سعيد ناشيد - الاقتصاد الإسلامي شائعة روج لها فقهاء الإسلام السياسي

يقال إن المال جبان. لكننا نعرف أيضا أن الجبناء قد تستهويهم الوصفات السحرية، وأن قوة المال قد تجعل الوهم أقوى من العلم والعقل والواقع.

شملت الموارد المالية لتيارات الإسلام السياسي أربعة محاور أساسية: أولا، منطقة الخليج العربي، لا سيما أثناء احتضان المملكة العربية السعودية لإخوان مصر في خمسينات وستينات القرن الماضي، في مواجهة المشروع الناصري، وأثناء احتضان قطر لهم اليوم سعيا إلى ترويضهم. ثانيا، شبكات الجمعيات الخيرية الناشطة بين صفوف الجاليات المسلمة في ضواحي العواصم الغربية، لا سيما في بريطانيا. ثالثا عائدات المشاريع الاستثمارية التي أنشأها الإسلام السياسي في مختلف ربوع العالم. رابعا تبرعات المنخرطين والمتعاطفين. وقد كان لسخاء التمويل أثر بليغ في جعل المال يصبح ضمن أفق الاجتهاد الفقهي في الاقتصاد المالي.

في هذا الإطار حاول فقهاء الإسلام السياسي تسويق أسطورة الاقتصاد الإسلامي، وذلك باعتماد ادعاءين اثنين: أولا، أن الاقتصاد الإسلامي يطهّر أموال المسلمين من “رجس الربا”؛ وثانيا، ادعاء امتلاك الإسلام لنظرية اقتصادية متكاملة وصالحة لكل زمان ومكان. وقد تم التعسف على الكثير من النصوص الدينية لأجل ادعاء أن “الاقتصاد الإسلامي” ينافس النظريات الاقتصادية المعاصرة، بل مرشح لكي يقضي عليها بالضربة القاضية.

ربما يكون لمالك بن نبي قصب السبق في استعمال مصطلح “الاقتصاد الإسلامي”. ورغم أنه لم يقصد به الابتعاد عن الدلالة الجغرافية، إلا أنه زرع في المقابل بذور ادعاء أن تحريم الربا هو أساس الاقتصاد الإسلامي. فقد كتب يقول “يقرر الإسلام مبدأ آخر يضعه كأساس لبناء الاقتصاد؛ وهو مبدأ تحريم الرِّبا. فكان لهذا التحريم الأثر الكبير في تحديد صورة الاقتصاد الإسلامي، بحيث أضفى عليه من اللحظة الأولى الطابع الديمقراطي لأنه لم يسمح بالتجارة في المال والنقود التي تقوم على مبدأ الرِّبا، وتحتكرها بعض البنوك”.

في كل الأحوال، رغم أن فقهاء الإسلام السياسي كتبوا مئات الصفحات حول مصطلح الربا، إلا أنهم لم يقدموا أي تصور لكيفية التعاطي مع العملة ذات القيمة المتغيرة، وكذا عن ارتباط السوق الدولية بالفائدة، وعدد آخر من التفاصيل المالية التي تجعل مفهوم الربا لا يناسب سوى اقتصاديات الأزمنة القديمة، حيث كانت العملات تتضمن قيمتها في ذاتها (كمية الذهب أو الفضة في القطعة النقدية)، وهو ما كان يعطي معنى واضحا لضرر الفائدة بنحو مختلف تماما عن سياق العملة المتغيرة اليوم.

تبلورت خديعة الاقتصاد الإسلامي أثناء احتدام الصراع بين النظرية الاقتصادية الاشتراكية والليبرالية في الحرب الباردة، حيث سيزعم الإسلام السياسي بأنه يمثّل طريقا ثالثا على منوال الشعار، “لا شرقية ولا غربية”، وليس يخفى ما في ادعاء الطريق الثالث من إغراء كبير، حتى وإن كان لا يؤدي إلى أي شيء.

سبق أن أصدر سيد قطب كتاب “الإسلام والعدالة الاجتماعية”، ثم تطرّق إلى نفس الأمر في فقرات من تفسيره للقرآن، وفي كل ذلك حاول أن يقدم تصورا للإسلام يجعله قريبا من المبادئ الاشتراكية. غير أن كتاب “اقتصادنا” للمرجع الشيعي محمد باقر الصدر يبقى المصدر الأكثر شهرة في محاولة “أسلمة” مبادئ الاشتراكية التي نجحت في اختراق وجدان المجتمعات المسلمة إبان الحرب الباردة. حاول الصدر ابتكار نظرية “إسلامية ماركسية” باستعمال مفاهيم الفقه الشيعي، على منوال ما فعله علي شريعتي في تنظيره للثورة.

رغم جهله بعلم الاقتصاد، لم يتأخر يوسف القرضاوي في الالتحاق بجوقة المبشرين بالاقتصاد الإسلامي، معوّلا على فن الخطابة الدينية، وعلى مصطلحين لا ثالث لهما؛ الزكاة والربا. كتب يقول “إن في الاقتصاد الإسلامي موضوعين رئيسيين يجب أن يُدْرسا ويُخْدما ويُجَلَّيا من كل جوانبهما: وهما موضوعان متقابلان: أحدهما في الجانب الإيجابي، والثاني في الجانب السلبي، أحدهما في فرائض الإسلام بل في أركانه الأساسية الخمسة، والآخر في محرمات الإسلام بل في الكبائر الموبقات السبع؛ فالأول هو الزكاة، والثاني هو الربا، فمن أنكر فرضية الأول، أو حرمة الثاني كان كافرًا مرتدًا بالإجماع”. شهد موقف القرضاوي انتقالا من تأييد النظم الاجتماعية إلى تأييد النظم النيوليبرالية. ففي أحد كتبه سيحدد بعض القواعد الأخلاقية “القواعد الأساسية التي يقوم عليها بناء الاقتصاد في المجتمع الإسلامي، وأهم هذه القواعد هي: اعتبار المال خيراً ونعمة في يد الأخيار؛ المال مال الله والإنسان مستخلف فيه؛ الدعوة إلى العمل والكسب الطيب، واعتباره عبادة وجهاداً؛ تحريم موارد الكسب الخبيث؛ إقرار الملكية الفردية وحمايتها؛ منع الأفراد من تملك الأشياء الضرورية للجماعة؛ منع المالك من الإضرار بغيره؛ تنمية المال بما لا يضر الأخلاق والمصلحة العامة؛ تحقيق الاكتفاء الذاتي للأمة؛ الاعتدال في الإنفاق؛ إيجاب التكافل بين أبناء المجتمع؛ تقريب الفوارق بين الطبقات”.

لكن، في كتاب آخر أصدره عقب انهيار المعسكر الاشتراكي سرعان ما ستظهر النزعة النيوليبرالية واضحة فاضحة، إذ يقول “يقوم الاقتصاد الإسلامي على مداخل هامة تغني عن الضرائب، منها: الزكاة العامة وزكاة الفطر والصدقات”. وهنا لنا أن نتساءل أليس الاستغناء عن الضرائب هو الحلم النهائي للنيوليبرالية؟

بعيدا عن التنظير، فإن ما يطبع تجربة حكم الإسلاميين هو التخلي عن الخدمات الاجتماعية. في المغرب مثلا سرعان ما تحول الإسلاميون بعد وصولهم للحكم إلى موظفي حسابات، غايتهم القصوى إرضاء البنك الدولي في تمرير برامج التقشف، فقد أقدموا على أخطر تعديل اقتصادي اجتماعي، وهو تحرير أسعار المحروقات، وإلغاء صندوق دعم المواد الأساسية، والإجهاز على مبدأ مجانية التعليم، والاقتطاع من أرزاق المتقاعدين، وغيرها من الإجراءات التي تمت بعقلية المحاسب الذي يحاول أن يرضي رب العمل في توفير المال على حساب المجتمع.

على المستوى القيَمي انسلخ الإسلاميون عن بقايا النزعة الإنسانية داخل النظام الرأسمالي العالمي. وتطفل فقهاء الإسلام السياسي على الكتابة في العلوم الاقتصادية، ولم يكتب أحد منهم -حسب تتبعنا لكتاباتهم- عن قيمة التضامن في القوانين الضريبية، ما يعني الاستهانة بالوظيفة الأساسية للدولة الحديثة. فالتخلي عن أداء الضريبة في العالم المتحضر فضيحة أخلاقية بكل المقاييس، وجريمة يعاقب عليها القانون، لأنه ببساطة إخلال بمبدأ التضامن المجتمعي. والتهاون في الواجبات الضريبية يترك المجتمع عرضة للهشاشة والفقر والتخلف.

المعضلة أن أداء الضرائب في ذهنية الإسلام السياسي هو من باب إعطاء الأموال دون وجه حق من النص الديني، وذلك حسب المنظومة الفقهية التي يعتبرها الإسلاميون فوق القوانين. وفي كل الأحوال تتعرض حقوق المجتمع في محاربة الفساد المالي للإهمال من لدن حكام الإسلام السياسي. نتذكر كيف انتهت حكومة الإسلاميين بالمغرب، في عهد عبدالإله بنكيران، إلى إصدار صكوك الغفران لناهبي الأموال، والمتهربين من الضرائب، باستعمال آية “عفا الله عما سلف”، وأهدر بذلك حق المجتمع في مبالغ كبيرة، وذلك بسبب التصور الفقهي الذي يرى الفساد، كل الفساد، في التنورة ولا يراه أبدا في التهرب الضريبي أو غسيل الأموال أو إغراق البلد في المديونية الخارجية.

سعيد ناشيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى