حاميد اليوسفي - وشم في الذاكرة : بابا رمضاني

كان الناس في نهاية الستينات من القرن الماضي في المدينة العتيقة بمراكش عندما يحل شهر شعبان ، يبدؤون الاستعداد لصيام شهر رمضان . تخرج النسوة في المساء لشراء التوابل والمكسرات والقطنيات . يُركّبن الأطفال على ظهورهن ، أو يسيرون إلى جانبهن إذا كانوا قادرين على المشي ، ويحملن القُفّات والسِّلال في أياديهن للتبضُّع في الاسواق الشعبية . لم تكن هناك متاجر عصرية كبرى مثل (مرجان وكارفور وأسيما) وغيرها ، يذهب اليها الناس لاقتناء حاجيات البيت من المواد الغذائية . لم تكن هناك عربات لحمل المقتنيات تطوف بها النساء أو الازواج أو أطفالهم بين ممرات المتاجر .
شهر شعبان تخصصه النساء كذلك لإقامة حفلات (شعبانة) بين الفينة والأخرى ، في هذا البيت أو ذاك ، فيغنين ويرقصن احتفالا بقدوم شهر رمضان . كما يصمن إما طمعا في أجر ، أو ردا لدين ، أو لتدريب ، وتشجيع الفتيات والأطفال الذين حق عليهم الصيام لأول مرة . وبعضهن خاصة اللواتي كن يعشن في أوساط ميسورة ، يبدأن تهيئ "التقيوتات" أي "البريوات والحلوة الشباكية وسليلو" ...
وفي نهاية شهر شعبان تصعد النساء فوق سطوح المنازل لرؤية الهلال . وإذا أطلقن الزغاريد ، فاعلم أنهن قد تمكن من رؤيته .
أما الرجال فيخرجون إلى أي ساحة واسعة قريبة من الحي ، تُمكن من رؤية الهلال . وإذا كانت السماء ملبدة بالغيوم ، جلس الجميع يستمع للمذياع ، وينتظر الأخبار ، فيعرف ما هي الدول التي أذاعت نبأ رؤية الهلال وستصوم غدا .
نحن الاطفال كنا نسترق السمع من الكبار ، لكن بمجرد ما تزأر الزواكة (منبه تشغله البلدية في شهر رمضان ي، ُصدر صوتا قويا ، يُسمع في جميع أرجاء المدينة القديمة) ، ثم النّفّار، نتأكد بان تباشير (بابا) رمضان قد لاحت ، فنخرج في جماعات ، نعدو ونشدو فرحين ، ونغني بأصوات عالية :
"بابا رمضاني بابا رمضاني *** عليك نبيع سروالي"
بيع السروال تعبير مجازي كان الاطفال يُرددونه دون معرفة واعية بمعناه ، و يترسخ في لا وعيهم كجزء من ثقافة شعبية تنتقل عبر الاجيال . نزع السروال ، وبيعه عند الكبار ، قد يعرض عورة الإنسان للعري ، ويمس بعِرضه ، ويجرده من كرامته أو رجولته . وربما يعبر بشكل أو بآخر عن مكانة شهر رمضان في وجدان الناس (بابا) ، ومستوى التضحية التي يستعد لها أرباب البيوت من خلال توفير الحد الأدنى من اللوازم ، حتى يمر الصيام في هذا الشهر المبارك في أجواء دينية واجتماعية هادئة ، تثير الفرحة والبهجة داخل أرجاء كل بيت ، حتى ولو تم ذلك على حساب بيع الانسان لسرواله .
حركة غير عادية في الازقة . الكبار يتبادلون التباريك . ازدحام كبير أمام متاجر المواد الغذائية .
بعد صلاة المغرب تختنق الحمامات التقليدية بالزبائن ، وتشتغل إلى وقت متأخر من الليل .
المدخنون لا يَسْلمون من شغب الأطفال ، وسخريتهم التي تجمع بين المكر والبراءة :
والكيافة جمعوا شقوفكم *** بابا رمضان جايكم​
كنا صغارا ، نجري في المساء ، ونلهو ، ونردد بصوت جماعي :
"تيريرا تيريرا *** هذا عام الحريرة "​
الحريرة (الحامضة) أشهر وجبة تتفنن النساء في طبخها في شهر رمضان . وهي وجبة يومية ورئيسية لا تكاد تخلو منها مائدة في هذا الشهر العظيم . تتركب من الدقيق والقطنيات مثل العدس والحمص و(الشعرية) أو الأرز فيما بعد والطماطم مطحونة والبصل والكزبرة (القزبر) و البقدونس (المعدنوس) والتوابل التي تضفي عليها نكهة خاصة ، وتلتهم جزءا مهما من ميزانية البيت .
النساء يذهبن الى المطبخ لتهييئ وجبة السحور . بعد عجن البغرير أو المطلوع (البطبوط) ينمن لبعض الوقت في انتظار أن يخمر .
كنا نتناول العشاء بعد عودة الرجال من صلاة التراويح ، ثم نركن إلى النوم ، حتى يوقظنا النّفّار .
النفار له قصة خاصة في مراكش . يقول البعض بان (لالة) عودة السعدية أم المنصور الذهبي ، فطرت بشكل متعمد في رمضان ، ويقول آخرون بأنها كانت في لحظة (وَحْم) . المهم أنها كفّرت عن ذلك ، بأن وهبت جزءا مما تملك إلى النفافرية ، مقابل أن يوقظوا الناس للسحور ، وان يَدْعوا لها بالرحمة والغفران . ومنذ ذلك الحين والنفافرية يعزفون نغما يتجاوب ايقاعه مع عبارات من قبيل :
"عودة كْلات رمضان *** بالخوخ والرمان*** اغفر ليها يا رحمان "​
تستيقظ النساء بعد منتصف الليل على أنغام النفار ، ويقُمن بطهي البغرير فوق زليج أبيض أو أسود ، أو المطلوع (البطبوط) فوق آنية من طين ، أو المقلاة التي بدأت تنتشر بشكل تدريجي في المطابخ التقليدية شأنها في ذلك شأن البوطاغاز التي حلت محل المجمر والفورنو .
يستيقظ الكبار ، ويغسل الجميع أياديهم ووجوههم ، ويجلسون إلى المائدة وينتظرون أن يفرغ الوالد أو الأم من تهيئ الشاي . ويوضع صحن كبير يتوسطه البغرير أو المطلوع (البطبوط) أو (المسمن) مدهون بالزبدة، وأحيانا يضاف إليها العسل . وقد يتناول البعض بقايا (الحريرة) . ويفضل البعض الآخر إنهاء السحور بكؤوس الريب المصنوعة محليا التي توكل مهمة التفنن في إخراجها للفتيات ، أو اقتنائها من عند باعة متخصصين ، يعرضونها بعد آذان العصر أمام أبواب الأزقة و الدروب .
الأطفال الذين لم يلحق عليهم الصيام بعد ، كانوا يستيقظون في بعض الأحيان ، فيشعرون بسعادة غامرة إذا سمح لهم الكبار أن يلتحقوا بالمائدة ، ويتمنون لو كبروا بسرعة ، وبعضهم كان يغامر ويصوم بشكل متقطع رغم صغر سنه ليصبح عضوا رسميا على مائدة السحور بجانب الكبار .
قليلة هي المنازل التي كانت تتوفر على آلات كهربائية لعصر الفواكه . بعض الأسر الأرستقراطية تتناول كل يوم إلى جانب البطبوط والبغرير ، التقيوتات مثل سليلو والبريوات والحلوى الشباكية مصحوبة ببعض أنواع العصير ، وكؤوس الرايب ، وهي أطعمة كانت جد مكلفة في هذه الحقبة بالنسبة لأسر محدودة الدخل . وربما لهذا ارتبط اختلاف أجسام الناس في ذاكرتي بالأطعمة ، فكان البعض يبدو لي نحيفا خفيفا مثل عود الخيزران ، والبعض الأخر بدينا متكرشا غليظ الرقبة .
تُخصص النسوة فترة الصباح من اليوم الأول لمباركة شهر رمضان للعائلة والجيران ، وفي النصف الثاني يبدأن تهيئ وجبتي الإفطار والعشاء .
اليوم الأول يمر صعبا خاصة إذا تزامن شهر رمضان مع فصل الصيف .
في المساء تُوضع فوق المائدة وجبة الفطور ، تتوسطها آنية كبيرة من (الحريرة) الحامضة ، تحيط بها أواني فخارية متوسطة الأحجام (زلايف) بجانبها ملاعق من خشب (مغارف) وصحون صغيرة من سْليلو والتمر والتين وطبق من (البغرير) أو (المسيمنات) وبجانبها صينية تحتوي على براد شاي أو إبريق قهوة بالحليب .
سليلو أو السفوف ، نوع من التقيوتات بلهجة مراكش يُصنع من الدقيق المحمر ، ويُحلى بالسكر ، ويُخلط بنسبة من المكسرات المطحونة ، تختلف حسب إمكانيات الأسر . ويكون ألذ مع الحليب بارد أو الرايب (اللبن الرائب) .
الحلوى الشباكية والبريوات والمقروط لا تظهر على مائدة الافطار عند أغلب الأسر إلا في مناسبتين : ليلة منتصف رمضان ، وليلة السابع والعشرين .
كان الناس قبل آذان المغرب بقليل ، يقدمون الفطور لعمال الفران والحمام والفرناتشي وكل عابر سبيل وقف بباب المنزل .
لا يبدأ الإفطار بشكل رسمي إلا حين يلتحق الكبار بالمائدة بعد الانتهاء من أداء صلاة المغرب في المسجد .
بعد الانتهاء من الفطور ، تقوم النسوة بجمع المائدة ، ويسود صمت عميق كل البيوت . الجميع ينتظر بشوق كبير موعد المسلسل الإذاعي الذي يستغرق حوالي ثلث ساعة . وتنقطع الحركة في الخارج ، فلا تسمع غير صوت الممثل الشهير محمد حسن الجندي رحمه الله ، يصدح بقوة " سموني وحش الفلا " .
سلسلة " سيف بن ذي يزن " الإذاعية كانت تسافر بخيالنا الطفولي إلى عوالم غرائبية يتصارع فيها البطل مع كائنات خرافية من الإنس والجن والشياطين ، تسخرها ضده الساحرة عاقسة . كنا نكره ونخاف من شخصية هذه الساحرة ، ونٌطلق اسمها على خصومنا من الفتيات والنساء انتقاما منهن ، فنتعرض للشتم ، وأحيانا للضرب .

مراكش في 18 أبريل 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى