سعد محمود شبيب - هكذا تكلم عبد الجليل

أهديه الى روح استاذي الراحل عبد الجليل القزاز، والى كل مربّ فاضل علمني حرفا فلن انسى له ذكرا


قبل اسابيع قليلة ، ارتحل عن عالمنا رجل يعد شاهدا صادقا ورائدا من رواد التعليم في العراق وواحدا من ذلك الجيل الأصيل الذي لن يتكرر بيسر ، ألا وهو المربي الاستاذ عبد الجليل القزاز الكاظمي ، عن عمر ناهز التسعين عاما..
هذا الرجل، خط الدهر على وجهه خطوطا عميقة ، وجعل من عينيه الغائرتين كهفين يختزنان حوادث عظيمة وحكايات كبيرة كان هو أحد شهودها على امتداد تسعة عقود، ظل خلالهما يعد التعليم هي المهنة الأسمى والاكبر كونها تقدم للمجتمع كل ذي علم ونفع كبيرين .
ورغم ان حقبة من الدهر تفصل بيننا ، ورغم أن الاستاذ القزاز يكبر أبي رحمه الله نفسه لكونه قد ولد عام 1930 ، الا أن علاقة طيبة حميمة قامت بيننا حين كنت اجالسه في مقهى (الحاج نجم الدليمي ) قرب باب القبلة في مدينة الكاظمية المقدسة، فأجد فيه تأريخا قائما بنفسه ينطق بكل أمانة وجمال ما شهدته عيناه وتشرب في خواطره ..
لا يفتأ الاستاذ عبد الجليل يتذكر كيف كان أول تعيينه معلما في احدى قرى محافظة واسط النائية نهاية الأربعينيات ، وكيف كان يستخدم جميع وسائط النقل التي تنتهي بركوب الحمير حيث تغوص الأقدام بالاوحال والطين، وذلك ليبلغ مدرسة بنيت هي الأخرى من الطين لا تصلح لأن تكون مخزنا بائسا للمستهلكات ، الا انها خرجت علماء أفاضل واطباء ومحامين ومهندسين وضباطا يشار اليهم بالبنان .. وكيف أنه وبمرتب شهري لا يتعدى العشرين دينارا بحال قد اقتنى دارا وأتم نصف دينه وجهزه بأثاث جميل ، وزار الكثير من دول العالم مطلعا على جمال طبيعتها ومعالمها الحضارية خلال العطلة الصيفية مع زوجه وعياله !
كما وروى لي هذا المربي الفاضل العشرات من القضايا التي اتسم بعضها بالغرابة والتفرد، منها يوم كان مديرا لاحدى المدارس في منطقة السيدية ببغداد ، حين دخل عليه حارس المدرسة مرتجفا مصفر الوجه وهو يطالب بنقله الى مدرسة أخرى لكون هذه المدرسة مسكونة بالعفاريت التي تنشط ليلا وتصدر أصواتا مرعبة وجلبة وضوضاء غير معتادين !!
وهنا قرر الاستاذ المكوث معه حتى الليل، مستعينا بحارس آخر من مدرسة مجاورة ، حتى اذا ما تم تحديد (الصف) الذي تصدر عنه هذه الاصوات ، قرر الجميع اقتحامه ، ليصعقوا بوجود طالب اختار المدرسة سكنا ومبيتا !
وبعد التحقيق معه في اسباب تواجده عقب الدوام الرسمي ، اتضح أن هذا الطالب قد توفيت والدته فتزوج أبوه، ثم مات الأب فطردته زوجة ابيه من الدار المستأجر أصلا ، ولم يجد بعد خذلان الاقارب سوى المدرسة ، وقد تعاطف المدير والاب عبد الجليل – فيما بعد - معه فقرر مساعدته عبر ايجاد عمل له مع صديق له صاحب مدبغة، تتيح له الدراسة صباحا والعمل ثم المبيت فيها ليلا !!
ومما رواه لي الاستاذ، مشاهدته كيفية سحل جثمان المرحوم نوري السعيد عبر دراجة نارية ، ومعرفته بمن يقود هذه الدراجة ، وكونه من أرذل عباد الله خلقا وخلقا ، وقص علي كيفية اعتقاله منتصف شهر شباط عام 1963 اذبان (عروس الثورات !!) لمجرد عشقه للزعيم قاسم واتهامه بمقاومة الحرس القومي كي لا يجتاح مدينة الكاظمية ، وتوقيفه في نادي الأعظمية الرياضي حيث واجه الجلاد
( أ . أ ) دكتور الرياضة فيما بعد ، والذي ابدى له طقوس الاحترام في البداية ، ثم لم يلبث ان تحول الى وحش كاسر ليلا، فاختلت جراء التعذيب احدى اذنيه ، كما واصابه خلل في ساقه ، وقد مكث في هذا المحجر ثلاثة أشهر حتى اطلق سراحه بعدما تبين للمحققين عدم انتمائه لأي حزب أو تنظيم معارض !
ولا ينسى الاستاذ ، زملاءه في درب حياته الطويلة، وكيف كانوا جميعا من أحرص الاساتذة على ايصال المادة لطلبتهم، يتأرقون اذا ما شعروا أن من تلامذتهم من لا يتعلم منهم شيئا، ويشعرون بفرح غامر اذا ما وجدوا ثمار جهودهم تينع نجاحا وتفوقا دون أن يفكر أحدهم في ادنى مكسب مادي من طالب أو من أولياء أمره !
ومما يذكره دوما ، سيرة الاستاذين الطاهرين المؤمنين طارق ومحمد ، ، المتمكنين تماما من مواد تخصصهما : التاريخ واللغة العربية ، وكيف حضر الى المدرسة ذات ظهيرة من عام 1981 شخص قميء الوجه تتقافز الوقاحة من جبينه ولا توحي طريقة كلامه بالراحة مطلقا ، وطالب باحضار الاستاذين فورا ، فلما تاكد من شخصيهما اصطحبهما معه بسيارته تحت حماية مشددة الى جهة مجهولة وسط ذهول الجميع ، حيث انقطعت اخبارهما تماما حتى سقوط النظام عام 2003 ، ليتم العثور على ملفيهما في دائرة أمن صدام وقد نفذ بهما حكم الاعدام شنقا حتى الموت ، ذلك الحكم الذي اصدره السفاح مسلم الجبوري عليهما ضمن مائة وعشرة اشخاص بجلسة واحدة في ساعة واحدة !!
ويعتز الاستاذ القزاز بأنه وطوال عمله الوظيفي الذي امتد حتى عام 1994، لم يجمع مع مهنته المقدسة أية مهنة أخرى ، وقد ارتضى في أيام الحصار بذلك المرتب المضحك من لدن القيادة الحكيمة ، مضطرا لبيع جزء كبير من مقتنياته كي لا يفنى جوعا، وأنه حقق حالة في غاية الطرافة والجمال ، حين أصبح وابنه وحفيده معلمين في مدرسة واحدة ، كما وعمل عقب احالته على التقاعد ، في محل تجاري وصاحب ورشة للصيانه وسائق سيارة أجرة لكنه لم يفكر يوما بالدروس الخصوصية لأنه يؤمن بأن المعلم صاحب رسالة ، وليس تاجرا يتخذ من أحط الأساليب سبلا لكسب المال من خلال الطلبة الذين هم اثقل أمانة في الأعناق ..
وحين انقطع استاذنا عن المقهى لكبر سنه والأمراض التي صارت تهاجم جسده النحيل، زرته بداره لمرات عديدة، لكنه في آخر زيارة له قبل سنوات من رحيله، كان يضحك بمرارة شديدة وهو يردد : (( اضحك يا ولدي لأن مدارس الطين التي ودعتها قبل نصف قرن عادت الى الوجود مع العراق الجديد، سوى أن الحمير التي كنا نمتطيها قد اختفت .. ربما لأنها شغلت مواقع اخر في البلاد !!))
بلى .. هكذا تكلم استاذنا الطاهر النبيل عبد الجيل ، رحمه الله وطيب ثراه ..وأسكنه فسيح جنانه .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى