أمل الكردفاني- النظام- قصة

- كيف فكر الآباء الأوائل في ذلك؟
- الأحلام..عالم الأحلام..لم يستطيعوا تفسير ما رأواه وهم نائمون...لم يفهموا ما يجري لهم..فظنوا بأنها رسائل ما..
- إذاً؛ فمن الأحلام بنوا عوالم أخرى..لتمتد حياتهم حتى ما بعد الموت..
- أليس ذلك عظيماً..الأشياء تبدأ صغيرة وتكبر..تنمو كشجرة..تتمدد غصونها، فتصبح فلسفة متكاملة..فلسفة بائسة..لكننا ها نحن هؤلاء .... وصلنا إلى مادية مطلقة مهما حاولنا الهروب منها..لذلك أصبحت حياتنا هي كل شيء ولا شيء في نفس الوقت..
قال ذلك وافترق عن صديقه متجهاً نحو الصحيفة، وهو يدرك أن يداً قد قد عبثت بمقاله قبل النشر. بالفعل كان الرقيب قد حذفه بالكامل وأخبروه بأن عليه تسليم مكتبه.
- أي مكتب هذا يا بلهاء..إنه مجرد درج صدئ..
قال لنفسه وهو يقطع الشارع بسرعة..
- سيعتقلونني..
- هذا صحيح.. نرجو أن تأتِ معنا دون جلبة..
قال بغيظ:
- لن أحدث أي جلبة..لم يعد ذلك مفيداً على أي حال..
صعدوا به إلى الطابق الثاني حيث صالة وثيرة الأثاث، وعلى اليسار مكتب فاخر، وفي الناحية الخلفية طاولة اجتماعات بخشب الماهوجني اللامع..
- مرحباً يا أستاذ حمزة..
لم يجب فتقدم منه رجل في أواخر الخمسين، أصلع منتصف الراس وعلى فوديه شعر ناعم مدهون بزيت مستوردٍ تفوح منه رائحة لطيفة.
- تفضل..نعم هنا إن كان ذلك يناسبك..
إلتقط الرجل أوراقاً وبدأ في مطالعتها من خلف نظارته وهو يهز رأسه بين الفينة والأخرى، ويلحس سبابته ليقلب بها الصفحات.. وبعد بضع دقائق قال:
- أعذرني .. أرجو أن تخبرني يا سيد حمزة بعلاقاتك...دعني..دعني أبدأ بتاريخك الصحفي..أنت صحفي مشهور وغني عن التعريف لكنها مجرد إجراءات روتينية..
ضاقت عينا حمزة وقال بدهشة حانقة وصوت يكاد يشبه الهمس:
- أنا؟...صحفي؟..مشهور؟!
- ألست كذلك؟
أدرك بأن رجل الأمن يراوغه ولكنه لم يعرف المغزى، فهو رجل واضح، لا يخفي شيئاً لأنه لا يملك شيئاً..
- سيد حمزة..
قال حمزة:
- أنا لست سيداً ولا صحفي مشهور.. يمكنني أن أوفر عليك الكثير من الوقت بأن تخبرني بما تريد أو تحولني لجلادي التعذيب..فهذا لا يهمني أبداً..إنني أكرهكم..أكره هذا النظام وهذه التفاهات كلها..أكرهكم لأنكم تعتقدون أنكم أذكياء ولكنكم لستم كذلك بل أنتم فقط محميون بالسلطة..لا أكثر ولا أقل ويوم تنقلب السلطة سوف تتحولون إلى خنازير خائفة مثل الشعب تماماً..
- إنت ناقم على النظام جداً؟..
- نعم..ولكن..لا.. لست ناقماً..أنا أكرهه ولو منحتني سلاحاً الآن فلا أتوقع أنني سأتردد ولو لحظة في قتلك بل وقتل أسرتك وحتى حيواناتكم الأليفة بل وتعذيبكم قبل القتل..لذلك فأنا مستعد بأن تفعلوا بي نفس الشيء الآن..ولن ألومكم على ذلك..
- نحن لا نقتل أحداً يا سيد حمزة..هل رأيتنا نقتل أحداً..
- أريد أن اغادر هذا البلد..لقد حولتموه لمعتقل كبير..
سار في الشارع شبه المظلم، كان هناك مصباح معطوب؛ ينير وينطفئ بلا ثبات، والهواء الليلي ساخن، يصفع وجهه. لا زال مشواره لمنزل عمه بعيداً. لقد أعادت إليه الصحف جميع مقالاته الأخيرة بدون تسبيب.
- لن تجد عملاً بعد اليوم..
إجتر عمه نفساً من سجارته وأضاف:
- لقد أصبحت خارج السيستم يا حمزة..العالم كله ضدك بسبب كتاباتك الحمقاء..إنك لم تعرف مصلحتك أبداً وكان أبوك عليه الرحمة يحذرك من الكتابة في كل شيء..
أطفأ سجارته وقال:
- لم يعد ذلك مجدياً الآن..إنك لم تترك أحداً إلا وسلقته بلسانك السليط في حين أنك لا تملك ثمن القلم الذي تكتب به..
نهض عمه من السرير الذي كان يجلس عليه وقال بصرامة:
- أخرج من منزلي..
رفع حمزة عينيه إلى عمه متفاجئاً لكن عمه لم يزد؛ لذلك غادر على الفور، كان يدرك بأن عمه يخشى أن تتعرض أسرته للعزل كما حدث معه، وعنده حق في ذلك.
- لا أملك حتى حبلاً لأشنق به نفسي..
ثم تكوم تحت ركن منزل محاولاً إغماض جفنيه بلا جدوى فقد كان يتضور جوعاً.
- ظننت بأنك مناضل وها أنت تفكر في السرقة كي تأكل..
رأى شبخ عمه ينحني واضعاً إناءً به طعام، وحاشراً رزمة مالية صغيرة في جيب قميصه.
- لا تتصل بنا مرة أخرى..من أجلي ومن أجل أبنائي..
ثم اختفى الشبح..
كان الصباح مشمساً وحاراً، وأصوات الباعة وحركة أقدام الجماهير المزدحمة تلوث أذنيه..
- لن أستطيع منحك وظيفة أستاذ فهناك قوانين تمنعني من توظيف أي أحد..
- ولكنني خريج جامعي وصحفي مش..
- لا تصرخ يا أستاذ..أنا حقاً أريد أن أخدمك..ولكنني لا أملك مخالفة القانون..
صاح مرة أخرى:
- ولكنني أريد أن أعمل..
- أرجو أن تهدأ قليلاً.. نعم تفضل واجلس..
جلس حمزة أمام مدير المدرسة الخاصة، والذي كان يخفي خوفه منه.
- أنت خريج جامعي وصحفي..ولا يمكنني تشغيلك في وظيفة وضيعة..
قال حمزة مسترحماً:
- أريد وظيفة وضيعة..
- لن تتحمل..
- جربني...
صمت المدير ثم قال بعد تفكير:
- منظف مراحيض..؟ هل تقبل بذلك؟
- أقبل
قالها بدون تردد..واستلم أدوات عمله، شافطة غائطة وجردلين مسلكات ومنظفات..
- سأكون أفضل من ينظف المراحيض..هذا تخصصي..
همس وهو يحرك الغائط الملتصق على حافة المقعد كي يذوب مع دفقات الماء المستمرة..
انقضت السنة الثالثة له في العمل، لقد أنهى اليوم كتابة مذكراته التي لن يقرأها أحد سواه..
" هذه السنة الثالثة لي في العمل كمنظف مراحيض..لقد انقلب العسكر على الرئيس..لكن شيئاً ما لم يتغير..تغير فقط مدير المدرسة..نعم..لا زلنا داخل السيستم.. اليوم أشركوا معي عاملاً جديداً في تنظيف المراحيض..لقد تذكرته على الفور، كان ذلك الضابط الذي التقيته عندما أعتقلت..لقد ابتسم وقال لي بهدوء بأن كل شيء على ما يرام..كل ما في الأمر أن السيستم خرج من سيطرة أشخاص ودخل في حوزة أشخاصٍ آخرين..هم أيضاً سيأتون يوماً ما لينظفوا معنا المراحيض..ثم أخرج سلاحاً وأعطاني إياه قائلاً: هل تريد تنفيذ وعدك بقتلي؟.. أخذت منه السلاح ونظرت إلى أسطوانته السوداء اللامعة، ولا أعرف لماذا تذكرت أجدادنا الأوائل..كان ذلك مضحكاً..بالفعل كان مضحكاً جداً"..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى