د. عادل الاسطة - كما لو أني لا أعرف المدينة : باب الساحة في نابلس

قبل عام تعرفت إلى طالبة أصولها مغربية وجنسيتها إيطالية وتقيم في لندن .
طلبت مني إكرام ، بتوجيه من زميل لي في الجامعة ، أن أساعدها في قراءة رواية خليل بيدس " الوارث " ، حتى تقدم مراجعة لها في إحدى مواد تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها .
اقترحت إكرام إن لم يكن لدي مانع أن تزورني مرة كل أسبوع لنتحدث معا بالعربية التي تسعى إلى تعلمها كلغة أجنبية ، فهي عربية الأب إيطالية الأم ، وكان والداها يتكلمان الإيطالية ونادرا ما تكلم أبوها معها بالعربية وقليلا ما كانت تزور المغرب ، وإن زارته تكون الزيارة قصيرة غير كافية لتعلم اللغة .
اصطحبت إكرام إلى البلدة القديمة في جولات عديدة أعرفها عليها ، وقادتني أسئلة السكان وأصحاب المحلات إلى معرفة نابلس التي أتجول فيها منذ عقود دون أن أعرف خباياها ، وشاهدت أماكن لم أكن شاهدتها من قبل.
غالبا ما أجلس في نابلس في مقهى البرلمان ، وفيه أصغي إلى كبار السن يتحدثون عن القضايا الاجتماعية ، وقد دونت هذا عشرات المرات على صفحات الفيس بوك ، وكانت كتابتي تجد صدى لا بأس به .
عرفت مثلا أن هناك يهوديا واحدا كان يقيم في المدينة قبل العام 1948 وكان كندرجيا واسمه ( افشالوم ) وعرفت أن جامع الخضر في البلدة القديمة أقيم على قطعة أرض قدمتها الكنيسة للسكان ليقيموا عليها المسجد ، وعرفت معلومات عن أصول بعض العائلات وعن تحولها إلى الإسلام ، وعرفت أيضا أن أهل المدينة استغربوا قبل العام 1948 من مواطن زوج ابنته لرجل خليجي ، وظل السكان يخوضون في أمره حتى هج من نابلس إلى عمان . طبعا نابلس الآن اختلفت وصارت مدينة تضم في مبانيها اللاجئين والريفيبن والأجانب و..و..
الحكايا السابقة قليل من كثير سمعته ودونته.
أنا من محبي البلدة القديمة عموما وفيها قضيت أياما أزور بيتي خالتي الاثنتين اللتين أقامتا في البلدة القديمة ، ومع ذلك لا أزعم أنني عرفت نابلس معرفة جيدة .
مثلا لم أزر قصر آل عبد الهادي إلا في نهاية انتفاضة 1987 وهالني ما رأيت ، ولم أدخل قصر آل طوقان إلا العام الماضي بصحبة إكرام ، ولم أر دار عرفات إلا من أشهر حيث رافقت المحامي فؤاد نقارة في زيارة المهندس نصير عرفات ورأيت عوالم بدت لي غريبة ومذهلة .
الأماكن التي زرتها دفعتني لإثارة سؤال هو :
- لماذا لا تتحول البلدة القديمة في نابلس إلى منطقة سياحية يؤمها طلاب مدارسنا ويتجولون فيها ويتعرفون إلى مدننا القديمة والبناء العمراني فيها؟
مؤخرا انتهت بلدية نابلس من إعادة رصف ساحة باب الساحة ، والساحة الآن تبدو أجمل ، وهي ساحة غالبا ما يزورها المواطنون وغالبا ما تكون مسرحا لنشاطات اجتماعية في المناسبات الدينية والوطنية .
أعرف باب الساحة من عقود ، ولما كتبت سحر خليفة روايتها " باب الساحة " ارتبط اسم الرواية في ذهني أكثر من ارتباط المكان فيه ، علما بأنني أزور المكان يوميا تقريبا ولا أعود للرواية إلا عند الضرورة .
من أربعة أيام أو خمسة أيام جلست على المقاعد الخشبية التي وضعتها البلدية هناك ، وبعد وقت وجدتني أسلم على "أبو عماد حلاوة " وهو مواطن نابلسي في الحادية والثمانين من عمره ، وكنت تعرفت إليه من عقدين من السنوات ، فقد كان يتردد على المنتدى التنويري الذي استضافني مرارا لأحاضر فيه في موضوعات ثقافية ورموز أدبية .
أبو عماد كبابجي وهو صديق للشيوعيين منذ كان يافعا ، وقد أخبرني أنه كان مناصرا لعصبة التحرر الوطني وأنه ما زال نصيرا للشيوعيين ، وقال لي إن الديانات بقدر ما أفادت البشرية بقدر ما جرت الحروب بين أتباعها ، ما جعلني أردد على مسامعه أبيات المعري :
" في اللاذقية فتنة ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يصيح .."
ومن " أبو عماد " عرفت معلومات لم أكن أعرفها من قبل ، فأدركت أنني كلما عشت أكثر اكتشفت صدق ما قاله أبو نواس في النظام :
"فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء "
ولقد حفظت شيئا وغابت عني أشياء .
من "أبو عماد " عرفت أن الرئيس العراقي الأسبق عبد السلام عارف كان في نابلس في باب الساحة وأنه شارك في معركة جنين .
تحدث " أبو عماد " عن تلك الأيام كما لو أنها تحدث أمامه الآن .لم تغب أسماء عبد الوهاب الشواف من الموصل المتمرد على عبد الكريم قاسم عن ذهنه ، ولم يغب طاهر الزبيدي القائد العام للقوات العراقية عن ذاكرته . بل إنه ذكر لي اسم عبد الكريم حسونه الذي ألقي القبض عليه وهو يحارب مع القوات اليهودية في معركة جنين . كان حسونة من بين اثني عشر مقاتلا من عصابات اليهود في حينه أسرهم الجنود العراقيون وجلبوهم إلى نابلس ومرروهم في باب الساحة . طلب الجنود العراقيون من المواطنين ألا يشتموا وألا يبصقوا وأخبروا المواطنين أن هؤلاء الأسرى يجب أن يعاملوا معاملة الأسير وأنه ستجري مبادلتهم بأسرى عرب وقعوا بأيدي مقاتلي العصابات الصهيونية . والوحيد الذي أعدمه العراقيون كان عبد الكريم حسونة فقد نظر إليه على أنه خائن ، وما زال أبو عماد يتذكر منظر جثة حسونة قرب جامع الحج نمر معلقة بحبل المشنقة .
سألت "أبو عماد " عن أفضل فترة شهدتها باب الساحة ، فأجاب :
- أقصر حكم من أيام العثمانيين.
أبو عماد يتحدث عن الحكم العثماني والانتداب البريطاني والجيش العراقي والحكم الأردني والاحتلال الإسرائيلي ، ويعرف أن حكم العراقيين كان عابرا ، ويعد وجودهم حكما فقد كانت منطقة شمال الضفة الغربية من مسؤولية الجيش العراقي ، خلافا لمناطق جنوب فلسطين وشمالها ومنطقة القدس .
تحدث أبو عماد عن شجاعة الجيش العراقي ونخوته وهبته لتحرير جنين ، وتحدث عن رجولة العراقيين وكرمهم ووصف لي ردة فعلهم عندما سمعوا أن العصابات الصهيونية استولت على جنين .
- منذ متى وأنت في المطعم يا أبا عماد؟
- منذ وعيت وكنت شاهدا في العام 1948 على ما جرى .
- ألم تغادر نابلس؟
- غادرتها إلى دمشق في أثناء ملاحقة الشيوعيين وزجهم في السجون في 50 القرن العشرين وسرعان ما عدت .
- وكيف الأوضاع الاقتصادية في هذه الأيام؟
الأوضاع الاقتصادية ليست جيدة ، ويقترح أبو عماد الآتي لباب الساحة :
- ماذا لو استأجرت البلدية هذه البناية وحولتها إلى محكمة شرعية لعقد قران بعض قرى الريف؟ إن هذا سيحيي المنطقة المحيطة بها كلها.
- هل ما زلت يساريا ؟
- إنني أحترم اليسار و أقدره .
أبو عماد في الثانية والثمانين من عمره وما زال يعمل في مطعمه ، فالجلوس في البيت مرض ولا بد من الحركة .
قال لي أبو عماد لم يبق من جيلي إلا هذا الرجل ، وأشار إلى رجل من آل حموضة ، وقال لي إنه أكبر منه بعام فقد ولد الرجل في 1935 وولد أبو عماد في 1936 .
مطعم ابو عماد يقابل جامع النصر ، وكان مكان الجامع قبل مئات السنين كنيسة . هكذا أخبرني . وخلف الجامع توجد حلويات الأقصى وهي أشهر حلويات في المدينة وتقتصر على الكنافة .
كما لو أنني لا أعرف المدينة ، كما لو أنني لا أعرف باب الساحة في نابلس .
الجمعة 12 نيسان 2019





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى