف القهوة في بيت امرأة أخرى، جالسة في اللحظة نفسها ينهشها الجوع، ويحيط بها البؤس مع أفراد عائلتها المذعورين أو الجرحى في مخيم اللاجئين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى