نمر سعدي - شبيهة مارلين مونرو

كانت صورة مارلين مونرو تجاور صورتها في خزانة الثياب وعلى طرف المرآة الداخلية المائلة.. فيما كانت طبول حرب الخليج الثانية تقرع.. فنهرع إلى إحكام غلق النوافذ بالأشرطة اللاصقة والنايلون.. أتذكرها امرأة ناعمة ذات ابتسامة غامضة مربكة كابتسامة الموناليزا.. الغريب في الموضوع أنها كانت تكبرني بسنوات ضوئية.. لن أشرح أكثر.. إنها المرأة الأولى التي تذوقت عذاب الحبِّ على يد جمالها الأسطوري ممزوجاً بعبق التبغ المختلس وروائح الطفولة والنباتات في براري الربيع.. أغرمت بها.. بطريقتها في الكلام والرقص والمراوغة والمشي.. تمشي الهوينا كغزالة متعبة.. كغيمة بيضاء في حقلِ قمح.
كانت المرأة الأولى التي أصابني برق أنوثتها فسقطتُ مترنحاً على سهوب الحياة، ومفسحا لناياتها وحرائقها وحقولها المجال في قصائدي المؤجَّلة. صورتها في قلبي تنمو كشجرة لبلاب، حينذاك كانت أجمل من صورة مارلين مونرو المحفوفة بشمس شقراء كالتماع الذهب، كانت يداها أحنى من يدي مارلين المرتخيتين على قطعة خشب أبنوسي في الاسطبل. ولا أحدَ يمسحُ على ضفائرها برفق فارس.
كان ذلك قبل عصور الفيسبوك ومواقع التواصل الأخرى، تشتاق على الطرف الآخر من الأرض، لا تكتب ولا تحلم بمحو فارق السنين الضوئيَّة، هل كانت الأيام والليالي أجمل؟ بلا مراسلات ولا مكابدات مكتوبة؟! كان الشوق دائرة من فراغ مكتوم.. تدور وحدكَ في مداراتها اللا نهائيَّة. فيما بعد ستحتلُ المرأةُ المشهد.. ستتربَّع على قبَّة الأرض وتفردُ يديها على فتنة المرايا جميعها.. ستحمل المرأة البيرق.. ويبدأ عصر الأنوثة.. عبرها ومن خلالها وعلى طريقتها في مواجهة الحياة والهاوية بالجمال والشعر وتنهدات الليل المخبوءة في صدف الشهوة.
على مواقع السوشيال ميديا أو في مرايا المخيَّلة.. المرأة هي الملكة المتوَّجة.. الامبراطورة.. الفارسة.. الشاعرة.. الملهمة.. تشيرُ فيتبعها الرجال كما يتبعُ القطيع الراعي. الأضواء كلُّها مسلَّطة على هذا الكائن.. فيما الرجال كالأطفال الصغار المتلصصِّين على منصَّة جلوس العروس من وراء أسوار المشمش والبرتقال والزيتون.. هذهِ الصورة منحوتة في ذاكرتي منذ الطفولة.. عروس مجلَّوة بثوب زفافها ناصع البياض وصبية من غبار وحبق وأسمال ورائحة ليمون، يتطلَّعون إليها من خلف سور قديم. الرجال هم أيضا أطفال كبار.. يتسكَّعون على أرصفة الفيسبوك وتويتر وأنستغرام.. هم يتامى أرصفة العوالم الافتراضيَّة المديدة كلها بأحذية مهترئة وقلوب محترقة.. تكفي إيماءةُ امرأة واحدة لتحويلهم إلى حجَّاب بلاط أو سائسي خيول.. أو بستانيِّين جدد في عوالم الأنوثة المتفتحة.
عاشت تلك المرأة في القلب زمنا طويلا.. اصبحت سروة وزيتونة وحقل عبَّاد شمس وحاكورة عنب وبئرا أولى وأحلاما معطَّلة وطريق معشبة على ساحل مضاء بالشفق. شاعرة لا تكتب الشعر.. ولكنها أشبه بتلك المهرة الجامحة.. مهرة الغيم والريحِ العصية.. المتفلتة من قيود الحرير والقبيلة.. القصية القريبة والقصيدة النابضة.. ممزوجة بزرقة سماء الشمال السوري وبخضرةِ النيران الجبلية الجميلة.. الشاعرة العاشقة المفتونة بالنرجس وسراب المجاز الأُنثوي.. وعبير اللغة البكر..
امرأة كأنفاس الظباء.. دبَّت فيَّ منذ الطفولة.. كنت أتلمس طريق البرق، الحب.. الشغف الأول ولهفتي للكتابة.. استهوتها أشعار القدماء.. كانت تقرأهم بشغف بالغ.. خاصة امرؤ القيس.. طرفة.. النابغة.. أبو تمام والمتنبي.. كانت لدينا مكتبة تحتوي الكثير من دواوين الشعراء العرب القدامى.. كنت أعيش تجربة الكتابة حتى ولو لم أكتب.. وكانت هي غزالة تغسلها أمطار الشعر في سهوب اللغة.. كنت عباد شمس الاصيل.. وكانت هي الشمس والحنَّاء..
هناك الكثير من النساء والكثير من الكتب من الصعب الإحاطة بها كلها ولكنني تشبعت بدواوين الأنوثة الصالحة لكل الأوقات ولكل الاحتمالات.. لا طقوس معينة لكتابة القصيدة عندي.. أحيانا أدندن بها وأنا في القطار وأحيانا أخرى تهب فجأةً وأنا في سهرة عائلية.. وفي أوقات كثيرة تأتيني وأنا عنها في شغل.. القصيدة برق يأتي على حين غرة، برق يومض فيضيء الروح.. ويحرق بلا نار.


نمر سعدي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى