ياسين طه حافظ - أوراق فارسية.. السيدة في سوق جالوس

كانت جالوس بلدة مهذبة، نظيفة، بريئة، في ظاهرها خفة عيش وناسها البسطاء، لهم لطف القرى وذلك التهذيب الفارسي واللياقة في التحية والكلام والتوديع.

ونحن منذ أيام في جالوس، قبل الغداء، نتوجه إلى البحر، "كوستر" تقل الناس إلى ساحل بحر حميم مؤتمن وماء يبعث بهجة وانت تسبح مع الناس فيه.

بعد ساعتين، نتناول علبتين زجاجتين، من كشك قريب، نتمشى بهما على الرمال الممتدة، والتي مرت عليها الرياح والناس والعصور.

نعود إلى غرفتنا، حمام بماء عذب واستراحة منعشة بانتظار السيدة الشهية وابتسامتها العذبة ولنرى ذراعين بضتين ممتلئتين واطباقاً شذية مما تقدم لنا كل يوم واحدة من نعم الله على المتعطشين للمسرات والاوجه النادرة.

عصراً، قريباً من الخامسة، ننحدر بثياب نظيفة، بأنتشاء هو من بقايا البحر والحمام العذب والطعام والنوم الهانئ المريح و... نحن الآن في سوق جالوس زقاق ملتو على جانبيه دكاكين، تجلس أمام المحلات الصغيرة نساء عجائز وصبايا أمامهن سلال من العنب والتفاح اقتطفنه من "بقجاتهن". نختار عادة التفاح البلدي اللذيذ الطري الذي يتدفق فرحُه وأنت تلامس قشرته الوردية أو الذهبية أو التي تجمع بين الورد والذهب. بين أولائك البائعات، الصبايا واللواتي تغضنت وجوههن، واحدة متفردة الجمال وسط الأفراح الصغيرة والحاجات والتعب، بين القطاف والخسارات، بين ربما عشق صعب ورضا بما كان ... أولاء يمتلكن جمالاً تستطيع أن تراه يتأمل هادئ قليل، تستطيع أن ترى الشباب الذي كان والمجد الذي كان. وتبقى تلك التي بينهن تضيء!

أما الصبايا اليافعات متوردات الوجنات، أو السمر اللواتي تشع خدودهن إذا ضحكن، فما أجملهن في الخجل!

صاحبي ابتعد في السوق يبحث عما يبهجه وأنا ابتعدت عنه ابحث عما تريده روحي في السوق والأقواس وعتمة الدكاكين، أبحث عن الشعر في الوجوه والحركات والكلام. حانوت صغير، تجلس فيه ربما ابنة بساتين ربما سليلة دهاقين قدامى، ربما أبنة ثراء فارسي زال، أرادت، أن تظل الواضحة في الحياة، الجميلة بين عابرين. كانت ترسم أطباقاً صغيرة وأطباق أنجزتها تنتظر من يعجب أو يشتري، حييتها وكأن كل روحها ابتهجت وفلتت أشارات فرح. ابتهجت بلطف، بغنى، بتعالٍ حلو، برحابة تقول لك الحياة تحتفظ بما تظنونه ضاع، ازاحت سلعة وهيأت مكاناً لأجلس على دكة فوقها سجادة صوفية صغيرة.

حمداً عربيتها حلوة، موجزة كافية. قالت: أنا أرسم أطياراً أحبها وورداً، ووجوها اجد فيها راحتي. قالت الرسم ليس حرفة فقط الرسم عون للروح لترى ويراها الناس. قالت، يبدو لي إنك تحب الرسوم والألوان.

تأخرت في جلستي، لم يفتها السر ، أردت أغادر، أطلت الوقوف. ليس مثل الفارسية من تلتقط أولى إشارات الحب وتجعل منها حرائق.

وأنا أغادر السوق ونوادره من تحف ومنسوجات محلية، وزخارف من حرير وسلع للعيش والتجميل وبضائع مما تحتاج ويريد الناس في المدائن النائية، كنت كمن يغادر عالما كان يوماً على الأرض. ووجدتني معي صورة السيدة في سوق جالوس، أسير مسربلاً بزخارف من أقاصيص وأجواء لا تجدها إلا في مدخرات الشرق القصية. السيدة في سوق جالوس تجيب بابتسامة عن سؤال كان جريئاً بتهذيب "... شيءٌ يشي بشيء، جمال بجمال . نعم، نعم هذا هو سر السوق الذي يمنحني البهجة والجلسات الطويلة فيه.. ايجازها يكشف الغطاء عما يخفى. "نعم، النظرات المستريحة، الإعجاب حد بطء الخطى، وحد وصول الكلمات رخية من رغبة..، ذلك ما يعطي حياتي مسرات. فأنا أبيع أطباقاً جميلة ورسوماً، وأنا أشعر بنظرات الفرح، بارتياح الناس، بإطالة النظر فيّ أو بالتجاوز قليلاً والعودة بسؤال..." مدت يدها لي بطبق هدية، وبابتسامة مثل برق صغير من ذهب قالت: في السوق جمال ومحبات، في السوق عشاق لا أعرفهم .. وعاشقات!

ما نبهني إلى شذرات ضوء في عالم السيدة في سوق جالوس : "المسافة بيننا وبين المعجبين والعشاق العابرين المنبهرين، اجمل وأعمق معنى من القرب وملامسة التفاصيل. والقصص من بعيد دائماً أجمل وأحلى.." قلت وأنا أغادر :

جمال و حكمة في سوق جالوس.. سلاماً أيتها السيدة في الأقاصي...
أعلى