لؤي حمزة عباس - النظر إلى التمساح من مسافة قريبة

بعد منتصف الليل بقليل، عند خروجه من محطة الوقود، وهو الوقت الذي يفضل فيه إطفاء راديو السيارة والإنقطاع عن التحدث مع نفسه، رأي تمساحاً يقطع الشارع الخالي بخطوات ثقيلة، كان كعادته قد أنزل زجاج النوافذ وأسلم نفسه لهواء منتصف الليل وهو يسير في الشوارع الخالية، بضوء مصباحي السيارة يحفر الظلام متوغلاً في صمت الليل مفكّراً في معني أن يصحو الإنسان يوماً فيجد نفسه، بعد سنوات طويلة من العمل، قد أكمل السن القانونية وأحيل علي التقاعد، وفي معني السن القانونية التي أعاد قراءتها مرات منذ تسلم الكتاب، في قتامة الحبر وملمس الورقة، يفكّر طويلاً حتي تلوح تباشير الفجر، تصوّر التمساح حجارة متروكة علي ناصية الشارع، وعندما أصبح قريباً أتضح له أن الحجارة لم تكن غير حيوان حرشفي طويل الذيل، ينقل أرجله القصيرة ببطء، تصوّر أصابعه الغليظة تترك طبعاتها علي الأسفلت فأوقف السيارة وانتظر أن يمرَّ، إنها المرّة الأولي التي يري فيها تمساحاً حياً من هذه المسافة القريبة، مرّات قليلة رأي فيها تماسيح حية أو محنطة، في متحف التاريخ الطبيعي قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، يوم كان في مدينته متحف، وفي حديقة الحيوان الواسعة شبه المهجورة في العاصمة خلال إيفاده الرسمي المتكرر إليها قبل تقاعده، كان يحرص علي زيارتها لا لرؤية التماسيح خارج البرك وهي تبدو خاملة ثقيلة الأجفان، بل لأنه اكتشف أن الحديقة هي المكان الأكثر هدوءاً في المدينة الكبيرة الضاجة علي الرغم من كآبة مظهرها، وهو الأمر الذي توصل إليه مثله قليل من الناس، من أبناء العاصمة والموفدين إليها، من مختلف الأعمار وحرصوا علي زيارتها، لم يكن يبدد هدوءها غير إصطفاق أجنحة الطيور المحلّقة من شجرة إلي أخري داخل الأقفاص الواسعة أو صيحات فزع مفاجئة عالية تطلقها القردة بلا مقدمات. نزل من السيارة وأتجه نحو التمساح الذي بدا له في الضوء القوي أقرب إلي منحوتة خشنة الملمس بحدقتين صفراوين، قرفص غير بعيد عنه مواصلاً النظر إليه، من هذا القرب لم يعد التمساح يشبه منحوتة خشنة أو ناعمة، جلده المحزّز صلب وجاف، لونه أخضر طيني وعينه الناتئة نصف المغلقة تنظر بحدقتها الصفراء الزجاجية نحو الضوء بثبات آلي، سأل نفسه ماذا لو كنت أنا التمساح، والتمساح صاحب السيارة وقد قطع مروري البطيئ طريقه فأوقف سيارته ونزل يتفحصني عن قرب، مع نفسه سخر من خواطره الغريبة وبالعين التمساحية رأي نفسه يقرفص، استغرب للمشهد كأنه لم ير رجلاً من مسافة قريبة من قبل، وهي اللحظة التي أحسّ فيها بعاطفة غريبة تجاه التمساح ربما بسبب بطء حركته أو شكل حراشفه التي تبدأ من أعلي رقبته ولا تنتهي إلا بنهاية الذيل، وبصوت بدا جديداً عليه، مفعماً بالعاطفة مثقلاً بالرجاء وجد نفسه يقول:
ـ ما رأيك أن نقضي الليلة معاً، وفي الصباح نري ما علينا أن نفعل؟
انتظر أن يجيبه التمساح باستدارة أو هزّة رأس أو حركة ذيل، لكنه بقي ساكناً كأنما خدّره الضوء، فعدّ ذلك قبولاً وجرّب أن يدفع يده أسفل بطنه المنتفخ ويدس الأخري تحت رقبته ثم يحمله إلي السيارة، لم يكن بالثقل الذي نتخيله عادةً، الثقل الذي أوهمنا به مظهره الحرشفي الخشن و أقنعتنا به قنوات الطبيعة المتلفزة، وربما يعود وزنه المعتدل، بالنسبة لرجل متقاعد يجول الشوارع ليلاً، إلي عمره الصغير نسبياً بالقياس إلي أعمار التماسيح، وضعه في المقعد الخلفي وقد أضيء المصباح الداخلي آلياً ثم عدّل من وضع المرآة الداخلية لكي يكون بإمكانه مشاهدته والحديث معه وهو يقود.
ـ هل تعلم ما تعني رؤية التمساح في الحلم؟
سأل نفسه وهو يواصل القيادة منتشياً بالهواء البارد يمسح صفحة وجهه، وربما وجّه سؤاله للتمساح فلم يعد يفرّق بين كونه رجلاً يحدّث تمساحاً بعد منتصف الليل أو تمساحاً يُنصت لرجل يقود سيارته، كان يواصل القيادة بالمتعة ذاتها منتبهاً للشوارع الخالية مستعداً لما يمكن أن يصادفه من مفاجآت وفي الوقت نفسه يشعر بنفسه مستلقياً بجسده الأخضر الصلب علي المقعد الخلفي.
بعد أقل من ساعة من التجوال وجد نفسه أمام منزله، فكرة حاجة التمساح إلي الماء دعته إلي العودة من دون أن يفكر بما عليه أن يفعل. أنزل التمساح في باب الحمام وتوجّه إلي البانيو، ثبّت السدادة في فتحة التصريف وفتح حنفيتي الماء، في تلك اللحظة سمع صوتاً يحدّثه:
ـ عبور الشوارع الخالية في الليل فكرة طائشة بالنسبة لتمساح.
التفت ورأي التمساح منتصباً علي أرجله ينظر نحوه.
حمله إلي البانيو، أنزله ببطء، غطسّ ثم صعد برأسه خارج الماء..
أبقي مصباح الحمام مضاء وتوجه إلي غرفة النوم، استلقي علي سريره بكامل ثيابه وبالحزام وحذائه الجلد أيضاً، كان يستعيد ما حصل معه الليلة منذ خروجه من محطة الوقود حتي استلقائه علي السرير، ويري، كأنما وراء ذلك كله، كتاب إحالته علي التقاعد بالنسر المطبوع أعلاه، في تلك اللحظة، بين اليقظة والمنام، انتبه إلي أن النسر بلا عينين، عندها أطبق جفنيه الخشنتين كجفني التمساح.
استيقظ فزعاً علي هزيز ريح يخالطه تلاطم أمواج متلاحقة، وحالما فتح عينيه وجد التمساح علي الأرض قرب السرير، إحتاج لبعض الوقت لكي يفهم تحت غلالة النوم أن التمساح غادر البانيو ثم قطع المسافة بين الحمام والغرفة، وقد ترك بابها مفتوحاً، ليتمدد قرب السرير، ولم يكن هزيز الريح وتلاطم الأمواج سوي صوته ذي النبرة المعدنية. نهض من فراشه شاعراً بالعطش وسار محاذراً من جانب التمساح متوجّاً إلي المطبخ، تناول قنينة ماء من الثلاجة وشرب، وبينما كان التمساح ينزل رأسه علي بلاط الغرفة مغمضاً عينيه فكّر الرجل من جديد في الخطوة القادمة التي عليه أن يخطوها ولم يجد في ذهنه أدني تصور عنها، جلس علي الكرسي أمام مائدة الطعام مقابل كرسي زوجته المسحوب قليلاً إلي الجانب، الصحيفة ما تزال مفتوحة علي المائدة وقد خط دائرة بالقلم الجاف حول خبر زيادة أعداد المحالين علي التقاعد مقارنة بأعداد العاملين الشباب في الدوائر الرسمية، حدّث زوجته صباح الأمس وهما يشربان الشاي عن رغبة طلب اللجوء المتزايدة لدي الشبان.
ـ صار اللجوء حلماً يستحق المغامرة..
قال الجملة التي ارتسمت واضحةً علي صفحة ذهنه وهو يقرأ الخبر، فردّت زوجته:
ـ المغامرة كفيلة بمنحهم حياة أفضل..
استغرب أن يسمعها تتحدّث علي هذا النحو وهي التي اعتادت الصمت منذ عشرات السنين كلما فتح أمامها موضوع الهجرة حتي صار حديث الهجرة بالنسبة له ضرباً من حديث داخلي غير منطوق، قلب الجريدة علي الصفحة الأخيرة ورأي أن من الأفضل الأتصال بها في بيت الأسرة حيث تقضي ليلتها والحديث معها بما ينبغي عليه القيام به بشأن التمساح.

لؤي حمزة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى