د. إيمان الزيات - الفن والتحولات الاجتماعية

لطالما كان الفن مرآة تعكس صورة المجتمع، و مذياعاً ينقل صوت الشارع وشكواه.

إن قوة الفن الناعمة قوة لا مثيل لها ولا تضاهى؛
وحده الفن هو ما يستطيع أن يمتلك سائر حواسك السمعية والبصرية، الإدراكية والشعورية؛ فيحولك تحولاً حقيقياً من (مع) إلى (ضد) وبالعكس، كما أنه صيغة تخاطب إبداعية و مهارية بامتياز.

قادر على التجسير، يستطيع أن يَعْبُر بك، ويُعبِّر عنك في آن، إنه كالمعالج النفسي الذي يمكنه أن يُخرج من التراجيديا كوميديا عميقة.

كما يتمتع الفن بصفة ضبطية، ويقوم بوظيفة رقابية عظيمة مكنته دوماً من التصدى للعادات العقيمة، والظواهر الفجة، ومناهضة انحراف السياسة و الإشارة لعور القانون.

يتصف الفن بقدرته على التغيير، وبفاعليته في التقريب بين الشعوب، و بناء الأوطان.

ولما لا..؟! وهو الذي اجتمعت فيه سائر القدرات و امتلك أدوات السحر ووسائل التأثير من قوة الكلمة المكتوبة، وسلطة الأداء التمثيلي، و سحر الموسيقى، وروعة المشهد الذي يجمع المكان المؤثر ويستحضر الزمان المهم، انه مجمع القوى وخلاصة الابداع.

وليكن حديثنا اليوم في الذكرى 68 لثورة 23 يوليو
التي كانت بحق ثورة فنية بامتياز؛ فقد ساهمت بطريقة ما في ازدهار الفن وكانت سببا فى صنع عصره الذهبي، لما تم فيها من تعديل لوضع الممثل ومنحه مكانة جيده في مجتمعه بعدما كانت شهادته لا يؤخذ بها في للمحاكم، كما تم إنشاء وزارة للثقافة لأول مرة في مصر وإنتاج 700 فيلم مصري مقابل 2000 على مستوى العالم.

وتحضرني هنا واقعة حدثت عندما كان يزور الرئيس جمال عبد الناصر المغرب، وقابله مواطن مغربي لتحيته، فعندما سمح له الرئيس بمصافحته، قال له المواطن: “سيدي الرئيس هل يمكن أن توصل سلامى للفنان إسماعيل ياسين؟”، وبعد هذا الموقف كان لإسماعيل ياسين دورا بارزا وهاما فى دعم ثورة 23 يوليو ورجالها من خلال سلسلة أفلامه الشهيرة الذي بدأها بفيلم “إسماعيل يس في الجيش” لتحفيز الشباب على التطوع في الجيش المصري، وتلاها بأفلام “الأسطول، والطيران” والبوليس الحربي” وحتى عند إعلان الوحدة مع سوريا قدم فيلم “إسماعيل ياسين في دمشق” وذلك وفقا لخطة الرئيس عبد الناصر حينها لتأكده من أهمية السينما.

ومن أبرز افلام هذه الفترة أيضاً فيلم بورسعيد 1957 عز الدين ذو الفقار، رد قلبي 1957 يوسف السباعي، بداية ونهاية 1960. نجيب محفوظ، الباب المفتوح 1963 لطيفة الزيات، الايدي الناعمة 1964 توفيق الحكيم، في بيتنا رجل 1964. إحسان عبد القدوس، القاهرة 30 1966 نجيب محفوظ.

وهي افلام تندرج تحت فئة “الفن السياسي” وتنقسم الأشكال التقليدية للفن السياسي إلى مجموعة أقسام منها: الفن المتواطئ: ويصبح الفنان فيه وبشكل طوعي أو قسري همه الأول إرضاء توجه معين أو ذوق عام تحت ضغط اقتصادي أو اجتماعي ما.

الفن المعارض: وهو الفنان الرافض لفن الوصاية والفن المتواطئ ولأي فكرة أو واقع أو نمطية سائدة.

الفن الملتزم: وهو الفنان الملتزم بالقضايا التي يؤمن بها أو فكرة أو مبدأ أخلاقي الخ، والتي قد تتقاطع مع قضايا الوطن والأمة، وليس بالضرورة أن يتبنى الفنان الملتزم شعارا ما، وإنما يكفي أن يمارس فنه ضمن حياته اليومية المعاشة بكل ماتحتويه من تفاصيل يعيشها مع أبناء مجتمعه بشكل يومي.

قبل قيام الثورة كانت السينما المصرية في عهد الملكية تعمل وفق ما نسميه” بفن الوصاية” الذي يطيع رمزا أو شعارا اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا أو ماديا مهيمنا، ويصبح الفن في هذه الحالة فنا شموليا لايخرج خارج هذا الرمز أو الشعار، ولا تتناول الموضوعات “الحكم” أو السياسة بشكل عام، وكان المجتمع حاضرا في الموضوعات التي تدور حول الزواج من أجنبيات، أو زواج الأغنياء من الفقراء في السر فقط، و عطف الأغنياء على الفقراء، أو السخرية من بعض العادات والتقاليد السائدة فى الأوساط الشعبية والأوساط الغنية.

و فى مصر نجحت 3 أفلام فى تعديل الدساتير، وسلطت الضوء على عوار قانونى جعل خبراء القانون يقرون تعديلات ما زلنا نلمس آثارها الإيجابية حتى الآن.

وهي “جعلونى مجرما” 1954:بعد عرض فيلم “جعلونى مجرما” صدر قانون ينص على الإعفاء من السابقة الأولى فى الصحيفة الجنائية، حتى يتمكن المخطئ من بدء حياة جديدة.

فيلم “كلمة شرف” 1972: يرجع الفضل لهذا الفيلم بعد عرضه فى السينما فى تعديل قوانون زيارات السجون، وسمح للسجين بأن يجرى زيارة استثنائية خارج السجن فى الأعياد والمناسبات، أو إن كان أحد الأقرباء مريضًا.

فيلم “أريد حلا” 1975: أثار الفيلم موجة من الجدل فى المجتمع المصرى بعد عرضه، وتسبب فى تغيير قانون الأحوال الشخصية ليعطى المرأة حق خلع نفسها من الزوج.

عالميًا كان للسينما تأثيرا قوياً أيضاً فى تغيير قوانين بعض البلاد الأوروبية، بعد إلقاء الأفلام الضوء على سلبياتها وعوارها منها فيلم Rosetta 1999، فبعد عرض الفيلم، صدر قانون فى بلجيكا يحظر على أصحاب العمل تشغيل المراهقين بأجر أقل من الحد الأدنى للأجور. الفيلم إنتاج فرنسى بلجيكى، يدور حول فتاة تدعى “روزيتا” تهرب من والدتها مدمنة الكحول لتبحث عن أى عمل، يستغلها أصحاب الحرف للعمل بأجور زهيدة.

د/ إيمان الزيات
عضو معهد دراما بلا حدود الدولي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى