محمد الرياني - عَزفُ الأوهام

وهو يبحثُ عنها بعد المغيب ،الليلُ يظلمُ بأستاره ليدخلَ في مسرحٍ أسودَ الأركان تعلوه النجوم ، يتعجبُ من جمالِ الليلِ فيتمنى أن يكونَ الوقتُ سرمديًّا ليتبادل النظراتِ مع النجوم ، ينظرُ نحوَ الجهاتِ التي تحيطُ به جَرَّاءَ الظلمة ،يستمتعُ بكلِّ صوتٍ وطارقٍ ، لايوجدُ على مسرحِ اللّيلِ سوى إضاءاتٍ تملأُ الكونَ من بعيدٍ وعلى الأرضٍ، يرتاح للرملِ فيدفنُ قدميه ويغني كما يفعلُ السُّمار ، يبحثُ عن أمنياتٍ وأغنياتٍ لم يسبق لأحدٍ أن تمناها أو ردَّدَها ، لايخيفه صوتُ نباحِ الكلابِ التي تفتحُ أفواهَها دون سبب ،أو دون أن ترى شيئًا يدفعُها للنباح ، يطيبُ له الإنصاتُ في صمتِ الليلِ وهو يبحثُ عن سرِّ السوادِ الذي يأتي دافئًا تتخلله نسائمُ البهجة ، يكتبُ على الرملِ ثمَّ يطمسُ كتابته ، يعيدُها من جديد ليتأملها ، يعيش اللحظةَ الفاتنةَ وهو يبحثُ عن سرِّها في مطلعِ الليلِ الذي جاء مزخرفًا بالإضاءاتِ الهاربةِ من السقفِ العلوي الذي لايطالُه أحد ، يكتبُ على البطحاءِ لها : مَن أنتِ ؟ ماحقيقتك؟وما سرُّ تعلُّقكِ بهذا الوقت الذي يفضِّلُ فيه الآخرون الاختفاء؟ وتحبُّ بعضُ العجماوات التخفِّي ، يسألُها وهي غائبةٌ خلفَ المسرح ، فجأةً تظهرُ عليه مثلَ طائرٍ أبيضَ بهيِّ الطلعة ، هكذا رآها ، أو قُدِّر له أن يراها لتختفيَ في لمحِ البصر ، أرادَ أن يراها وهو خائفٌ أن تكونَ طُعمًا يجرُّه إلى عُمقٍ لايًجيدُ الغوصَ فيه ، اكتفى بالصمت ، باتَ يرصدُ النجوم ، تذَكَّرَ أنه كان يذهبُ مع أبيه ليكتالَ اللبنَ في مَبَاركَ قريبةٍ للإبلِ فتعجبه رائحةُ الرملِ الذي تتقلبُ عليه النُّوقُ قبلَ أن تقومَ وتستوي واقفةً وتفتحَ رجليها لسكبِ اللبنِ من ضروعها ، يطربُ لصوتِ الحليبِ في الأواني المعدنية ، يشربُ حتى يبرد بطنُه تحتَ الأضواءِ التي تشقُّ الكون ، ينسى حكايةَ البحثِ عن حلمٍ مستحيلٍ يأتي أولَ الليل ، يعودُ ليملأَ بطنَه من دَرِّ الناقةِ التي شبعت من مرعى الوادي القريب ، ينامُ تحت سقفِ المسرحِ الأسودِ في العراء ، يتحسسُ بطنَه المنتفخَ من الشرابِ الأبيض ، ينقرُ عليه فيسعدُ بعزفِ الشَّبع على أوتارِ أضلعه، يقول لأحلامِه اللاهثة : كُفِّى عن الوهْم .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى