حيدر الناصري - الصلاة خلف عازف التشيللو.. قصّة قصيرة

"مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ"
- رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 5: 19-
: ياصديقي العزيز، لا طوب لي، لكنّي أسمع تهشّمًا في داخلي، له دويٌّ كدويّ انهداد المباني الكبيرة، وفي أكثر أحوالي أكون هائمًا تائهًا، في وسط هذا الخراب المسمّى عيش، أفتّش- وربما يشاركني آخرون الفعل ذاته- عن شيء لا أقدر أن أصفه أو أحيله إلى وجود.. لعلّه ظمأ، وفمي كفمِ طفلٍ، لا يملك سوى البكاء المبهم!
وفي إحدى الليالي، سمعت صوتًا بعيدًا، هذا الصوت جرّني من أذني، ورحت أتتبّع أثره.
في تلك اللحظة، اختفت من حولي: البنايات والليل والناس والأصوات؛ صرتُ مشدودا لهذا الصوت الحزين الوقور: صوت التشيللو!
كيف لي أن أستردّ تلك اللحظة مرّة ثانية؛ فتعلو روحي وتمتزج مع ذاك الوجود الأسمى؛ فيتوقّف صخب التروس في هذه الحجارة التي نسمّيها الجسد!
لم يكترث صديقي لكلامي، كأني أتحدّث إلى جماد، فكره شارد بين زرقة يترصّد فيها أسراب الحمائم، وهي تمرق أو تلتفّ حول الحديقة كأنها تطوف، وما بين مراقبتها وهي ترتزق من الحبوب والفتات، التي يغدقها المارّون عليها، والجالسون على المصاطب الحجريّة في الحديقة.
بعد يأس من إجابته، التفت إلي وحدّثني بحدّة، بعدما كان في قرارة نفسي، أنه لم يسمعني:
أكره هذه الآلة وأخواتها، تذكّرني بتجهّم وجه ربّ المصنع، وساعات العمل الطويلة، وآلام ظهري، وأجري الشحيح. انظرْ لهذه الحمائم، أحبّ استدارة عينيها وأرياشها الملوّنة، ونغم هفهفة أجنحتها عندي، لا تضاهيه أجمل أوركسترا في الكون!
حيّرني جوابه وخيّب ظنّي، كنت أحسبه ضالّتي المنشودة؛ حين عرفت أنه يشتغل في معمل كبير تُصنّع فيه الآلات الوتريّة: الشيللو، والكمان، والفيولا، الكونتراباص.
نفض آخر حبّة موجودة في كيس طعام الطيور، قال وعلامات الضجر تعتلي محيّاه: لنذهب إلى الشقّة.
مررنا بالشارع الطويل الذي يوصلنا إلى البناية، لم ينزل عينيه عن السماء وهامات البيوت؛ إلا حين أصبحنا بقرب المشرب.
دلف على عجل ليبتاع لوازم السهرة.. وطالعني بوجه ضجر من خلف زجاج الباب؛ بعدما أومأ لي كي ألتحق به.
بابتسامة ودّعته، بعد أن لاح لأذني صوت عزف قريب: رجل في الستّين يقف ماسكا آلة التشيللو، غامرا الشارع بصوت دافئ أليف.
وقفت أمامه كعبد آبق، يرجو أن تكلّمه السماء بحروف الصفح.... على مقربة منه مقهىً، استأذنتُ نادلها؛ كي أقرّب الكرسيّ؛ لأكون حاضرًا بقوّة من هذا المشهد المترف، غرقتُ في هذه الألحان الأثيريّة الساحرة، التي أتخيّلها تأتي من الأعالى، لتستكين بدفء في روحي، فترفعني لللانهايات.
أكمل العازف مقطوعته، وأراح جسده على كرسيّه الصغير، تقرّبت منه، وجمعت ما موجود على قطعة القماش من نقود، وأعطيتها له؛ فأثنى عليّ بحرارة.
أمسكتُ الآلة، بعد أن أدخلها حقيبتها، وقلتُ له:
- سأعينك على حملها.
- الطريق طويلة عليك.
- لا يهم، أنا لا أحفل بالطرق وطولها، ما يهمّني النهايات.
ابتسم، وأسند راحة يده برفق على كتفي:
- لا بد أنك مغرم بهذه الآلة!
- نعم، أهيم بصوتها العطوف.
- إذن لنمضي.
حملت عنه الآلة، سار وأنا أتتبّع خطاه الوئيدة، حتى غادرنا بهرجة شوارع المدينة وأضواءها، وانتحينا نحو الأزقة الضيّقة الشبه مظلمة.
تحدّث لي عن شغفه وتعلّقه بهذه الآلة، التي تحاكي صوت الإنسان، منذ زمن لا يذكر بدايته، وكيف استولت عليه واستوطنت روحه.
توقّف قليلا، كأنه يستردُ شيئا بصعوبة، فلا يطاوعه، حتى قال:
في تلك الليلة، تكالبت عليّ الخسارات وغشيت حياتي ظلمة حالكة؛ فقدت أمي، فصرت أعزل أمام جبروت وطغيان زوجها الدميم. كيف لي أن أواجهه، وأنا بكامل ضعفي! تركت بيتنا الجميل، دون أن أدري في أي طريق سأسير، كانت ليلة عصيبة عليّ جدّا: اليتم والخوف والمجهول والليل والسكك الفارغة،
حتى علت ألحانٌ، وأخذت تحيط بيّ من كل جانب، أنصتُّ لها بانشداد، وسعيت إلى معرفة مكانها، دون أن أدري أن الصوت أزاح عني ثقل الهموم. سكت الصوت، وبزغ رجل كبير من قلب الظلام، يحمل حقيبة طويلة على ظهره، أضاء وجهه ظلمتي، وقال لي بصوت حنين: لا تخف.
كلمته اليتيمة أزاحت كلّ السواد، وملأت روحي بالسكينة، رافقته طويلا، حتى أتى اليوم الذي توارى فيه خلف أنوار الأبديّة، فحملت عنه ما كان يحمله على ظهره.
توقّفنا أمام بناية متهالكة، نظر العازف إلى فوق، وقال بصوت رئيف:
هناك في العُلُا صومعتي.
وضع في يدي مفتاح الغرفة، وقال: ارتقِ السلالم أيها العاشق، وسألحق بك.
تركني وصعدت، درجات السلّم كانت أغلبها مغبرّة ومثلّمة؛ إلا أني ارتقيتها بنشوة لا توصف، طافت في خاطري الشقّة الأنيقة التي خلّفتُ فيها صديقي، وسريري الذي لا يبعد عن سريره مترين، وربما أقلّ، إلا أني لا أذكر أننا كنّا نتشابه، أو نتشارك في أي شيء. هو الآن يعدّ لسهرته، وأنا أعدّ لسهرتي، سيثمل من كأسه المعتادة القديمة، وأنا سأثمل من الكأس الجديدة، فالثمالة تأتي من أشياء، يظنُّ الآخرون بأنها لا تُسكر.
أدرتُ المفتاح في القفل، وتلمّست الحائط حتى أمسكتْ أصابعي أزرار الإنارة، أضأتُ الغرفة، فانفتح لي عالم العازف المزدحم بالأشياء والصور، قلت لنفسي ربما هو دبّر الموقف؛ ليشبع فضولي، أو هو جاء هكذا عفويًّا:
لوحة كبيرة كتب عليها بخط لمّاع: "مَن رنّم؛ كمَن صلّى مرّتين", وآلات تشيللو قديمة، حمّالات نوتات، فونغراف مع أسطوانات كثيرة، أعواد خالية من الأوتار، وصورٌ له في أطوار مختلفة من حياته، على الجدران:
دار الأوبرا، الحدائق، أسطح البنايات، على نواصي الشوارع، بالقرب من ضفّة نهر، مع ممثلين مشهورين ورجال سياسة؛ فأهالني مدى شهرة هذا الشخص.
على الأريكة أرخيتُ جسدي، قلّبت في دفاتر النوتات، في كتب متناثرة على الطاولة تحكي تاريخ الموسيقى، في ملصقات الإعلانات والدعوات، حتى انفرجت ضلفة الباب، معلنة أوبة العازف.
بوجه سارٍّ، قال لي: أنت محظوظ، مررت على صديقي أتحرّى صحّته، فوجدته تعافى، سيحضر بعد قليل إلى هنا، مع ثلّة من الأصدقاء، هم كلّ ذخائري في هذه الحياة.
ترك ضلفة الباب مشرعة، سكونُ الليل فخّمَ أصوات خطوات الصاعدين إلينا.
كانوا ثلاثة، لمحت في وجوههم الضمأ ذاته المستوطن فيّ.
نشرت كراسٍ أربعة، أحاطت بالعازف، الذي تأنق ببدلته السموكن.
خلع عن التشيللو حافظته الثقيلة؛ فتوهّج خشب القيقب، ورفّت الأوتار الأربعة بخشوع بين أصابعه، ثبّت السيخ المعدنيّ الموجود في قاعدة التشيللو في الأرض، فرسمت مخيّلتي لهذا الفعل صورة شخص، يسعى لتثبيت الجمال في تربتنا العطشى.
أطفأتُ الأنوار، فعمَّ هدوء مغرٍ. تناول العازف القوس بخشوع، كمن يحمل شيئًا مقدّسًا، وشرع يغذّي أسماعنا بالألحان.
أنعتقتُ من جسدي، وفقدت الأحساس بالمكان، صرت أطوف كالصوفيّ حول ذات مفرطة الجمال.

حيدر الناصري



1619113029048.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى