سعد محمود شبيب - أستاذي الأديب عبد الهادي العبيدي.

مدرس اللغة العربية الكريم هذا، هو نقطة التحول الكبرى في حياتي الأدبية، وهو من حولني من مشعوذ يعشق اللغة ويضع ابيات شعر في هجاء الصحاب والضباب والتراب ، الى أديب يشار إليه بسكين الطعام !!
دخل علينا الأستاذ العبيدي مع تباشير الصف الرابع الإعدادي، وأنا لم أزل يرقة صغيرة وبرعما لم يكتب له النضوج بعد، وسرعان ما بدأ يشرح لنا ادوات الشرط الجازمة وغير الجازمة، وكنت كعادتي سارحا في ملكوت الله، وتحضرني كل حوادث الزمان، بدءا من هبوط سيدنا آدم حتى معجزة عصا موسى ، ومرورا بسفينة النوح التي أبت الا حمل جد حمورابي مؤسس المدارس..
ولم اشعر ساعتها الا وقد طالبني بأن أعيد ما شرحه حرفا حرفا، وكلمة كلمة ، فلم أفلح لجهلي بعنوان الموضوع نفسه !!
َوهنا ، ما كان منه سوى ان يعيد شرح الدرس مرة أخرى وهو يردد باسما : نعيده إكراما لعيون الصافنين!
كان الاستاذ عبد الهادي ذكيا لماحا، ولا يكاد أن ينسى شيئا، ذاك أنه حين طلب منا موضوعا إنشائيا عن ثورة الحجارة في فلسطين ، ركز كثيرا على ما كتبت، واستدعاني في اليوم التالي وقد وضع خطا تحت عبارة وردت بموضوعي اقول فيها : ( وقف الجاني أمام القاضي فسأله : كيف تقذف جنودنا بالحجارة ؟ فأجابه : قد ضجت تحت اقدامكم نفسها الحجارة، فكيف بقلب يحلق حرا مع الطير ، ولا يقذفكم بحجارة؟ )
وسألني معاتبا هامسا : كيف تتجرأ وتسطو على نتاجات سواك وتنسبها لنفسك، وكيف تود إقناعي أن مثلك يكتب هذه العبارة وانت سارح بفكرك بعيدا عنا، لا يهمك اسم كان من خبرها من مصرعها ؟
حزنت لعتبه، واقسمت له انها من بنات أفكاري فلم يبد عليه الإقتناع، وهنا، طلبت منه ان يقترح علي أي موضوع، أي موضوع يخطر بباله، وسأكتبه أمامه دون تردد..
استغرب من لهجتي الواثقة، لاسيما واني احتل مركز الصدارة في سجل الخاملين الحالمين ، لكنه وبعد ايام قلائل ، كلفني بصورة مفاجئة ، أن اكتب عن عنوان غريب للغاية وهو : تخيل نفسك صخرة صماء على جبل شاهق، فماذا تصنع؟
لا أدرك حينها ما حل بي، لكنني شعرت بعزلة تامة عما حولي من صخب الدرس وشروحاته، وصرت أكتب : ( ارتشف السكون، الجبل يمسك بي عنوة والوديان تجتذبني، اعشاب تعشق الحياة تكاد أن تمزق جذورها اوصالي لتعانق الوجود ، اتنفس الصمت وتبدد وحدتي الأزلية أصوات النسور ، لا اخشى ان أهوى فتبتلعني الوديان السحيقة، ولعل من كان ميتا في دنياه يعيد له التشظي نزرا من حياة)
لم يكد الاستاذ ان يطالع سطوري حتى إعتلاه وجوم غريب، وذكر لي اني اغرب مخلوق إلتقاه في حياته، إذ كيف يجمع المرء بين أسلوب كاتب محترف، ووجوم ضفدع منحرف ؟؟
ولن انسى ما حييت، كيف أهداني كتابا جميلا عن فن القصص لم أزل أحتفظ به حتى الآن ، كتاب لن يكون بحال من الأحوال أجمل من خلق وأخلاق أستاذي العظيم، الأب الحنون، المربي عبد الهادي العبيدي اطال الله عمره الكريم.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى