محمد الرياني - شَقَّةُ الحِسَاء

آخرُ يومٍ لهم في الشَّقة مارسوا شيئًا غيرَ مسبوقٍ في المزاح ، هُمْ أربعةٌ لا أكثر ، مرُّوا على بائعِ اللّحمِ البَلديِّ في طريقِهم واشترْوا كيلًا من اللّحمِ اشترطُوا على الجزَّارِ أن يكونَ قطعةً حمراءَ خالصةً بلا عظمَ ، أرادوا أن يختتموا حَياةَ الاغترابِ والدراسةِ والمزاحِ بما هو أشدُّ جلبًا للضحك ، قسَّموا اللحمَ أربعةَ أقسامٍ لكلِّ واحدٍ جزء ، اقترحَ عليهم أكثرُهم طرفةً ومزاحًا أن يُكتبَ على كلِّ قطعةٍ اسمَ صاحبِها قبلَ أن تُلقى في القِدر ، صاحَ الثلاثةُ يامجنون ! سيذوبُ الحبرُ بين المرَق ، وسيتلوثُ الإدام ، ردَّ عليهم : نأكلُ اللحمَ ونتركُ المَرَق ، لاتزالُ أسنانُنا وأضراسُنا شابةً وقوية ، وافقوه على مَضَض ، كتبَ كلُّ واحدٍ بخطِّ يدِه اسمَه على قطعةِ اللحمِ بينما الصراخُ والضحكُ يتعالى ، كانوا يصنعونَ الطعامَ الأخيرَ في الشَّقةِ وهم يتأملونَ عباراتِ الذكرياتِ على البابِ الأبيضِ الذي امتلأَ بمفرداتِ الشَّوقِ والحَنينِ والغَرامِ والآمال ، ذابَ الحِبرُ الأزرقُ في الماءِ الحارِّ وتبخرت الزُّرقةُ في سَقفِ الغرفةِ التي جمعتهم أربعةَ أعوام ، نضجَ اللحمُ فأخرجوه من القدرِ ووضعوا عند كلِّ واحدٍ نصيبَه وحوله الأرزُ والفلفلُ الحارُّ والماء ، احتدمَ النزاعُ حولَ القطع ، لم تظهر الأسماءُ على قِطعِ اللحم ، اقترحَ آخرُ أن يَقترعوا لحسمِ الجدَل ، فَعلوا ذلك وشرعوا في التهامِ الوجبةِ الشهية ، عادوا إلى المرقِ يبحثون عن أسمائهم من جديد وهم غارقون في الضحك ، وقعَ القدرُ على الأرضِ فانفضوا خوفًا على أرجلهم من الاحتراق ، رتبوا الغرفةَ وهم ينتظرون صاحبَها ليُسقطَ عنهم إيجار الشهرِ الأخيرِ وهم يعرفون غلظته ، نزلوا إلى أسفلِ الدَّرجِ ليُضحكوه إذا أقبل لعلَّ قلبَه يلينُ على أظرفِ أربعةٍ سكنوا عنده ، مشوا من الأسفل إلى الطابق الثاني إلى الخلف ، حَضرَ عليهم وقد علا صوتً ضَحكِهم ، وقفَ يشاهدُ المجانينَ الأربعة ، لَحقَ بهم وقد تبدَّلَ حالُه ، جلسَ معهم كما لم يجلس من قبل يسترجعُ معهم رحلةَ الغُربة، وقفَ عندَ البابِ يقرأ ذكرياتِهم وآمالَهم ، وعدوه بأنهم سيدهنونَ البابَ ويُذيبون الذكريات ، ابتسمَ وقال لا ، سأظلُّ أَذكُرُكم ، لقد أصدرتُ عفوًا عنكم فلا تدفعوا إيجارَ هذا الشهر ، التفُّوا حولَه وقبَّلوا رأسَه ، غادروا الشَّقةَ وهم يحتفلون بتوفيرِ بعضِ النقود ، كبروا وهم يتذكرون شَقَّةَ الذكريات والحساء، غزاهم الشيبُ فأرادوا أن يفعلوا مافعلوه آخرَ يومٍ لهم ، سافروا فلم يجدوا الجزار مكانه ، تحوَّل المبنى ميدانًا فسيحا ، بَحثوا بين بعضِ الأنقاضِ الدارسةِ فلم يجدوا بابَ الذكريات ، مرُّوا على أحدِ المطاعمِ القريبةِ، طلبوا مرقةً ساخنة ، تذكروا الحِبرَ الأزرقَ وقطعَ اللّحم ، ضحكوا وقد غابَ بعضُ الأسنانِ ، احتَسَوْا وهم خائفون على سيقانهم من اندلاقِ المرقِ على أقدامهم العتيقة لو عادت بسمة الأمس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى