أدب السجون محمد علي الشبيبي - من أعماق السجون في العراق

من أعماق السجون في العراق /1

تمهيد
منذ نعومة أظافري عندما كنت في سن الثانية عشر أو أكبر بقليل وقبل ثورة 14 تموز 1958 وقع نظري على كتاب بعنوان (من أعماق السجون في العراق). كان العنوان غريبا ومثيرا للفضول. حدث هذا عندما دخلت على أبي، فوجدته منهمكا ينظم بعض الكتب في مكتبته الصغيرة ذات الأبواب الخشبية المزججة والمتواضعة جداً. فانتبهت إلى كتاب يحمل هذا العنوان، وقد عزله والدي عن بقية الكتب. بعد أن أفرغ والدي المكتبة من الكتب في الرف الأسفل رفع قاعدة خشبية من خشب المعاكس كانت عبارة عن قاعدة وهمية - ظاهرية -! كانت هذه القاعدة تمويهية تخفي تحتها فراغا على طول وعرض الرف وبعمق 2 سم! لفت نظري مجموعة من الأوراق والدفاتر كانت مخبأة في هذا الفراغ الخفي، فدس والدي الكتاب المعزول (من أعماق السجون في العراق) بين تلك الاوراق والدفاتر، ثم أعاد القاعدة الخشبية وثبت مساميرها، ولاحظت أن المسامير دخلت كاملة دون مقاومة وأخذت مواقعها. بعد ذلك طلب مني ترتيب الكتب على الرفين في المكتبة وحذرني من التحدث لأي كان عما شاهدته!؟.

وبعد ثورة تموز وجدت الكتاب بين كتب المكتبة ولم يعد والدي يخفيه في مخبئه السري داخل المكتبة. لكن هذا الكتاب أختفى من المكتبة ولم يعد له أثر، ربما طلبه أحدهم ولم يعيده ولفه النسيان، أو أن أحدهم استعاره خلسة وقرر الاحتفاظ به.

مؤلف الكتاب (محمد راشد) كان مجهولا ولم يعرف والدي كاتبا بهذا الاسم، فهو أسم مستعار. والغريب ان بعد ثورة 14 تموز 1958 بقي أسم المؤلف الحقيقي مجهولا ولم يفكر أحداً بإعادة طبع الكتاب بما في ذلك المؤلف الحقيقي الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) الذي اكتشفته فيما بعد!

ومرت السنون وكبرتُ ونضجتُ سياسيا وسجنت وتنقلت بين عدة سجون وصورة الكتاب ماثلة أمامي بالرغم من أنني لم أقرأ منه سوى العنوان ولا أعرف مؤلفه، هذا العنوان الغريب والباعث على الفضول وهو يختصر ما جرى في سجون العهد الملكي من أحداث مأساوية ومجازر رهيبة! وكم مرة سألت عنه زملاء في السجن ورفاقا كبارا، كان بعضهم لم يسبق له أن سمع بالكتاب وآخرون (صادق الفلاحي) سمع به لكنه هو الاخر لم يطلع عليه! وعندما كنت أدرس في بولونية تواجدت في غرفة أحد الأصدقاء العراقيين - كان ذلك عام 1976- وبالصدفة عثرت على هذا الكتاب بين مجموعة غير قليلة في مكتبة هذا الصديق! سألته إذا لا يمانع باحتفاظي بهذا الكتاب، فوافق دون تردد. أخذت الكتاب وغادرت هذا الصديق مسرعا ومتلهفا لقراءته قبل أن يغير صديقي رأيه ويتراجع عن قراره.

ولفت انتباهي اسم المؤلف (محمد راشد) فلأول مرة أسمع بهذا الاسم! واكتشفت أن الكاتب قد أهدى هذا الكتاب لبروفيسور بولوني (لم أعد اتذكر أسم هذه البروفيسور). ففي الزاوية العليا من الصفحة الأولى كتب المؤلف بالحبر الأخضر إهداء لهذه الشخصية ووقع تحتها بكلمة - المؤلف -. قرأت الكتاب وخمنت أن كاتبه لابد أن يكون شيوعيا وعاش أحداث مجازر سجن بغداد والكوت أيام الحكم الملكي. وعند عودتي للعراق بعد اكمال دراستي في أكتوبر عام 1977 قررت فصل الزاوية التي كتب فيها المؤلف إهداءه والاحتفاظ بها في مكان آخر تحفظا من ردة رقابة البعث في المطار، لأن الاوضاع بدأت تتدهور.

وفي أواخر عام 1978 نشرت صحيفة الحزب الشيوعي العراقي نداءً ترجو فيه من قرائها من تتوفر لديه نسخة من الكتاب تزويدها به لاستنساخه. أخذت الكتاب وتوجهت إلى إدارة الصحيفة وسلمته إلى الرفيق عبدالرزاق الصافي ووعدني بإعادته بعد استنساخه. وبعد أيام نشرت الصحيفة الحلقة الأولى من الكتاب، مع تعليق بسيط تشير فيه أن المؤلف الحقيقي هو الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)، ألفه وطبعه خارج العراق باسم مستعار (محمد راشد) ووزعه أثناء مشاركته في مهرجان الشباب العالمي في وارشو - بولونية - عام 1955. حينها وجدت تفسيراً لصيغة الإهداء الذي خطه المؤلف على الكتاب وكيف تعرف المؤلف على هذه الشخصية البولونية، فلابد أن هذه الشخصية البولونية كانت من الناشطين البولون في الحزب وفي المجال الشبابي.

بعد نشر الحلقة الأولى من الكتاب واسم مؤلفه الصريح، بحثت بين كتبي عن تلك القصاصة التي سجل فيها الشهيد إهدائه فوجدتها، ووجدت أن الحزب أحق مني بهذا الكتاب الذي خط الشهيد عليه بقلمه الإهداء. فذهبت إلى إدارة الصحيفة وسلمت هذه القصاصة للأستاذ عبد الرزاق الصافي وقلت له ليبقى الكتاب في حوزة الحزب فالحزب أولى بالحفاظ على آثار رفاقه، وانا لا أطلب سوى نسخة مستنسخة من الكتاب. وبعد هذه الحلقة أزداد الوضع السياسي تعقدا وتصاعد الهجوم على الحزب وقواعده وأصدقائه ... وحاولت أكثر من مرة وبحذر شديد من الاتصال بالرفيق عبد الرزاق الصافي في إدارة طريق الشعب ولم أفلح ومع تصاعد الحملة ضد الحزب اصبح وصولي إلى إدارة صحيفة الحزب محفوف بالمخاطر خاصة بعد التحقيق معي من قبل مسؤول مكتب المدرسين في معهد التكنولوجية، وتفتيش خزانتي في المعهد، وانقطاع صلتي بمرجعي الحزبي ... فتركت موضوع حصولي على نسخة من الكتاب وغادرت الوطن.

بتأريخ 25/8/2008 نشرت مقالا بعنوان (صور وذكريات ... ووفاء!؟) على عدة مواقع الكترونية تطرقت فيه باختصار لكتاب الشهيد أبو سعيد (من أعماق السجون في العراق) ووجهت فيه نداء لمن يحتفظ بنسخة من الكتاب لتزويدي بها، وكررت مثل هذا النداء أكثر من مرة، ودعوت الحزب والجهات المعنية بتراث الشيوعيين بالبحث الجاد عن نسخة من هذا الكتاب الثمين المفقود، وذلك من خلال الاتصال بالأشقاء العرب ممن ساهم في مهرجان الشباب العالمي في وارشو عام 1955 ...

وأعادت صحيفة المدى نشر مقالتي بتأريخ 25/2/2010 ولكن بعنوان آخر (أبو سعيد ومذكرات السجون). وجاءت المفاجأة عندما أستلمت رسالة الكترونية من رجل نبيل (علي ابو الطحين) بتأريخ في 26 شباط 2010 يبشرني بامتلاكه لنسخة من الكتاب! فكتب لي ما يلي:
(تحية طيبة،

قرأت في عدد يوم (غد) الخميس لجريدة المدى، ملحق عراقيون عن (أبو سعيد ومذكرات السجون) بقلمك وقد ورد فيه بحثك عن نسخة من كتاب "من أعماق السجون". في الحقيقة أنا حصلت على كتاب أثناء وجودي في معرض الكتاب في القاهرة عن كتاب لمؤلف قد يكون أسم مستعار (محمد راشد) وأسم الكتاب : (في أعماق السجون في العراق) مطبوع في القاهرة بدار القلم عام 1955. فأذا كان الكتاب هو ما تبحث عنه فمن الممكن تصويره على شكل PDF وتوزيعه للصالح العام.

تحياتي،
أخوك\ علي أبوالطحين
بريطانيا)

أخيراً أفلحت جهودي الفردية في البحث عن كتاب يروي بطولات السجناء الشيوعيين في سجون العهد الملكي، وها هو الأستاذ النبيل علي أبو الطحين يبشرني ويوعدني بإرسال نسخة سكانار، وفعلا وخلال أيام وصلني تصوير جميع صفحات الكتاب (176 صفحة). كنت متحمسا لنشر الكتاب بأسرع ما يمكن لكن انشغالي بكتابات والدي وكتاباتي الخاصة حال دون ذلك. عملية نشر الكتاب بحاجة إلى نقله من السكانار إلى الوورد ليكون صالحا للنشر والتداول السهل. عرضت الفكرة على بعض الأصدقاء وتحمسوا للمهمة لكنهم وبعد أشهر أعتذروا!؟ سلمت نسخة منه إلى رفاق الشهيد على أمل أن يحيوا تراث الشهيد وخاصة أن الكتاب فيه من الوثائق التي تدين جرائم النظام الملكي، كما يروي أحداث المجازر في سجن بغداد وسجن الكوت بتفاصيلها، ويذكر أسماء الشهداء والجرحى من السجناء مثلما يذكر أسماء المسؤولين الذين أعطوا الأوامر والذين نفذوها صغارا كانوا أم كبارا!

أخيرا وبعد أن يئست من مساهمة الآخرين ممن يهمهم نشر تاريخ الشيوعيين في سجون الحكم الملكي، قررت أن أتولى بنفسي نقل هذه الصفحات البطولية من سفر الشيوعيين والتي صورها الشهيد عبد الجبار وهبي بكل دقة لتطلع عليها الاجيال الحاضرة. والشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) بنشره لكتابه هذا يفضح جرائم النظام الملكي الذي تمت بإشراف (الباشا نوري السعيد). وأرجو من القاريء الكريم وهو يقرأ بشغف وفضول ما كتبه الشهيد عبد الجبار وهبي عن مجازر السجون أيام الحكم الملكي أن يأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الفترة المتناولة والأفكار السائدة حينها. وسوف يرى القاريء كيف يصف الشهيد بسالة وشجاعة الشيوعيين وهم يقاومون بعناد وصلابة هجوم جلاوزة النظام الملكي في مذابحهم البربرية، مثلما يصف الرومانسية الثورية لهؤلاء الابطال أثناء احتضارهم، وهم غير آبهين بالموت ولا بالرصاص ولا بما أصابهم من رصاصات قاتلة خطيرة، وهم يهتفون بحياة الشعب وحزبهم!
مرة أخرى جزيل الشكر للسيد علي ابو الطحين الذي تجاوب معي ولم يبخل بإرسال نسخة مصورة من الكتاب.

سأنشر محتويات الكتاب تباعا وعلى حلقات ابتداءً من (المقدمة) التي كتبها الشهيد عبد الجبار وهبي باسم مستعار تحت عنوان (إلى القارئ العربي).

المجد والخلود لكل شهداء الحركة الوطنية والشيوعية السباقين في الشهادة ومقارعة الظلم والاستبداد.

محمد علي الشبيبي
السويد/ ‏24‏/08‏/2012
[email protected]


إلى القارئ العربي

ان الارهاب البوليسي والحكم العسكري العربي والمعتقلات والسجون والمجازر والقوانين الرجعية والاستهتار بالدستور وبالقوانين الرجعية ذاتها، وكل ما جرى وما هو جاري في العراق، لم يبق سراً خافياً على الرأي العام العربي والعالمي. فان "نقرة السلمان" مثلاً، لم تعد اسماً يعرفه عرب العراق وأكراده وحدهم وليس في العالم العربي يجهل أيضا ان حلف مندرس- السعيد- ايدن الاستعماري العدواني ما كان له ان يظهر إلى عالم الوجود لولا سياسة البطش والدكتاتورية الرجعية السافرة التي مارستها الطغمة الحاكمة في العراق وعلى رأسها عصابة نوري السعيد وان الشعب العراقي الذي ناضل بكل قواه ضد الحلف المجرم كما ناضل ضد الاحلاف المشابهة له من قبل وكما تناضل الان ضد هذا الحلف الشعوب العربية الشقيقة، لا يلتزم ولا يعبأ بقصاصة من الورق تحمل توقيع نوري السعيد وموافقة برلمانه المزيف.

ومع ذلك فان القارئ العربي وكل الاوساط الوطنية العربية والرأي العام بحاجة إلى التعرف، على نحو أكثر دقة وواقعية، على طبيعة تلك السياسة المجرمة -سياسة الخيانة الوطنية السافرة والإرهاب الرجعي الدموي الأسود- التي اعتمدتها عصابة نوري السعيد في تحقيق إرادة أسيادها، سعاة الحرب المستعمرين الامريكان والانكليز. ولمثل هذه المعرفة أهمية خاصة في هذا الظرف الذي يجهد فيه الاستعمار وأعوانه للإيقاع بالشعوب العربية الواحد تلو الآخر، في فخ حلف تركيا-العراق. فليس نوري السعيد إلا واحداً من تلك الذئاب المسعورة والأفاعي السامة التي ربّاها الاستعمار وتعهدها ومنحها الألقاب والأوسمة ونفخ فيها من روح زعامته وأمرها بان تحكم بأمره. وفي كل بلد عربي أكثر من ربيب واحد، لو تعرّوا مثلما تعرّى نوري السعيد وأفلسوا مثلما أفلس وفقدوا مثله كل رجاء في اللف والدوران والتستر، لآتوا بمثل ما أتى به نوري السعيد وعصابته في العراق.
فمنذ وقت قريب ظهرت في الصحافة الامريكية تصريحات أدلى بها نوري السعيد حول الاحلاف الاستعمارية قال فيها: ان العرب لا يرفضون التحالف مع الغرب لو ان حكوماتهم عرفت كيف تكلمهم بصراحة وجرأة.

أية "صراحة" وأية "جرأة" يريد نوري السعيد وتريد الصحافة الامريكية ان تعلمها للحكومات العربية؟ ان نوري السعيد إذ يتهم الحكومات العربية (وبعضا منها على الاخص) بالعجز والجبن وعدم الصراحة وإذ يفخر هو بصراحته وجرأته، فانما يعبر في الواقع عن خلاصة تجارب السياسة الاستعمارية العدوانية التي اتجهت منذ عشر سنوات بقيادة الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة الامريكية، نحو تشديد السيطرة على بلدان الشرق الاوسط وتحويلها إلى قاعدة حربية للاعتداء على الاتحاد السوفياتي، حصن السلام ونصير الشعوب وصديق العرب الأكبر، تلك السياسة التي أصطدمت وما تزال تصطدم بمقاومة الشعوب العربية. فقوله هذا إنما يعني: ان الشعوب العربية لا يمكن اقناعها بقبول الاحلاف والتكتلات الحربية إلا بسياسته "الصريحة" "الجريئة"، سياسة الارهاب والمذابح والمشانق والسجون.

وقد اعطت الدبلوماسية الامريكية كثيراً من الادلة على إيمانها بهذا الرأي وخصوصا بعد ابرام حلف تركيا-العراق. وما الضغط والتهديد والاستفزاز من جانب الاتراك والصهيونيين، وما مصرع العقيد الوطني عدنان المالكي على يد عملاء الاستعمار وبتوجيه منهم، وما تدخل ممثلي الحكومة الامريكية في الشؤون الداخلية لبعض الاقطار العربية، إلا تطبيق عملي للافكار التي عبر عنها نوري السعيد، ومحاولة لإقناع الحكومات العربية وخصوصاً حكومتي مصر وسوريا، بان تقتفي خطى حكومة السعيد. ومن هذا القبيل أيضاً ولكن على الطريقة الانكليزية، ما أظهرته ملكة بريطانيا العظمى من عواطف نبيلة نحو نوري السعيد وتقدير سام لخدماته القيمة بمنحها اياه (في أوائل حزيران 1955) وساماً من أرفع الاوسمة الانكليزية.
فجدير بكل عربي ان يتدبر ما يبيته المستعمرون وعملائهم وان يرى إلى سياسة الارهاب والهجوم على الحريات الديمقراطية باعتبارها الوجه الكافي لسياسة الاحلاف الحربية.

ان الوقائع المفجعة التي سيطلع عليها القارئ العربي في هذا الكتاب من خلال ما سنعرضه من صور الحياة في السجون العراقية ومجازرها، ستكشف القناع نهائياً عن وجوه اولئك "الساسة" الذين يدافعون عن الاحلاف العدوانية ويرون في نوري السعيد "الصريح" "الجريء"، نوري السعيد التي تحاول الدعاية الاستعمارية ان تخلق منه بطلاً من أبطال العالم الحر، معلماً لهم ومرشداً. وعندئذ يستطيع كل عربي ان يقول لهم: هذا أنتم وتلك نواياكم!

وسيجد القارئ في صفحات هذا الكتاب، كما نرجو، نواحي أخرى تستحق الاهتمام وإمعان النظر. فالعراق بلد تحكمه شركات البترول وكبار الاقطاعيين وحفنة من كبار الملاكين والمحتكرين، الذين جمعتهم بشركات البترول والشركات الاحتكارية الاخرى رابطة مصلحة واحدة في ان يظل الشعب بقرة حلوباً ويد رخيصاً للعمل، يستغلونه أبشع استغلال ويربحون أقصى الارباح على حساب كدحه المتواصل وجوعه الدائم وتأخره وجهله. تعاونهم في ذلك فئات من محترفي السياسة ورجال الجيش والشرطة والإدارة المدنية الذين أكتسبوا خلال فترة قصيرة من "الحكم الوطني" الذي أعقب ثورة 1920، ثروات طائلة فارتبطت مصالحهم المادية ومراكزهم الاجتماعية بالأوضاع الجديدة التي ترتب عليهم ان يحرسوها ويحافظوا عليها. وخلال الثلاثين سنة الماضية تركزت الثروة أكثر فأكثر بيد قلة من كبار الاقطاعيين وأبناء العائلات الذين تناوبوا وتبادلوا في مواقيت "عادلة" كراسي النيابة والوزارة، لينفذوا سياسة معلومة مقررة، ترسمها لهم المراجع العليا في السفارتين الانكليزية والأمريكية ومن تعتمدهم من كبار اصدقائهما الذين كان نوري السعيد أبرزهم وأقواهم في السنوات الأخيرة.

كان الجهاز الحاكم وعلى رأسه عصابة نوري السعيد أداة طيعة للسياسة الاستعمارية التي استنزفت ثروة البلاد وأفقرت الشعب وحالت دون تطور الاقتصاد الوطني وتقدم الصناعة الوطنية. فكان من أثر ذلك ان اشتد التناقض بين الاستعمار ومجموع الشعب وتعممت عوامل السخط والحقد على الاستعمار وحلفائه وعملائه في حين ان البرجوازية الوطنية ظلت هزيلة ضعيفة، اقتصادياً وسياسياً. وقد أدركت الجماهير بتجاربها الخاصة، خصوصاً في سنوات ما بعد الحرب حينما سمحت الحكومة سنة 1946 لعدد من الاحزاب الوطنية بان تزاول نشاطها السياسي، ادركت ان البرجوازية أضعف وأعجز من ان تطلع بقيادة نضال جماهيري محتدم متزايد في الشدة والعنف ضد الاستعمار والإقطاع ومن أجل الاستقلال الوطني والحريات الديمقراطية ومطالب الشعب الملحة. فصارت الجماهير الواعية تلتف حول الطبقة العاملة التي برهنت انها الطبقة الاكثر ثباتاً واستقامة وقدرة على قيادة النضال الوطني ضد الاستعمار والرجعية وأساليب الحكم التعسفية الارهابية الظالمة.

ولم يكن الاستعمار ليجهل من جانبه ما كان يجري من تطورات خطيرة في ترتيب القوى الطبقية وارتفاع مكانة الطبقة العاملة وحزبها السياسي في الحركة الوطنية التحريرية. فركز هجومه ضد الحركة العمالية ولجأ إلى أقسى تدابير القمع ضد نضالات العمال الاقتصادية والسياسية. وفي سنتي 48-1949، بعد وثبة الشعب الكبرى ضد معاهدة الدفاع المشترك مع بريطانيا "معاهدت بورتسموث"، شهد العراق أفضع هجوم انتقامي تعرض فيه آلاف وآلاف من المواطنين الى السجن والتشريد والاضطهاد واعدم فيه أصلب قادة الحركة العمالية الوطنية ولكن الارهاب ضد الطبقة العاملة وحزبها السياسي، وإعدام قادتها، زاد من ثقة الجماهير وإيمانها بالطبقة العاملة وزاد من التفافها حولها، وقد ثبت للاستعمار ان المشانق والسجون والقوانين الرجعية وقانون مكافحة الشيوعية "المادة الاولى من ذيل قانون العقوبات" لم تكن كافية لصد تيار الحركة الوطنية المتصاعد ولا كافية لمنع تحول قيادتها إلى الطبقة العاملة وحزبها السياسي. ثبت ذلك بشكل ملموس في وثبة 1952 التي لعبت الطبقة العاملة وحزبها الدور القيادي فيها، كما هو معلوم –تلك الوثبة التي اطاحت بحكومة (العمري) ووضعت حد للتفكير بمقترحات الدول الاربع للدفاع المشترك عن الشرق الأوسط لذلك لجأ الاستعمار والطغمة الحاكمة إلى ارهاب أشد قسوة وفتكاً، تناول جميع الحركات الديمقراطية الجماهيرية وخاصة الحركة النقابية والطلابية وركز حقده بوجه خاص على السجناء السياسيين فنظمت السلطات الرجعية في صيف 1953 مذابح السجون المشهورة وشددت أساليبها الوحشية في معاملة السجناء في سجون نقرة السلمان وبعقوبة بقصد ابادتهم أو تحطيم معنوياتهم وحملهم على الخيانة.

ان مذابح صيف 1953 والحوادث الاخرى التي رافقتها في سجن "نقرة السلمان" يمكن وصفها بانها شكل اعلى من اشكال الارهاب الذي ابتدأ بميثاق 1949 واستمر عدى فترات مقيدة، حتى هذا اليوم واتسع في صيف 1954 بعد تأليف نوري السعيد القائمة، حتى شمل كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، وحتى أصبح كل نشاط سياسي أو اجتماعي أو فكري تشم منه رائحة المعارضة للاستعمار والأحلاف، نشاطاً محرماً "وشيوعياً" يمكن ان يؤدي بصاحبه إلى المشنقة أو نزع الجنسية حسب القوانين التي سنها نوري السعيد ووافق عليها برلمانه المزيف. برلمان حلف تركيا-العراق واتفاقية نيسان العراقية - البريطانية.

لقد اعتمدنا في جميع الوقائع والمعلومات على وثائق رسمية وعلى شهادات ومذكرات وتقارير اناس عاشوا حياة السجن وكان لهم شرف الصمود بوجه الاضطهاد والجرائم والمجازر. وقد توخينا ان يأتي هذا الكتاب على صورة "ريبورتاج" ممتع –ان صح التعبير-، لكل ما هو جوهري ونموذجي في حوادث صيف 1953 وما بعدها. وإذا كان لأحد ان يتشكك في صدق الوقائع فليس بوسعنا إلا ان نقول له ان تلك الوقائع شهدها واطلع عليها آلاف الناس من السجناء وأهلهم وأصدقائهم وانه سيأتي اليوم الذي يتكلم فيه اولئك الناس امام "محاكم الشعب" ليقدموا لنا صورة كاملة عما شهدوه وعرفوه في أعماق السجون العراقية وذلك اليوم آت لا ريب فيه.

لا نريد ان نستبق القارئ إلى الانطباعات والاستنتاجات التي من حقه وحده ان يكونها لنفسه، بعد قراءة هذا الكتاب، إلا ان من حقنا أيضاً ان نقول له: ان قصة الحياة في السجون العراقية ليست قصة ظالم ومظلوم، بل قصة صراع دام بين قوتين عنيدتين تجمعهما عداوة قاتلة، كعداوة الحق للباطل، والحياة والموت. ثم، من واجبنا أيضاً ان نقول للقارئ وللرأي العام العربي والعالمي: ان الروح النضالية العالية التي تكشف عنها حوادث هذا الكتاب إنما هي روح شعب عظيم مجاهد لن تثنيه عن عزمه سجون ومشانق ومجازر ولن تقف في طريقه طغم حاكمة وعصابات ومؤامرات. وإذا كان نوري السعيد قد "نجح" بعد تمهيد من الإرهاب، والمجازر والمراسيم، في وضع توقيعه، بيد مرتعشة، على ذيل أوراق مكتوبة بالعربية والتركية والانكليزية فان الشعب العراقي الذي أنزل بالمؤامرات الاستعمارية ضربات قاصمة وهزم ابطالها أكثر من مرة خارج حدوده، ليملك الان كل القوى والإمكانيات لقبر حلف مندرس - السعيد - ايدن، والسير الى الامام بالتضامن مع كل الشعوب العربية الشقيقة والمجاورة في نضاله من أجل السلم والاستقلال والحرية والتقدم، في قافلة الانسانية السائرة نحو غدها السعيد.

محمد راشد
(الشهيد عبد الجبار وهبي - أبو سعيد -)
بغداد - حزيران 1955


***

من أعماق السجون في العراق * /2


قلب بغداد

قف!
فهذا هو الجدار الطويل ... الطويل، الذي يحجز خلفه مسرح الجريمة الشنعاء، مذبحة 18 حزيران 1953. هذا هو جدار السجن السياسي من سجن بغداد المركزي.
لستَ في صحراء أو غابة أيها القارئ. أنت في قلب بغداد. أنت في باب المعظم.

تلك هي المكتبة العامة الوحيدة في عاصمة الرشيد والمأمون، تقابلها عبر ساحة "باب المعظم" قاعة الملك فيصل، القاعة الارستقراطية الفخمة للتمثيل والمحاضرات، الوحيدة في عاصمة بلاد الحضارات القديمة والنفط والكبريت.
هنا، على الساحة أيضاً، مديرية مصلحة نقل الركاب في العاصمة، ذلك المشروع الانكليزي الذي تديره الحكومة العراقية لقاء عمولة معينة. وهناك، أبعد قليلا، وأنت تدخل شارع الرشيد تقع وزارة الدفاع ومن خلفها مجلس الأمة "البرلمان". وعلى دجلة ما بين وزارة الدفاع حتى شارع المتنبي، تحتشد معظم الوزارات والدوائر الحكومية والمحاكم في بنايات السراي العثماني، ومعظم دور الصحف والمطابع. يقابل هذا المحتشد، عبر شارع الرشيد، جامع الحيدرخانه المشهور الذي انطلقت منه أول مظاهرة في بغداد في ثورة "1920" ضد الاحتلال البريطاني، حيث سقط برصاص الانكليز عامل أخرس فشيعته وبكته بغداد برمتها.

هنا مقاهي بغداد - مقهى خليل، مقهى البرلمان، مقهى حسن عجمي، مقهى عارف آغا، مقهى الزهاوي. هنا انتظمت حلقات الفكر والأدب والسياسة في سنوات ما بعد ثورة 1920-.
وهنا أيضا سوق اعراض بغداد، المبغى العام "الكلجية" كما يسمونه، غير بعيد عن الوزارات والدوائر الحكومة ومديرية الشرطة العامة.

لنعد من حيث أتينا. ها هي ساحة باب المعظم حيث تتقاطع أربعة شوارع. ولنسر في شارع الامام الأعظم "أبي حنيفة". هذا هو الجدار الطويل، مرة أخرى، تتصل به مديرية السجون العامة. تقابلها المكتبة العامة –كما ذكرنا- تليها دكاكين، مقهى صغير، معمل نجارة، فمتحف التاريخ الطبيغي، فعيادة حماية الأطفال، فمستشفى حماية الأطفال، فوزارة الخارجية العراقية، فحدائق المعرض. وأبعد قليلاً تقع الثكنة التركية القديمة ومقر حامية بغداد. إلى الشرق كلية الهندسة. إلى الشمال كلية الحقوق فالوزيرية، حيث تحتشد كل السفارات والمفوضيات الأجنبية عدا السفارة البريطانية "في الكرخ" والسفارة الامريكية في الطرف الأقصى من الكرادة الشرقية، بعيدا عن الناس، بعيدا عن الحركة ....

ومن جانب آخر من جوانب ساحة المعظم يتفرع شارع مزدحم بالسيارات والكراجات، حيث تقع كلية العلوم والآداب وثكنة شرطة الخيالة، تقابلها كلية الملكة عالية للبنات، وأبعد قليلاً إلى الشرق يبدأ شارع غازي وتبدأ معه منافذ بغداد الكادحة - الفضل، بني سعيد، قنبر علي، أبو سيفين، أبو شبل، باب الشيخ ... -.

وخلف السجن من جهة الغرب حتى دجلة يقع مستشفى "المجيدية"، إحدى مآثر السلطان عبد المجيد، بحدائقها الفسيحة ومبانيها القديمة والحديثة. وفي الجهة الملاصقة للسجن من المجيدية، تمتد مباني الكلية الطبية الملكية وكليتي الصيدلية والكيمياء.

هذا مكان السجن المركزي من قلب بغداد.
هنا نقف نحن، وسط شارع الإمام الأعظم وعلى بعد خطوات تمتد ساحة باب المعظم. على يميننا الجدار الطويل ... وإلى يسارنا وزارة الخارجية العراقية.

على يميننا مسرح جريمة شنعاء مخجلة، وإلى يسارنا مكان يتحدث فيه أصحابه إلى ضيوفهم بلغة ناعمة مؤدبة ويحفظ فيه موظفون أمناء وثيقة حقوق الإنسان وشريعة الأمم المتحدة، إلى جانب النسخة الاصلية من معاهدة 1930 العراقية البريطانية الملغاة ومعاهدة التحالف التركي – العراقي- البريطاني (الامريكي بالطبع)، التي حلت محلها.

وبإمكاننا حيث نقف أيها القارئ، أن نشارك السجناء السياسيين مرتين في اليوم سماع صافرات الشرطة وهي تنذر الناس والباصات وسيارات التاكسي بان تتوقف عن السير ريثما يمر الموكب الملكي ذاهبا إلى البلاط من هذا الطريق بالذات وعائد منه. وان نشارك الضيوف الأجانب انطباعاتهم عن بناية وزارة الخارجية ذات الجمال المتزن الهادئ، بأقواسها وفسيفسائها الملون التي تذكر بثلاثة عشر قرنا من الحضارة العربية الإسلامية التي أمرت بان (لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، ويزعم الحكام العراقيون الرجعيون انهم ورثتها وحماتها. وان نشارك في دهشتهم من "شجاعة" الحكام العراقيين الذين نصبوا في هذا المكان من قلب بغداد ، ربايا للرشاشات وأطلقوا النار على 150 إنسان أعزل، تحيط بهم أربعة جدران. بإمكاننا أيها المواطن أن نتحسس حيث نقف، نبض الحياة في هذا البلد، وصراع كل المتناقضات فيه. وبإمكاننا، ونحن في هذا الجزء من بغداد حيث تنشط الإنسانية والرحمة في المستشفيات، والفكر والأدب والعلم والسياسة في المدارس والكليات والمكتبات ودور الصحف والمطابع، والعمل والحركة والضجيج في الكراجات والباصات ودوائر الحكومة والمقاهي، بإمكاننا بطلقة واحدة من مسدس نطلقها في الفضاء، أن نهز أعصاب بغداد كلها وان نترك العيون والآذان والشفاه تتطلع وتتسمع وتستفهم:
شكو ، داد؟؟ شكو باب المعظم؟

عفوا أيها القارئ! فاتني أن أخبرك أن الشارع المزدحم بالباصات والكراجات وثكنة الخيالة وكلية العلوم، الموصل ما بين باب المعظم وشارع غازي، هذا الشارع قد أُطلق عليه أسم "نوري السعيد" . وفي التسمية اعتراف بفضل نوري السعيد على أرصفة هذه الأماكن المشهورة من بغداد وعلى أجوائها وخرائبها ومبانيها. ذلك أن باب المعظم عرفت أكثر من مرة، بفضل الحكام الرجعيين وعلى رأسهم نوري السعيد، مذاق الدم ورائحة البارود وغاز الدموع. واحتفظت على الجدران والشرفات بأوسمة الرصاص وآثار الكر والفر. فمن تلك الساحة أنطلقت شرارة وثية كانون الثاني 1948 التي طوحت بمعاهدة "بورتسموث " اتفاقية جبر – بيفن ، ومنها في سنة 1952 تدفقت أولى مظاهرات تشرين الثاني التي أحبطت مقترحات الدول الأربع: امريكا، انكلترا، فرنسا، تركيا، للدفاع المشترك، والقت على المستعمرين وأذنابهم درساً آخر من دروس الوطنية الثائرة.

أما في هذا اليوم الثامن عشر من حزيران 1953، بعد الظهر، فلابد أن يكون لنوري السعيد، وزير الدفاع والرئيس الفعلي لوزارة جميل المدفعي القائمة حينذاك، لابد أن يكون لديه فضل جديد يضيفه إلى أفضاله السابقة. فثمة أمور غريبة تجري في باب المعظم!

الأحكام العرفية مازالت معلنة منذ وثبة تشرين الثاني 1952 وبغداد هادئة ساكنة إلا من الهمس، والغضب المطل من العيون. وعرائض الاحتجاج الشعبي، تنتقل من يد إلى يد بسرعة وحذر. والنظام والأمن سائدان مستقران! فما معنى تلك الفصائل من الشرطة، بخوذها الفولاذية وسياراتها (الجيب) المسلحة ورشاشاتها وحقائب قنابل غاز الدموع! ما معنى أن تتجمهر الشرطة في ظل الحائط الطويل ثم تذهب فصائل هنا وهناك وكأنها تحتاط وتستعد لأمر ما!؟

ما معنى تلك الحركة الغامضة المريبة؟
شهدت باب المعظم في السنوات العشر الماضية كثيراً من مثل هذه الحركات. كانت الشرطة تصطف وتتنكب السلاح وتتفرق جماعات إلى رؤوس الطرق والمنعطفات وتختبئ في المقاهي وتتحصن على السطوح وخلف الحيطان. ولا تلبث طويلا، حتى كنت تسمع من جهة ما، همهمة بعيدة. ويتوتر الجو وتتراكض الشرطة وتطقطق ترابيس البنادق وتجنح السيارات إلى الأرصفة. وتبرز فجأة لافتات وأعلام فوق موجة حالكة مضطربة عارمة، من الرؤوس والسواعد والصدور، تتقدم باندفاع نحو باب المعظم. ويدوي الرصاص، وتدوي الحناجر. وتتمزق اللافتات وتتلطخ بالدم وترتفع على الأعواد مزق حمراء طرية من قميص أو جاكيت. ويعلو الهتاف: يسقط الاستعمار، يسقط الجلادون، تسقط المشاريع الحربية، تسقط معاهدة 1930، يعش السلم، تعيش الجبهة الوطنية. وتقع الضحايا ويفشل الرصاص. وتتقدم الجماهير، وتطير كأسراب الجراد الجائع، قطع الحجارة والطابوق"الآجر" من كل صوب. وتقترب الوجوه المعفرة الثائرة تعلوها صفرة الغضب. ثم تشهد باب المعظم عجائز حافيات الأقدام وعمال بناء وطلاب وطالبات وماسحي أحذية صغار ومحرري صحف وحمالين عرب وأكراد وكتاب وشعراء شباب. وتخلو باب المعظم من أيما أثر للشرطة سوى خوذة مهشمة وسيارة جيب تأكلها النار، وروائح خانقة. وتحتل الجماهير شوارع بغداد فتسقط الوزارات ويطير الوزراء إلى حيث لا يعلم إلا السفير البريطاني.

شهدت باب المعظم الكر والفر والتطويق ومناوشات شرطة الخيالة المتحصنة فوق سطوح الاصطبلات. وألفت صفير سيارات الاسعاف ورأت أقداماً ميتة، حافية أو في الجوارب والحذاء اللامع، تتدلى فوق الأعناق أو من نقالات الاسعاف، رأت رؤوسا معصوبة، وبقع دم، وهراوات وخناجر. وتعلمت فلم يعد يفزعها شيء، لا دماغ بشري تنثره رصاصة ولا ضابط شرطة يموت تحت الأقدام. رأت مشنقة وشهيد يصيح من فوقها فجر 15 شباط 1949:
(لي الشرف أن أشتق في هذا المكان الذي نطلق منه مظاهرات أبناء الشعب)(1)
ورأت إمرأة فوق كلية العلوم والآداب، تلف العباءة السوداء على خصرها، في 17 كانون الثاني 1952، وتهلهل وسط الرصاص وقنابل الغاز المتطايرة في الفضاء (2).

ورأت أيام تشرين المجيدة من سنة 1952 وخاتمتها على يد الجيش الذي استعانوا به بعد هزيمة الشرطة، ورأت سيارات الجيش وأكياس الرمل ونظرات حادة تصوبها الجماهير من عيون حاقدة قلقة: انهم يعفرون شرف الجيش بالتراب!

عرفت باب المعظم عدوها جيداً في كل صوره وحركاته وبكل قسوته وبربريته. لكنها تقف حائرة هذا اليوم، الثامن عشر من حزيران 1953، بعد الظهر، لا تدري من أمرها شيئاً. فالعدو يفاجئها بأسلوب جديد وبحركات غريبة لا تفسير لها. كانت الشرطة تطوق السجن وتسد المنافذ إليه من كل الجهات. وقد حولت طريق الباصات والسيارات الذاهبة إلى الاعظمية والعائدة منها، إلى شارع آخر وأمرت الناس فيما حول السجن بالنزول من على السطوح والشرفات. وكانت الامدادات من الشرطة تتوالى وكلها بملابس الميدان. ثم ظهرت أعداد كبيرة من الشرطة فوق سطوح السجن وأبراج المراقبة. ومن بعيد صار الناس يراقبون تلك الحركة النشيطة، والشرطة تطاردهم وتلاحقهم إلى شارع نوري السعيد والرشيد وباتجاه الاعظمية وكلية الهندسة وشوارع العيواضية. ومن بعيد، حمل الهواء صياحا وتهديداً وشتائم، وارتفعت دمدمات قنابل الغاز، وحظرت سيارات الإطفاء التي صبت مياه خراطيمها من فوق السطوح، في بطن السجن، مع سيل الشتائم والأحجار والرصاص الذي أخذ يثور ويلعلع ويشتد.

هناك شيء من الأعماق، من الضمائر، شيء غير الحق والغضب، يولد في قلوب الناس الذين شاهدوا من بعيد تلك الحركات الغريبة وسمعوا الرصاص وفهموا ما أقدمت عليه الحكومة وراء الجدار الطويل. انه الاشمئزاز!
كانت باب المعظم، حتى الحيدرخانة في شارع الرشيد وحتى مقاهي الفضل في شارع غازي، تتساءل بذهول عن الرصاص الذي انطلق في مساء ذلك اليوم.

صعب على قلب بغداد الأبي الشجاع ان يفهم وان يسلم بصدق الخبر الذي انتشر في المقاهي والبيوت والحوانيت والشوارع، خبر المذبحة في السجن السياسي. مستحيل! هذا مستحيل! وباتت بغداد، تلك الليلة، في قلق شديد فهي تخشى أن يكون المستحيل قد وقع فعلا.

في صباح اليوم التالي أصدرت مديرية الدعاية العامة نيابة عن الحكومة، هذا البيان ننقله إلى القارئ نصاً:-
{كانت الحكومة قد نظرت بعين العطف إلى طلبات ذوي السجناء الموجودين في سجن نقرة السلمان فنقلت أكثرهم إلى سجن بغداد المركزي وكان بضمنهم اثنان وعشرون يهودياً شيوعياً. وقامت بكل الوسائل الممكنة للترفيه عنهم وعن المحكومين الاخرين بنفس التهم. وعلى الرغم من ذلك فانهم دأبوا على الاتصال بأعوانهم في خارج السجن عن طريق المراسلات وغيرها وإحداث الشغب والتمرد في داخل السجن مخالفين بذلك نظام السجون بصورة مستمرة مما حمل الحكومة على تقرير نقلهم إلى سجن بعقوبة للحد من نشاطهم. وقد بُلغوا بأمر النقل قبل موعده بيوم واحد. وفي يوم 18-6-1953 تمردوا ضد القائمين بتنفيذ أمر النقل وقاموا بمظاهرة داخل السجن استعملوا فيها عبارات القذف ضد المقامات العليا وضد الحكومة. وحضر كل من متصرف لواء بغداد ومدير السجون العام إلى مركز السجن وابلغوهم بلزوم الانصياع للأمر ونصحوهم بتجنب احداث الشغب والتوقف عن التمرد إلا انهم قابلوا هذه النصائح بالعنف وباشروا برمي رجال الأمن بالحجارة والقناني والقضبان الحديدية واستعملوا مختلف الالات الجارحة في تمردهم هذا مما أدى الى جرح ثلاث وسبعون شرطياً بضمنهم 16 معاون ومفوض. فاضطرت الشرطة الى مقابلتهم بالمثل لردعهم. فأطلقت بعض العيارات النارية حدثت بسببها إصابات أدت إلى موت سبعة من المساجين وجرح 22 منهم نقلوا الى المستشفى. وقد نقل السجناء الباقون وعددهم 120 سجينا الى سجن بعقوبة.
والحكومة جادة في التحقيق حول حادث اطلاق النار والمسببين للتمرد والشغب}

اعتاد الحكام الرجعيون ان يصدروا البيانات الرسمية بمناسبة وغير مناسبة واعتاد الناس كذلك ان يقرؤها في الصحف، ان يقرأوا سطورها وما بين سطورها.

في كانون الثاني 1948 كانت الجماهير تهتف بسقوط صالح جبر وتطالب بإعدامه وإعدام نائبه جمال بابان وإعدام نوري السعيد عضو وفد المفاوضة في بورتسموث، حين كان جمال بابان وأعضاء الوزارة قابعين في قصورهم المحروسة جيداً، يتخابرون فيما بينهم بالتلفونات. في ذلك الحين أصدرت الحكومة بلاغات تقول: كل شيء هادئ في شارع الرشيد! وتقول أحياناً: اليهود في بغداد يتظاهرون لعرقلة جهود صالح جبر ونوري السعيد لإنقاذ فلسطين.

ففي صباح 19 حزيران، اطلع الناس على بيان حادث السجن، وفي رؤوسهم ذكريات مخجلة عن بيانات الحكومة العراقية، وقرأوا ما فيه وما ليس فيه. كانت الوجوه تتجهم وتعبس، والشفاه تكشر عن اشمئزاز واحتقار.
مذبحة، مجزرة، لطخة عار، جريمة لم يشهد التاريخ لها مثيلا ....
هذا ما فهمه الناس من بيان الحكومة العراقية.

الاحكام العرفية ما تزال معلنة منذ تشرين الثاني 1952 - كما قلنا - وقد بلغت كامل مداها من الانتقام والتنكيل بالشيوعيين والديمقراطيين والمواطنين وأنصار السلم من عمال وطلاب وكتبة وفلاحين ومثقفين وشباب ونساء. والسجون غاصة حتى ابوابها. والمجلس العرفي العسكري مأخوذ بحمى هستيرية شديدة، تلك الحمى التي طغت على أعماله بعد مظاهرة الطلاب في 14 آذار، وعلى الاخص بعد القاء القبض في نيسان على أربعة من المناضلين الذين أراد نوري السعيد إعدامهم ولكن احبط مسعاه تحت ضغط الرأي العام العراقي والعربي والعالمي، فحكم المجلس على ثلاثة منهم بالسجن المؤبد وعلى الرابع بالسجن 15 سنة.

كانت الوجوه تتجهم وتعبس والأحكام العرفية تمنع كل تعبير عن الاحتجاج والرأي. وآباء ضحايا المذبحة وأمهاتهم وإخوانهم عبثا يحاولون عمن يدلهم على جثث قتلاهم. فالحكومة تعلم جيداً ان بغداد ستخرج عن بكرة أبيها لتشييع الضحايا، كما شيعت نعمان محمد صالح في كانون الاول 1951 الذي استشهد في سجن بغداد السياسي، بعد إضراب طويل عن الطعام. وانتهى بهجوم الشرطة على المشيعين في المقبرة، وبالدماء والاعتقالات، وبأوامر رسمية نشرتها الصحف، في اليوم التالي، تلزم الموتى باستحصال رخصة من شرطة المرور للذهاب الى المقبرة!. وكان مئات الآباء والأمهات والأخوان والأخوات والأصدقاء يتساءلون عبثا عن مصير الجرحى عمن مات أو سيموت؟ فاتجهت الانظار الى مستشفى الكرخ (3). حيث خصصت الحكومة غرفة منه للسجناء السياسيين لمعالجة المرضى منهم الذين يؤتى بهم الى بغداد من السجون البعيدة كنقرة السلمان والكوت وبعقوبة.

في صباح ذلك اليوم، 19 حزيران 1953 كانت سرية مسلحة من الشرطة بخوذها الفولاذية ورشاشاتها وبنادقها تطوق المستشفى وتحرس الغرفة المغلقة بقفل كبير على من فيها من جرحى وأسرار غامضة.
كان القلق يمزق أفكار الناس وعواطفهم. ماذا يكون المصير؟ كيف سيأمن الناس على حياتهم بعد اليوم؟ وهل سيقف المجرمون عند حد؟

وقبيل الظهيرة استطاعت ورقة صغيرة ان تشق طريقها الى الخارج، تنبئ ان واحدا من الجرحى قد مات وان الجرحى لم يتلقوا اي علاج او اسعاف حتى ضمن ذلك النهار وانهم سيموتون جميعا لا محالة.

فاندفع كثير من شرفاء الناس يعالجون الامر مع المراجع الرسمية، وخرجت مظاهرة خاطفة، وتكهربت شوارع بغداد. وفي نحو الساعة الثالثة بعد الظهر، دخل أول طبيب الى غرفة الجرحى في مستشفى الكرخ، ليأمر بإخراج الجثة، وليرى أجساداً محطمة غارقة، على الأسرة، ببرك من الوحل والدم. هكذا بدأ وجه الجريمة التي روعت بغداد يسفر شيئا فشيئا وخيوط المؤامرة الدنيئة تبين في وضح النهار.

محمد راشد
(الشهيد عبد الجبار وهبي - أبو سعيد -)
بغداد - حزيران 1955


* لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1) الشهيد حسين محمد الشبيبي "صارم" الذي أعدمه الاستعمار مع رفيقيه يوسف سلمان "فهد" وزكي بسيم "حازم".
(2) كان ذلك في الذكرى الرابعة لوثبة كانون حينما أضربت الكليات وخرج الطلاب والجماهير في مظاهرة من باب المعظم. وبعد مهاجمة الشرطة لها، اعتصم بعض المتظاهرين في بناية كلية العلوم وجرت معركة حصار دامت بضع ساعات.
(3) يقع هذا المستشفى على مقربة من السجن في جانب الرصافة وليس كما تدل عليه التسمية.

***

من أعماق السجون في العراق * /3

في مستشفى الكرخ

في السادس عشر من حزيران 1953، قبل المجزرة بيومين، فوجيء السجناء السياسيون المرضى في مستشفى الكرخ بأجراء غريب، فقد جاء الطبيب، يفحصهم على عجل، واحداً واحداً، ويسجل على استمارة كل مريض عبارة: "أنهى العلاج، خرج بتأريخ ..." ولم يسلم من هذا الاجراء غير مريضين اثنين، أحدهما يشكو نزيفاً حاداً في المعدة، أوشك ان يودي بحياته فنقل من سجن نقرة السلمان الى مستشفى الكرخ. وكان حتى ذلك اليوم خائر القوى لا تكاد رجلاه تقويان على حمله. وكان الثاني في حالة خطرة من مرض عضال.

فاحتج السجناء المرضى بعريضة أرسلوها الى المراجع المختصة والصحف اليومية وطالبوا بالبقاء في المستشفى الى حين شفائهم التام. لكن الشرطة نقلتهم من أماكنهم بالإكراه. فخلت الأسرة، في تلك الغرفة، إلا من أثنين شاءت الصدفة أن يكونا، في ما بعد، سببا في نجاة الجرحى من موت محقق.

(شكو عندهم؟ شكو عند الحكومة؟ لابد ان مؤامرة تحاك على حياة السجناء المرضى...
ولم يذهب فكر أحد من الناس الى ابعد من هذا الظن. غير ان الشرطي نائب العريف (ح ....)، وهو فلاح هجر قريته بعد ان اغتصبها الاقطاعيون الكبار في لواء العمارة وجاء الى بغداد فتقلب في عدد من الاعمال وبقي رغم ذلك جائعاً مع عياله حتى التحق بالشرطة منذ 9 سنوات، هذا الشرطي لم يحتفظ بالسر. ففي اليوم الثاني جاء (ح ...) الى أحد السجينين المريضين، وكان قد توثقت بينهما عرى المودة، ليهمس في إذنه: (يا استاذ رايحين ياخذونه بكرة الى سجن بغداد، عندهم قضية، راح ينقلون مساجينكم الشيوعيين بالقوة، وراح يضربونهم.)

وفي صباح 18/6 كانت ردهة السجناء في مستشفى الكرخ، هادئة ساكنة، خالية من المرضى ولا يحرسها غير شرطي واحد عند الباب، بعد أن انسحبت القوة لأداء مهمتها الخاصة في سجن بغداد.
مؤامرة ... مذبحة أين من يوصل الخبر للرفاق!؟ والأسرة فارغة، مهيأة للاصابات! سفاكون يتظاهرون بالإنسانية! يريدون ان لا يرحموا الجرحى من أسرة يموتون عليها في المستشفى! ... السجن قريب من هنا، ولسوف نسمع الرصاص ...

كانا يتحادثان بصوت خفيف، وهما مستلقيان في السرير، والمروحة الكهربائية المعلقة في السقف تنفخ على وجهيهما هواء حزيران في بغداد، جافاً ساخناً، كأنفاس التنور. وبعد ان تجاوزت الساعة الرابعة بعد الظهر سمعا انفجارات قنابل الغاز وسمعا بوضوح بعد ذلك اطلاق الرصاص من البنادق، وصليات الرشاشات.

بعد ساعتين عاد (ح ...) يشتم ويلعن ويكفر بأرباب معاشه، يكفر بالملح والخبز والبدلة الخاكي ذات الازرار اللامعة (استاذ ذبحوهم، مردوهم، ما ظل واحد سلامات،. بالحجار، بالرصاص بالحراب بالبساطل، بالعصي ... ماكو واحد سلامات. استاذ ما صار مثلها. كالولنا اذبحوهم.)

وخرج (ح ...) على حذر واختفى مسرعا.
كان الليل يهبط والساعة حوالي الثامنة، حينما ظهرت النقالات يحملها رجال الشرطة، ويظهر عليها، تحت الضوء الخافت في حديقة المستشفى، أكوام مشوشة حمراء. وصارت الاسرة في ردهة السجناء في مستشفى الكرخ تمتلئ بالجرحى.

كان الذعر والدهشة والقلق والغضب بادياً على السجينين المريضين. كان أحدهما قد أمضى مدة من الزمن في سجن بغداد وهو يعرف رفاقه السجناء واحداً واحداً ... لكن، من هؤلاء؟ أهؤلاء بشراً حقاً؟!
في كل سرير بركة من الوحل والدم، بركة يشرب منها الفراش وتبقى طافحة! هي هي! بقايا ملابس ناقعة بوحل أحمر، لاصقة على الأجساد. انوف حمراء بحجم الرمان، أفواه تسيل من زواياها الدماء، جباه متهرئة، مزق من الجلد والشعر تتدلى على الاذان والحواجب، ودم أزرق، عيون مغلقة متورمة، وأخرى في سبات غيبوبة عميقة. سواعد وسيقان مهشمة ملقاة كالخرق وسط الدم والطين. جروح مفتوحة، شريان أبيض في ساعد أحد الجرحى، ينفر منه خيط من الدم في دفعات متلاحقة سريعة. صور لا يصدقها العقل. صور تذهب بالعقل! فاغمي على أحد السجينين المريضين الذين شاهدا أفضع ما يمكن أن تشاهده عين إنسان. وبقي الاخر يقفز كالمجنون من سرير الى سرير، يتطلع في الوجوه ويتحسس الاجساد اللزجة. يسحب يد هذا من تحت جسده ويمدد رجل ذاك. يقيم عنقاً ملوياً، ويمسح الطين عن شفة مغلوقة متورمة ... ولكن ما جدوى هذا العبث أمام أموات وأنصاف أموات!

كانت الباب مغلقة، والحراسة قوية بعد ان حضرت سرية من الشرطة وطوقت المكان. ولا أثر لأي طبيب أو مضمد أو ممرضة. فبدأت الحقيقة المرعبة تتجلى رويداً رويداً أمام السجين المريض، الخائر القوى، الذي وجد نفسه أقوى من في الردهة. فاندفع الى الباب، يضربها بعنف، ويصيح بالمفوض طالباً الطبيب الخفر والممرضات: أنا أحتج، انهم يموتون، ينزفون ... الجروح والكسور مبتلة بالماء والطين ... نحتج نحن السجناء السياسيين ... نحن السجناء السياسيين، نحتج على هذا الإجرام، على هذه البربرية! كان يصرخ، حينما قاطعه المفوض بصوت ثابت صريح: عندي أوامر! لا تشاغب، وإلا طرحناك مثلهم ... لا تشاغب!
كانت الحال تزداد سوءاً دقيقة بعد أخرى. فالجرحى يستغيثون مذعورين، ويتقيئون خليطا من الوحل والدم، ويختنقون ويحشرجون. يريد بعضهم ان يبول فيعسر عليه فيصرخ! وتشتد آلام الكسور، من الأيدي والأرجل والأضلاع، وترتفع صرخات مكتومة، عند كل حركة ارادية أو لا ارادية. ويكتشف البعض لأول مرة، بعد غيبوبة طويلة ... انه يموت ... يختنق ... ينزف يتقيأ دماً ... انه مشلول الساق أو مكسور اليد! كان بعضهم يئن وبعضهم يهذي ... مستغيثاً.
- هه ي هوار مردم، دايه ... هه ي هوار، مردم، دايه.
كانت هذه الكلمات يرددها شاب كردي فاقد الوعي. ويسقط بعضهم من السرير. ويغطي الارض وحل ودم وقيء، ويفسد الهواء. وتثقل رائحة الدم البشري المسفوح وتعجز المروحة عن تجفيف العرق المتصبب من الوجوه، والدقائق تمر وكأنها الساعات الطوال، ولا شيء في الردهة غير حنفية الماء وقطع ملابس داخلية قليلة، تحولت كلها الى ضمادات جروح وأربطة كسور ومناديل لتبليل شفاه الجرحى الملتهبة عطشاً ...
- رفيق ... ماء، ماء! ماء ...
وكان أحدهم يلح في طلب الماء ويتقيأ حالما يصل الى جوفه
- رفيق، أين البقية؟ هل ماتوا. هل مات 150 سجيناً؟ ماذا حدث؟
ولكن هذا الرفيق (واسمه مهدي) وهو أصحاهم وأكثرهم وعياً، لا يتذكر شيئاً سوى ضربة ثقيلة من الرصاص أصابت فخذه الايسر فسقط على الأرض. وتمضي بضع ساعات، فيتشنج جسد الرفيق مهدي ويلح عليه العطش، ويظل يشرب ويتقيأ. وينتفض فجأة في فراشه، ليقول:
- انا ما اريد أروح ... ما اريد. أنا شاب ... أريد ان أبقى معكم، مع الرفاق ... انا شاب ... عمري عشرين.
- لا يا رفيق مهدي، لا! انت شيوعي، أنت قدوة! وإصابتك بسيطة. وستبقى مع الرفاق، نعم ستبقى!
لكن مهدي يتشنج وتتغير معالم وجهه ويموت ... فيخيم على الردهة جو رهيب. الموت يتربص في كل زاوية من هذا المسلخ البشري الناقع بالدم والوحل والقيء.
كان (ع ...) في السرير المجاورة لجثة مهدي، يصارع غيبوبة ثقيلة في رأسه ويستفيق، أحياناً، حينما ينوش وجهه رشاش من القيء. ها هو يرى، على السرير المجاور، جثة مغطاة.
- مهدي ... مات؟
- نعم ... مات. هذا طريقنا يا رفيق (ع ...) هذا طريق المناضلين.
مات مهدي متسمما بالكزاز "الغانغرين" كما صرح الطبيب في اليوم التالي. والكزاز، كما هو معلوم، علاج ميسور لو ان الشرطة سمحت للأطباء دخول الردهة في أول الليل.
* * *
بعد اسبوع واحد، والجرحى والمرضى ما يزالون جرحى ومرضى، نقل السجناء الاثنان والعشرين الى سجن بعقوبة. واحتفظ بعضهم بعاهات دائمة. وخلال ذلك الأسبوع، كانت سرية الشرطة تطوق المكان، وهي بملابس القتال وبكامل اسلحتها ومعداتها، ولا تسمح للأطباء ولا للممرضات بدخول الردهة او الخروج منها إلا بعد التفتيش الدقيق، كانت ايدي الشرطة تمتد الى لفائف القطن والشاش المعقم فتعبث به وتلوثه ... مثلما كانت الايدي ذاتها تمتد عند مداخل سجون بغداد والكوت ونقرة السلمان وغيرها، الى الطعام والثياب وجوارب الاطفال وآذان النساء وأماكن أخرى يخجل القلم من ذكرها، بحثا عما يسمونه "مواد ممنوعة" و "مواد خطرة" "ومراسلات". ذلك لكي يسمحوا للأمهات والآباء بزيارة أولادهم السجناء.

في السجن السياسي ببغداد
في صباح 18 حزيران 1953، أبلغت السلطات الحكومية السجناء السياسيين بقرار مفاجئ لنقلهم الى سجن بعقوبة. وكانت المفاوضة جارية بين السجناء والسلطات الحكومية حول الموضوع. زعمت الحكومة ان سجن بعقوبة أكثر ملائمة وأوفر راحة للسجناء في السجون الأخرى وان الحكومة ستنقل الى سجن بعقوبة جميع السجناء السياسيين بما فيهم سجناء "نقرة السلمان". فكان موقف سجناء بغداد، ذلك الموقف الذي يفرضه عليهم روح العطف والتضامن مع سجناء نقرة السلمان. كان موقفهم يدعو الى نقل سجناء نقرة السلمان أولاً، وقبل غيرهم، وإلغاء ذلك السجن، كدليل على صدق الحكومة وحسن نواياها. لذلك كان قرار نقلهم، في 18 حزيران الى بعقوبة، نقضا لوعد الحكومة، ومفاجأة شديدة الوقع، لسجناء بغداد.

فتجددت المفاوضات، صباح ذلك اليوم واستحصل السجناء وعداً من مدير السجن بمراجعة الوزير. وكان الأمر عادياً، بادئ الأمر حتى الظهيرة، حينما طرق أسماع السجناء، وكانوا يتناولون غذائهم، دبك شديد على السطوح فهرعوا الى الساحة لاستجلاء الحقيقة فدهشوا لما رأوا. لكنهم أكتفوا بان طالبوا بجواب الوزير. فقيل لهم: ان سيأتيهم الجواب بعد ساعة.
كانت شرطة السجن (السجانون) تنقل أكياس الرمل وتصفها في أماكن معينة، تشرف على ساحة السجن الداخلية، وتصنع منها ربايا واستحكامات.

ثم علم السجناء بما كان يجري خارج السجن، وبوجود مئات الشرطة المسلحين، فأدركوا الموقف، واتخذوا قرارات بالدفاع عن أنفسهم ضد أي اعتداء.

كانت الشرطة متفوقة بالعدد والموقع والسلاح وفي كل شيء سوى البسالة والإيمان. فأدرك السجناء ان خط الدفاع الرئيسي هو الباب، الباب الكبير المؤدي من الممر "خلف الجدار الطويل" الى الساحة الداخلية وان خط الدفاع الثاني هو الابواب الأخرى، ابواب الغرف والردهات وباب المطبخ. والخط الثالث ...؟

ليس هناك خط ثالث! هناك الصمود فقط!
رسمت خطة الدفاع هذه، ووزعت الاعمال. وجاء جواب الوزير، في موعده بالضبط، سيلاً من قذائف غاز الدموع المتساقطة على ساحة السجن!.
كان المناضلون يلفون ايديهم بالخرق المبللة بالماء، ويلتقطون القذائف، والدخان يتصاعد منها، ويقذفون بها الى السطوح مرة أخرى. لكن الدخان ظل يتكاثف ويتكاثف، فتتساقط الدموع ويسيل المخاط ويتحرق البلعوم ويشتد السعال، ويبقى المدافعون، عن الباب الكبير، صامدين في أماكنهم، الى جانب أكوام الحجارة التي هيؤها لاستقبال المهاجمين.

وأخذت الشرطة تقذف السجناء بأحجار كبيرة وتطلق الرصاص لكنهم عجزوا عن اقتحام الباب، حتى تحول الهجوم الى هجوم عسكري بالمعنى الصحيح، معتمدا على النار والحركة في وقت معاً. ومهدوا للهجوم بخراطيم المياه التي تصب على جوانب الباب، حتى انهار.

ثم اقامت الرشاشات ستاراً من النار أمام القوة المهاجمة التي اقتحمت الثغرة شاكية الحراب على البنادق، وهي تطلق الرصاص حتى بلغت مدخل الساحة، حيث تقع على الجانبين غرف صغيرة، اختبأ فيها عدد من السجناء. كان عامل من عمال السكك في مقدمة المدافعين. فصرعه الرصاص لكنه نهض، فتناولته الحراب فسقط وسحقوا رأسه بأخماص البنادق حتى ساووه مع الأرض.
كانوا يتقدمون مهرولين كذئاب جائعة ويصرخون صرخة الحرب.

وسقط الشهيد الثاني، المعلم "محمد علي حسون"، وكان يهتف هتافات وطنية ويتخبط، حينما بلغته الحراب. لكن الرصاصة التي اطلقها أحدهم في فمه كانت أسرع من الحراب لإخماد صوته القوي المدوي. ثم نالت الحراب مأربها من جثة هامدة!
كان السجناء يفزعون الى الغرف والردهات، ونار الرشاشات والبنادق تحصدهم فيتساقطون وينتثرون في الساحة المشمسة المبتلة بماء الخراطيم، ومن حولهم تتسع بقع الدم حتى يتصل بعضها ببعض. وأخيرا اعتصم السجناء في الغرف والردهات وغرفة المطبخ، وأطلقت الشرطة النار عليهم من الشبابيك. ولم يكن للمطبخ شباك على الساحة ففتحت الشرطة بالمعاول منفذاً في السقف، اطلقت منه النار على السجناء.

وعند ابواب الغرف التي استطاعت الشرطة اقتحامها، بادئ الأمر، اقامت الرشاشات المطلة على الساحة، ستاراً من النار لتمنع السجناء من الخروج منها، ولتطيل أمد الصراع الغير متكافئ، الناشب في كل غرفة، صراع الايدي العزلاء ضد الحراب والبنادق. فكانت الشرطة تخرج من الغرف بعد ان تقضي على كل مقاومة فيها، ويكف الرشاش على توجيه رصاصه الى الأبواب المحطمة، المفتوحة على مصراعيها. لكن الردهة الكبيرة، عند الطرف الاقصى من الساحة، ظلت صامدة بوجه الهجوم فاستمر الرصاص ينهال عليها من السماء والأرض.

كان منظر الساحة رهيباً مفجعاً، بما فيه من أجساد ودماء ووحل وأحجار. لا حركة ... لا صوت ... غير عواء الرشاشات المرتفع الحاد، وطلقات بنادق متفرقة. سبعون او ثمانون جسداً ممدداً على الارض في ساحة لا يزيد طولها على الاربعين متراً وعرضها على 15. أيهم القتيل؟ أيهم الجريح؟ ذلك ما لا يستطيع أن يقدره أحد. ولعل الجرحى الذين كان بوسعهم ان يئنوا او يحركوا يداً او يمدوا رجلاً، قد دلتهم الغريزة او الفطرة على ان الجثث الهامدة وحدها، تغيب عن أنظار الوحوش. ويميز المرء بين الجثث، جثة سوداء، نحيفة، فارعة الطول. وعلى الجبين الاسود قطرات عرق لما تجف بعد، تلمع كدرر الليل، تلك هي جثة السجين السياسي الزنجي (الحاج بشير) الذي بعثت بطولاته الخرافية رعباً حيوانياً في صفوف المهاجمين (1).

كانت الشمس قد انحسرت عن نصف الساحة، عندما انفرجت باب الردهة الصامدة فانسل منها سجين، صاح بالشرطة ان توقف اطلاق النار. وأعلن استعداد السجناء للخروج من الردهة، على ألا تتعرض لهم الشرطة بالأذى. فسقط السجين جريحاً بالرصاص، وخرج للتفاوض سجين آخر، وتوصل الطرفان الى اتفاق، وتوقف اطلاق النار. تلك هي الخاتمة. وأية خاتمة.
اصطف الشرطة صفين من باب الردهة حتى الباب المؤدية الى الممر. كان السجناء يخرجون من الردهة واحداً واحداً فيمرون بين الصفين المتوازيين فتنهال عليهم الضربات من اخامص البنادق والهراوات. كانوا يسرعون ويهرولون ويبذلون جهداً فوق طاقة الانسان للاحتفاظ بحركتهم الى الامام خوفاً من السقوط. وقد سقط بعضهم فسحقوا سحقاً تحت الاقدام وسحبوا سحباً الى الممر الطويل حيث وضعت الجثث والأجساد المحطمة.

كانت الخراطيم التي صبت الماء على الباب حتى انهار قد غمرت الممر الطويل المترب بالماء، الى عمق لا يقل عن 20 سنتمتراً.
هناك نام الجرحى الفاقدوا الوعي، وبذلك الوحل المصطبغ بدمائهم شهقوا، ومنه شربوا حتى الامتلاء. وساعة اكتمل عدد السجناء قامت الشرطة بجولتها الأخيرة بين الجرحى الذين كان بعضهم مستنداً الى الحائط، او جالساً على عتبة مرتفعة، فطرحوهم أرضا وسحقوهم بالبساطيل(2). وكبلوا الجميع مثنى مثنى بالسلاسل الحديدية وأمروهم بالزحف. كان بعض السجناء مكبلا الى جثة فارقتها الحياة، وبعضهم الاخر عاجزاً عن الحركة، لكن الشرطة دفعتهم بالرفس والضرب وجرتهم من شعر الرأس او الساق، مسافة 150 متراً، حتى الباب الخارجي حيث وقفت سيارات الشحن (كميونات) التي شحنتهم أكداساً بعضها فوق بعض ، بجروحهم وكسورهم، بأوحالهم وسلاسلهم، مسيرة ساعتين، شرقي بغداد حيث يقع سجن بعقوبة. وفي بعقوبة ابتدأت قصة أخرى.
أما الجرحى الذين هم بحالة خطرة جداً، فقد كان عددهم 23 سجينا حملوا بالنقالات الى المستشفى القريب من السجن. وقد اطلع القارئ على خبرهم فيما سلف.

هذه باختصار وبكثير من الصفح عن التفاصيل المرعبة التي تبلغ صورها حداً من الوحشية تقشعر له الأبدان، هذه قصة 18 حزيران 1953، في سجن بغداد السياسي، تلك القصة التي يأتي بيان مديرية الدعاية العامة على ذكرها - كما اطلع القارئ - وكأنها مسألة (روتين) حكومي، فيسمي المذبحة (حادثاً) ويفترض وجود قضيتين تستوجبان التحقيق: قضية اطلاق النار ثم قضية التمرد والشغب. وهو يلقي مسؤولية "الحادث" على عاتق السجناء الذين "قابلوا النصائح بالعنف وباشروا رمي رجال الأمن بالحجارة ... واستعملوا مختلف الالات الجارحة. مما أدى الى جرح 73 شرطي ... فاضطرت الشرطة الى مقابلتهم بالمثل فأطلقت بعض العيارات النارية". و "بعض" هي الاصطلاح الحكومي لضجيج الرصاص الذي استمع إليه خمسون ألفاً من الناس في قلب بغداد عصر 18 حزيران 1953.
ويشير البيان الى شيء يسميه "النظر بعين العطف الى طلبات ذوي السجناء" والى قيام الحكومة "بكل الوسائل الممكنة للترفيه عنهم". فما حقيقة ذلك العطف؟ وما معنى ذلك الترفيه؟ ويشير أيضاً، بشكل من التلميح والغمز الى وجود "أثنين وعشرين يهودياً شيوعياً" من بين السجناء السياسيين، محاولاً إيهام الناس بان السجناء السياسيين شيوعيون جميعاً. وبان الشيوعية واليهودية صنوان متلازمان، على نحو ما كان هتلر وغوبلز يصورانه للشعب الالماني.
سنعالج في مكان آخر،هذه القضايا التي يتستر عليها البيان الحكومي على جريمة 18 حزيران 1953. وسنفضح حقيقة "العطف" المزعوم على ذوي السجناء وحقائق أخرى خطيرة حول السجون العراقية والسجناء السياسيين، وما ترمي إليه الحكومة العراقية من وراء التضليلات والتهويلات حول الشيوعية، والشيوعيين اليهود.

ويكفينا الآن في الرد على البيان ابداء بعض الملاحظات:
1- يعترف البيان ان السجناء دأبوا على الاتصال بعوائلهم خارج السجن عن طريق المراسلة وغيرها ... مما حمل الحكومة على تقرير نقلهم الى سجن بعقوبة، ثم يعترف بان السجناء "استعملوا مختلف الالات الجارحة".
يندر ان تعترف حكومة بوليسية ارهابية كالحكومة العراقية، بمثل تلك الاعترافات التي تنتقص من هيبتها وتثلم كرامتها في اعز ناحية من نواحي الهيبة والكرامة، ألا وهي: أنظمة السجون. فما السر في هذا الاعتراف؟ السر هو ان الحكام الرجعيين الذين مارسوا بإصرار ومثابرة سياسة اضطهاد السجناء السياسيين وإنكار حقوقهم المشروعة، كانت تعوزهم، على الدوام، الحجج والمبررات امام الرأي العام فلم يجدوا تهمة أفضل من تهمة "الاتصال بعوائلهم في الخارج"، سبباً لتشديد الرقابة والتفتيش على السجناء ومنع الزيارات وإدخال الكتب والجرائد والنفي الى السجون البعيدة كسجن نقرة السلمان والكوت.
واستناداً الى تلك التهمة، حكم على (فهد) ورفيقيه (حازم) و (صارم)(3)، قادة الحزب الشيوعي العراقي بالإعدام، وكانوا وقتئذ سجناء في سجن الكوت.

2- يتهم البيان السجناء "بإحداث الشغب والتمرد داخل السجن، مخالفين بذلك نظام السجون بصورة مستمرة" مما حمل الحكومة "على تقرير نقلهم الى سجن بعقوبة". اصحيح ان النقل من سجن الى آخر، يمكنه ان يمنع الشغب والتمرد والاتصال بالخارج؟
ان هذا الاسلوب في العقاب يعتبر حتى في مدارس الأطفال، لا في السجون العراقية، اسلوبا مائعا وفاشلاً، فهل بإمكاننا ان نصدق ادعاء البيان بان الحكومة انما أرادت نقلهم الى بعقوبة لوضع حد للشغب والتمرد داخل السجن، وهي التي ساقت السجناء الى المجالس العرفية وحكمت عليهم بالسجن سنوات إضافية، بتهمة الغناء وقراءة النشيد، وحكمت بالإعدام على فهد وحازم وصارم بتهمة "الاتصال بأعوانهم بالخارج"!؟ ايمكننا نصدق مثل هذا الانقلاب "الإنساني" في قلوب الحكام الرجعيين وخدم الاستعمار؟

3- يزعم البيان بان تمرد السجناء واستعمالهم مختلف الالات الجارحة، أدى الى جرح 73 شرطياً بضمنهم 16 معاوناً ومفوضاً، فاضطرت الشرطة –اضطرت بعدئذ!- الى "مقابلتهم بالمثل لردعهم فاطلقت بعض العيارات النارية"

صورة محزنة للشرطة العراقية وقادتها وأسياد قادتها!!
تصور -أيها القارئ- خيبة نوري السعيد في شرطته التي رباها وثقفها وقدم –بيده- المكافئات النقدية الى افرادها المبرزين في مبادراتهم في الغلظة والشدة والانتقام من الجماهير، تصور خيبة نوري السعيد الذي اعتاد ان يشتم ويفشر(4) على (بهجت العطية)، مدير التحقيقات الجنائية، كلما ظهر على (بهجت) عجز في البحث عن مطبعة "القاعدة"، أو معرفة مكان وزمان المظاهرات الوطنية، قبل خروجها الى الشارع.

تصور ايها القارئ، خيبة أمل هذا الرجل في (أولاده) الذين يشتمهم ويفشر عليهم او يمنحهم المكافئات، تصور خيبته، في ذلك اليوم من مساء 18 حزيران 1953 حينما اطلت مئات الشرطة المسلحة على ساحة السجن من فوق السطوح، فسقط منها بحجارة السجناء وقنانيهم الفارغة 57 شرطياً و 16 معاوناً ومفوضاً، دون ان يحرك هؤلاء ازندة بنادقهم او مسدساتهم أمام سجناء، ومتمردين و "شيوعيين"! وفي سجون العراق! صورة مؤسفة للجندرمة العراقية، وخيبة أمل مريرة لمؤسسها وزعيمها نوري السعيد! مؤسفة ومريرة، الى حد أثار –بلا شك- عاصفة ضحك، فوق المكاتب التي تعمل عليها الاقلام المأجورة في مديرية الاكاذيب والدعاية العامة!


محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي - أبو سعيد -)
بغداد - حزيران 1955


* لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1) لا يسعني إلا ان أشير الى البطولات الخارقة التي شهدتها مذابح السجون، اشارات عابرة تاركا لشعراء العراق وأدبائه وفنانيه واجبا مقدساً لأحياء تلك البطولات وتخليدها في ملامحهم وقصص ورسوم وأغاني. ويبدو لي ان الجماهير البسيطة اخذت منذ الآن تنسج حول السجناء قصصاً رائعة. سمعت بعضهم يروي ان الحاج بشير "الأسود" كان يقذف على الشرطة اثناء مذبحة بغداد، لهباً من نفط مشتعل في فمه.
(2) البسطال: حذاء انكليزي ثقيل يلبسه الجنود والشرطة.
(3) يوسف سلمان (فهد)، حسين محمد الشبيبي (صارم) و زكي محمد بسيم (حازم).
(4) الفشار في اللهجة العراقية، الفحش في القول، كقولهم: ابن القحبة، قواد...الخ هذا الادب السياسي الرفيع الذي يتقنه نوري وأصحابه.

***


من أعماق السجون في العراق * /4

من هم السجناء السياسيون ما هي السجون العراقية

مشكلة فلسطين، مشروع معاهدة جديدة مع الاستعمار البريطاني، مشاريع معاهدات واتفاقيات مع تركيا، مع الأردن، مع بريطانيا حول الارصدة الاسترلينية ...الخ. كان ذلك كله يتطلب من الرجعية العراقية سنة 1947، سبلا للتنفيذ في وجه صعوبات متزايدة تقيمها الحركة الوطنية التي نمت وتعاظمت وانبث فيها الوعي السياسي الى درجة كبيرة، خلال الحرب العالمية الماضية وبعدها. ومن مستلزمات تنفيذ اي مشروع استعماري، ان يشن الحكام الرجعيون وخدم الاستعمار، حملات ارهابية ضد الوطنيين والحريات الديمقراطية. فكانت اعتقالات واسعة قامت بها حكومة نوري السعيد (حينذاك) وأحكام قاسية أصدرتها محاكم صالح جبر على مئات المعتقلين وفي مقدمتهم قادة الحزب الشيوعي العراقي: يوسف سلمان يوسف (فهد)، وزكي محمد بسيم (حازم) وحسين محمد الشبيبي (صارم)، حتى امتلأت السجون بالفوج الاول من السجناء السياسيين.

وفي سنة 1949، اجتمع الفوج الثاني من السجناء السياسيين، على أثر اعتقالات أوسع نطاقاً، قامت بها حكومة (محمد الصدر) ثم حكومة (مزاحم الباجه جي) وأخيرا (وعلى الأخص) حكومة نوري السعيد، انتقاماً من الشعب الذي أحبط بدمائه مؤامرة "بورتسموث" ومن الاحزاب والمنظمات المجاهدة التي قادت الجماهير في وثبة كانون 1948 وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي، ولسلب المكاسب الديمقراطية التي انتزعها الشعب العراقي في أيام وثبته الخالدة.

كان التنكيل بالمواطنين وحشياً وقاسياً خلال هجوم 1949 الرجعي، شمل الوطنيين والديمقراطيين والنقابيين والشيوعيين من عمال ومستخدمين وطلاب ومحامين وتجار ومعلمين وفلاحين، رجالا ونساءً. وانتشر في طول البلاد وعرضها جو هستيري محموم، لم يسبق للعراق ان عرف مثله من قبل. وفي ذلك الجو الخانق المتسمم بالشوفينية والطائفية، اختطفت الحكومة الرجعية قادة الحزب (يوسف سلمان، زكي بسيم، حسين الشبيبي) الشيوعي العراقي من سجن الكوت (وكانوا إذ ذاك محكومين بالسجن المؤبد) وأعدمتهم على عجل، بعد محاكمة صورية قصيرة، أمام المجلس العرفي العسكري.

في تلك الايام السوداء من تاريخ الحكام الرجعيين، اشتهر معسكر للاعتقال يقع شمال غربي بغداد، اسمه "ابو غريب"، ورجل كان يشغل رئيس المجلس العرفي العسكري، اسمه (عبد الله النعساني).

يؤتى بمئات المعتقلين الى ذلك المعتقل بعد ان يكون بعضهم قد تلقى تعميد دائرة "التحقيقات الجنائية"(1) فيوضع كل واحد في غرفة صغيرة واطئة مظلمة، سقفها من الصفيح وأرضها من السمنت مغمورة بالماء الى عمق بضعة عقد. يؤتى بالإنسان ليقذف به الى داخلها، ليبقى بضعة أيام وليال، في برد الشتاء القارص، دونما فراش أو غطاء، واقفاً على رجليه معتمداً على الجدار عند النوم، وقطرات الندى البارد المتساقطة من صفيح السقف تسح على وجهه وتتوغل في طيات ثيابه المقرورة وبعد أيام من حرب الاعصاب في الظلام الدامس الذي يستوي فيه الليل والنهار، يسمح للمعتقل ان يسترد جزءاً من حقوق الانسان الاولية لتغصب منه حقوق أخرى حيث يظل في المعتقل اسابيع في انتظار المحاكمة امام (النعساني)، وهو مقطوع الصلة بالعالم الخارجي، لا يجوز لأهله زيارته، ولا يجوز له ان يقابل أحداً حتى محامي الدفاع.

خمسون او ستون رجلاً يواجهون دفعة واحدة منصة القضاء، المتربع عليها (النعساني). بضعة شهود من الشرطة وجواسيس دائرة التحقيقات الجنائية. التهمة: ترويج الشيوعية وفق المادة (89آ). المحكمة تسمح او لا تسمح للمتهم بالدفاع عن نفسه او بتوكيل محام عنه، فذلك من اختصاصها، حسب مرسوم الاحكام العرفية المعمول به منذ سنوات عديدة. تستمر المحاكمة ثلاث او أربع ساعات تصدر بعدها على خمسين او ستين متهما احكام قاطعة بالسجن، لا تقبل النقض او الاعتراض.

عبر الناس رأيهم في أحكام (النعساني) هذا، بالأقصوصة التالية التي انتشرت انتشاراً واسعاً، مع شيء من الاختلاف في التفاصيل: قيل ان صفاً طويلاً من المتهمين السياسيين، وقف امام النعساني للمحاكمة. وكان يتوسطهم رجل أسود اللون. وبعد السؤال والجواب، أصدر النعساني حكمه: "من الأسود الى اليمين، عشر سنوات، من الأسود لليسار، سبع سنوات". وخرج المحكومون من المحكمة وبقي "الأسود" في مكانه، لا يدري الى أي فريق ينتمي. وقد احتار الجنود الحرس في أمره ايضاً. فانتبه النعساني الى وجود "الأسود" وتأخره عن اللحاق بأصحابه، فطرده بشتائم تليق بمقام عبد! وخرج الرجل مهرولا وهو لا يصدق ان قد وفر لنفسه ولأهله سبع او عشر سنوات من السجن بتهمة الشيوعية(2).

هكذا امتلأت السجون بالفوج الثاني من السجناء السياسيين. نعم، هكذا امتلأت، بمئات ومئات من الوطنيين والديمقراطيين ومن بسطاء الناس، "الأبرياء" حتى من "تهمة" النشاط الوطني او الديمقراطي.

وفي سنتي 52 – 1953 اجتمع الفوج الثالث من السجناء الذين غصت بهم السجون بفضل الاحكام العرفية التي اعلنت بعد وثبة تشرين الثاني 1952. وقد شهدت محاكم هاتين السنتين مهازل كمهازل (النعساني)، حتى ان المجلس العرفي العسكري قد حكم بالسجن غيابياً على بعض الموتى من المناضلين او "المشبوهين" وعلى اشخاص خياليين لا وجود لهم في غير تقارير الشرطة والتحقيقات الجنائية. وحدث، مرة، ان اعتقلت الشرطة (في 14 آذار 1955) عدداً من الطلاب اثر مظاهرة خرجت في الصباح فحكم عليهم المجلس العرفي العسكري في نفس الليلة، بالسجن مدداً طويلة. لكن راديو بغداد الحكومي كان أكثر "نباهة" وحماساً من المجلس العرفي، إذ أذاع تلك الاحكام في نشرته المسائية للأخبار، قبل ثلاث ساعات على الاقل من اجتماع المجلس العرفي ومثول المتهمين بين يديه!

استهدفت اعتقالات ومحاكمات 52- 1953، كما هو معلوم تصفية الحركة الوطنية وحركة السلم، لتمهيد السبيل امام المشاريع الحربية العدوانية ولكن المستعمرين الرجعيين أخطأوا الحساب. فبعد اعتقال آلاف المواطنين وسجن مئات منهم وتدبير مذابح السجون في بغداد والكوت لم يجد الحكام الرجعيون بعد ستة أشهر فقط من رفع آخر الاحكام العرفية التي كانت معلنة في البصرة لتأديب عمال النفط اثر اضرابهم المشهور، لم يجدوا مفراً من العودة الى اعتقالات جديدة قام بها نوري السعيد في صيف 1954، وإصدار مراسيم ارهابية رجعية شاذة (3)، والاستمرار في حملة الاعتقالات وتوسيعها توطئة لفرض المشاريع الحربية وفي مقدمتها الحلف التركي العراقي.

وبالإضافة للأفواج الثلاثة الرئيسية والفوج الرابع الذي ما زال يتضخم يوماً بعد يوم منذ تشكيل وزارة نوري السعيد، وزارة الاحلاف والمراسيم، فان المحاكم العراقية المدنية والعسكرية لم تتوقف يوماً ما، منذ عشر سنوات، عن ارسال الشيوعيين والوطنيين والديمقراطيين وأنصار السلام من شتى الاتجاهات السياسية، من العمال النقابيين والفلاحين الناهضين بوجه المظالم الاقطاعية(4) والطلبة والشبان الديمقراطيين، والنساء، الى السجون.

ويلاحظ بشكل محسوس ان ميزانية الحكومة للسجون وتوسيعها وبناء سجون جديدة تتضخم سنة بعد أخرى، كما تتضخم مصروفات الشرطة وأجهزة القمع وميزانية التسلح والمنشآت العسكرية والحربية.

كانت سياسة الحكومة منذ البداية انها انكرت على السجناء المحكومين "بجريمة الشيوعية" و "جرائم" التظاهر والإضراب والهتاف والخطابة والنشر، انكرت عليهم حقوق السجن السياسي المنصوص عليها في قانون السجون. إلا ان السجناء استطاعوا بفضل نضالهم البطولي وإضراباتهم عن الطعام وتنامي القوى الوطنية والمد الثوري خلال وثبة كانون ان يفرضوا على السلطات الرجعية الاعتراف لهم بتلك الحقوق.

وما ان بدأ الهجوم الرجعي على القوى الوطنية في أوائل 1949 وتم اختطاف قادة الحزب الشيوعي من سجن الكوت وإعدامهم في بغداد، حتى تعرض السجناء السياسيون الى هجوم ضاري جردهم من حقوقهم المشروعة. ونقل كثير منهم، على الأثر، الى سجن بعيد، في موضع من البادية الجنوبية، يسمى (نقرة السلمان). ويبعد مسافة 150 كلم عن أقرب مدينة عراقية (السماوة)(5). كان ذلك السجن قلعة عسكرية بناها (ابو حنيك) لتأديب البدو وفرض النفوذ البريطاني عليهم. و (ابو حنيك) هو غلوب باشا، القائد الانكليزي للجيش العربي الاردني الهاشمي. ثم صار السجناء الجدد ينقلون، بعد ذلك، الى سجن (نقرة السلمان) الذي اشتهر كسجن للانتقام والموت البطيء.

ومنذ ذلك الوقت، والمحاولات تجري في سجن نقرة السلمان كما في السجون الأخرى لإخضاع السجناء لحياة الذل والمهانة وتسخيرهم في الاعمال المدنية كما يسخر السجناء العاديون. إلا ان تلك المحاولات اصطدمت وما زالت تصطدم بمقاومة جبارة من جانب السجناء الذين خاضوا اضرابات طويلة عن الطعام استمر بعضها اربعاً وعشرين يوماً بدون انقطاع، وقدموا تضحيات غالية من صحتهم وحيويتهم واستشهد منهم بسبب هذه الاضرابات عدة مناضلين، منهم: دنحو يلده (عامل) في سجن نقرة السلمان، نعمان محمد صالح (طالب) في سجن بغداد، حسين مهدي (فلاح) كبير السن وأب لمناضلين ومناضلات، في سجن بعقوبة. وراح من السجناء ضحايا آخرون، منهم: هاشم أحمد مات مسلولا، مهدي حسي اغتاله في المستشفى طبيب فاشستي، كريم صوفي و حييم، توفيا في التعذيب. وغير أولئك، كثيرون أصيبوا بالشلل والعاهات الدائمة ومرض السل وغيرها.

ان محور السياسة الحكومية ازاء السجناء السياسيين، هو الاضطهاد المتواصل بشتى الأساليب، والمحاولات المستمرة لتشديد التوتر بينهم وبين ادارة السجون، وخلق الاستفزازات اليومية لتبرير الانتقام وسلب الحقوق. فكان السجناء يدافعون عن حقوقهم ويناضلون نضالا دائباً بالعرائض الرسمية، والاحتجاجات التي يرسلونها الى الصحف (في الاوقات التي تكون فيها الصحف الحرة غير معطلة او خاضعة للرقابة)، وبالإضرابات عن الطعام، وكانت عوائل السجناء ومجموع الحركة الوطنية والرأي العام يلعبون دوراً هاماً في مساندتهم بالعرائض الجماهيرية، والاحتجاجات ووفود الآباء والأمهات وحتى بالمظاهرات.

كان كل سجين سياسي يتوصل من تجاربه الخاصة، خلال اقامته في السجون، سواء طالت ام قصرت ان سياسة الحكومة ازاء السجناء انما هي سياسة ماكرة تسيرها خطة موضوعة بعناية من قبل الاوساط الرجعية والاستعمارية. وتهدف الى تحويل السجون الى مقابر للأحياء ومباءات لنشر الرعب واليأس والتخاذل والانحلال في صفوف المناضلين ضد الاستعمار والرجعية، وتخويف الشعب وإذلاله وكسر معنوياته.

في سجن بغداد تعرض المناضلون الى حملات اعتداء وانتقام فضيعة. ففي سنة 1949 مثلا، دبرت الحكومة هجوماً قامت به عصابة من مجرمين سجناء يساندهم حراس السجن. فهدموا عليهم السقوف وقذفوهم بالطابوق وجلدوا احد السجناء السياسيين أكثر من ألف جلدة على قدميه، ظل بعدها عاجزاً عن المشي طيلة ستة أشهر وما تزال آثار الضرب بادية على قدميه. وكسروا اسنان عدد من السجناء بالمطرقة، لأنهم رفضوا شتم قادة الشعب العراقي المناضل في سبيل خبزه وحريته.

وفي سجن الكوت لم تنقطع الاستفزازات منذ سنة 1949. ومنعت الادارة ادخال الشاي والسكاير والصحف لعدة أشهر. ومنعت قراءة الاناشيد الوطنية وتنظيم الاحتفالات بمناسبة اول أيار والثورة العراقية ووثبة كانون والمناسبات الوطنية والأممية الاخرى وفرضت الحكومة عقوبات على السجناء بسبب الاناشيد والحفلات بلغت (400 سنة سجن) اضافية وزعت على السجناء. وفي سجن النساء تعرضت المناضلات الى التهديد والاعتداء والاستهتار بحقوقهن والى التعذيب والضغط المتواصل، لحملهن على التنكر لأهداف الحركة الوطنية وقبول حياة الذل والعبودية، ففي عام 1949 اعتدي بالضرب فكسرت يد سجينة سياسية وام لعدة مناضلين، وهي عجوز عمرها 80 سنة.

وفي سجن بعقوبة الذي نقل اليه جرحى مذبحة سجن بغداد ثم جرحى مذبحة سجن الكوت الكبرى وعدداً من سجناء نقرة السلمان. في هذا السجن، دشنت الحكومة اساليب جديدة للانتقام فقد تركوا السجناء الجرحى، وهم مكبلون بالحديد، ينامون على الارض لمدة اسبوعين بلا أفرشة وبدون معالجة طبية.

واعتدوا بالضرب على القادرين منهم على المشي، عند دخولهم السجن، على طريقة الصفين المتوازيين من الشرطة والضرب المتلاحق خلال المرور. ومنعوا عنهم المواجهة واستلام الطعام من ذويهم، واجبروهم على الاكتفاء بالخبز والتمر ونوع من الشوربة اختصت بطبخه مديرية السجون العامة، وكانوا جرحى ومرضى كما هو معلوم. وعند مجيء الوجبة الاولى من سجناء نقرة السلمان كرروا معهم اسلوب الضرب بطريقة الصفين المتوازيين من الشرطة وجلدوا بعضهم بـ (الفلقة) وجلدوا المناضل الشيوعي البارز حميد عثمان (6) 200 جلدة. ولم يفرج عنهم من السجن الانفرادي إلا بعد ان هب كل السجناء للنضال لإنقاذهم من هذا الخطر.

ولم يستطع السجناء ايقاف حملة الاعتداء والانتقام والاستفزاز إلا بلجوئهم في أواسط ايلول 1953 الى الاضراب عن الطعام مدة 12 يوم، واستشهاد أحدهم، الفلاح المسن الشيخ حسين مهدي واشتداد حملة الاحتجاج التي قامت بها مختلف الاوساط الوطنية. مما حمل الحكومة على ان تلبي بعض مطاليبهم وكان أهمها:

1- استرجاع الافرشة والملابس.
2- السماح لذوي السجناء بمواجهتهم.
3- وقف الاعتداء والإهانة.
4- المعالجة الطبية وإرسال المرضى والجرحى للمستشفى.
5- استلام المطبخ والسماح بإدخال الطعام من ذوي السجناء.
6- الاعتراف لهم بحق التنظيم داخل السجن والاعتراف بالممثل الذي ينتخبه السجناء لتمثيلهم والتفاوض باسمهم.


محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي - أبو سعيد -)
بغداد - حزيران 1955


* لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1) التعذيب في سراديب التحقيقات الجنائية ركن من اركان الحكم الرجعي في العراق، وله أساليب في الاضطهاد والتعذيب معروفة جيدا لدى الشعب العراقي. منها: التعليق من الايدي او الأرجل، حرق مواضع حساسة من الجسم، اقتطاع اللحم من الجسم، قلع الأظافر، ونتف الشعر، الاعتداء الجنسي، صب الماء البارد او الساخن، الجلد بالعصي والسياط والكرابيج المحشوة بالرمل، دق الخوازيق في الشرج. هذا بالإضافة الى التجويع وحرب الاعصاب والإهانات والكلمات البذيئة والتهديد بالقتل.
(2) هذه الاقصوصة في محتواها قريبة جداً من الوقائع المتواترة التي يرويها الناس عن محاكمات (النعساني)، وغيره من رؤساء المجالس العرفية العسكرية.
(3) أهم تلك المراسيم المرسوم رقم (16) الذي وسع مفهوم الشيوعية حتى شمل (انصار السلام، والشبيبة الديمقراطية وما شاكل ذلك). والمرسوم رقم (17) لإسقاط الجنسية العراقية عن المحكومين بتهمة الشيوعية. ومرسومان آخران رجعيان للصحافة والجمعيات.
(4) تعرض بصورة خاصة فلاحو العمارة من العرب وفلاحو (دزه ي) من الاكراد الى الاضطهاد والتشريد والنزوح عن اراضيهم. واعتقل وسجن منهم خلق كثير.
(5) انظر خارطة العراق في آخر الكتاب.
(6) وبعد أحد عشر شهراً من هذا الحادث تمكن حميد عثمان من الهرب مع اثنين من رفاقه وهو الان على رأس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي.

***

من أعماق السجون في العراق * /5


نقرة السلمان

غربي نهر الفرات، من نقطة تبدأ في مدينة السماوة، تمتد طريق صحراوية نحو الحدود العراقية السعودية. أرض وعرة ورمال عميقة تجتازها السيارات بجهد وعناء شديدين.

وقد يضل الدليل البدوي الطريق في تلك الارض القاحلة التي لا ماء فيها ولا نبت ولا أثر لحيوان أو عابر سبيل. فتظل السيارة تضرب في عرض الصحراء حتى تعثر على الطريق أو تعثر عليها سيارة أخرى أو طائرة. وقد تغرز العجلات في شعب الرمال العميقة التي يتهيب عبورها أمهر السائقين، فتتعطل في مكانها ما شاء لها ان تتعطل. وبعد مسيرة خمس ساعات –ان لم يقع مكروه مما ذكرنا- تبدأ الطريق بالانحدار نحو منخفض من الأرض، بعيد الغور، حتى إذا وصلت السيارة قرارته بدت الصحراء المحيطة به تلالا وهضابا عالية. وشعر المرء انه في مكان عجيب حقاً، مكان موحش تلم به الأخطار. تلك هي نقرة السلمان. وأول شيء تمر به السيارة، ثكنة شرطة. وبعدها نمر بمجموعة من البيوت والأكواخ والخيام التي تسكنها عوائل شرطة البادية. ولا أحد غيرهم في ذلك المكان، فالقرية قرية شرطة! إلا انه قد يشاهد المرء واحداً أو أكثر من المحكومين السياسيين المنفيين الى نقرة السلمان، يتجول بين الاكواخ للترويح عن النفس، بعد ان يمل الحياة في ثكنة الشرطة حيث يقيم المنفيون، عادة.

في الشتاء تفيض نقرة السلمان بالماء. وتنقطع المواصلات ما بين السجين والعالم الخارجي. ولعل الماء هو الذي أنبت في مخيلة ذلك الجندي البريطاني (ابو حنيك) فكرة بناء قلعته الحصينة في ذلك المكان، على مرتفع صغير وسط بحيرة الماء.

وتطالعك القلعة وأنت تقترب منها بواجهة متواضعة من بناء حديث، اضيف إليها في السنوات الأخيرة، بعد ان حولت الحكومة العراقية تلك القلعة الصحراوية الى سجن. ويتألف هذا الجزء من القلعة من بضعة غرف للمأمور والمحاسب والكاتب، وغرفة للحبس الانفرادي، حيث يؤدي الممر الذي يسلكه المرء، إلى باب أخرى توصل إلى ساحة مكشوفة، تتقابل على جانبيها من الشمال والجنوب قلعتان عاليتان من الحجر يتألف كل منهما من طابقين. ويقوم في وسط الساحة بناء منخفض يلجأ إليه السجناء حين تزدحم القلاع، فيتعذر على السجناء النوم فيها، وإلى جانبه، البئر المالحة التي يشرب منها السجناء حينما تقطع الحكومة عنهم الماء.

إذا أردت دخول القلعة فعليك أيها القارئ أن تتسلق أثنتي عشرة درجة على سلم خشبي يرتفع بك إلى مربع صغير في الجدار عند الطابق الثاني يسمّونه باب (القاصة). والقاصة اصطلاح معروف يطلق على صندوق من الحديد تودع فيه الاشياء الثمينة. عندئذ عليك ان تجمع ركبتيك إلى صدرك لتزحف إلى داخل (القاصة) إلى ذلك التجويف المظلم الذي تتبين لك، فيما بعد، معالمه البسيطة فإذا هو صندوق مستطيل الشكل من الحجارة، وصفائح الحديد التي انشئ منها السقف وبعض أجزاء الجدران، حيث أراد الجنرال (غلوب) ان ينصب رشاشته لتحضير عرب البادية. طول هذا الصندوق الصخري الحديدي نحو 15 متر وعرضه نحو 7 أمتار. هذا هو الطابق الأعلى. ومنه تهبط في سلم داخلي إلى الطابق الأدنى. بإمكانك ان تشاهد، بدل المنافذ، مزاغل للبنادق بمساحة راحة أليد، تتسرب منها خيوط الشمس. وتلك علامة النهار! ويدخل منها شيء من الهواء الذي يحفظ شعلة الحياة في الأجساد من ان تنطفئ بسرعة!

في ظلام القلعة وهوائها الفاسد يغط السجناء –في ساعات النهار- في نوم طويل عميق كالموت، يستفيقون بعده متخدرين صفر الوجوه منتفخي العيون. اما في الليل فتغلق أبواب القاصة من الخارج، حتى ساعة متأخرة من اليوم التالي، وأحيانا حتى الظهيرة، حينما تريد إدارة السجن ان تمعن، لسبب ما، في إيذاء السجناء واستفزاز أعصابهم المتوترة ليلا ونهاراً. فتبقى مئات الأجساد مكدسة متخدرة مشلولة عن الحركة، لضيق المكان، تنتظر ان تفتح أبواب القاصة لتقضي حاجاتها الطبيعية، ولكي تجد بعد ذلك متسعاً من المكان للحركة ولكي تستنشق الهواء وترى إلى ضوء النهار.

هنا، في الساحة يستطيع السجين ان يتمطّي ويسعل بملء رئتيه بلا حذر أو وجل وان يبصق أينما يشاء، وان يستجمع قواه ويشد عزيمته لقضاء ليلة أخرى من ليالي القلعة. هكذا تمضي الأيام، موحشة رتيبة: رتيبة حتى فيما يقع فيها كل يوم من مضايقات واعتداءات واستفزازات، حول الطعام والماء والرسائل والكتب والجرائد والدواء ومجيء الطبيب ... الخ، حيث تدور الحياة دورتها الضيقة بين الاسوار والقلاع وغرفة المأمور، في بطن تلك الصحراء الموحشة الخاوية.

حينما تأتي إلى السجن سيارة الطعام أو الماء قادمة من السماوة، يستمع السجناء إلى بوقها وهدير محركها بشغف ومتعة. فتلك علامة من علامات العالم الفسيح المتحرك النائي. وحينما يمرق في السماء طير –وهذا نادر- فتلك علامة أخرى للحياة، يستبشر بها السجناء أيما استبشار. وفي يوم من أيام الربيع، أخطأ سنونو طريقه، فدخل القلعة من أحد المزاغل. فهب السجناء يهشونه ويطاردونه في الظلام حتى سقط متعباً بين يدي أحد "الرفاق" كان السجناء يمرحون ويتضاحكون كالأطفال لتلك المفاجأة السارة لكنهم ما لبثوا ان اطلقوا سراح السنونو، ودعوه بأنظارهم من باب (القاصة) حتى أختفى ...

وفي ضحى يوم مشهود آخر من أيام نقرة السلمان، شاهد السجناء وجهاً صغيراً بريئاً يطل عليهم من سطوح غرفة الادارة. وجه طفل برئ، من أطفال الشرطة!

كان السجناء يبتسمون ويلغطون ويلوحون بأيديهم لهذا المنظر الممتع. فللطفولة، الطفولة التي أحبها اولئك المناضلون ودافعوا عن مستقبلها وحقها في الحياة، صدى عميق الغور في نفوس اولئك الرجال البواسل الذين عرفوا الحب في أروع صورة واغنى مضامينه.

وثمة شيء آخر رتيب في نقرة السلمان، غير ظلام القلاع وصفارات الليل وصرير أبواب القاصة، غير البرد القارص والحر القاتل وعواصف الرمال الخانقة، غير جيوش الذباب الجائع، والصراصير الزاحفة المتواثبة في كل مكان. ذلك هو الخطر فالخطر هو أيضاً، رتيب هناك!

شرطة البادية تتظاهر خلف الاسوار وتهتف وتهزج - تسقط الشيوعية، يعيش الوصي والملك! - ويسمع السجناء الشتائم والتهديد بالذبح، وأغاني نكراء تتغنى بالثأر والانتقام والدماء. ويسمعون طلقات الرصاص في معظم الليالي. ان شرطة البادية، بطبيعة الحال، هم أوحش رجال الشرطة العراقية. لكن المستعمرين والرجعيين لم يكتفوا بتلك الوحشية البدائية، بل هذبوها على طريقتهم الخاصة، ودفعوها بطريق الحقد الأعمى على السجناء السياسيين. وقد يعجب القارئ إذا علم ان دائرة الاستعلامات الأمريكية تبعث، مرتين في الأسبوع، رجالها في سيارة السينما الامريكية المتجولة إلى ذلك المكان النائي لتثقف شرطة البادية بالمحاضرات والأفلام السينمائية وتعلمهم كيف ينبغي أن يمجدوا "الحرية" الامريكية ويكافحوا الشيوعية ويبيدوا الشيوعيين. ومن ثمار تك الثقافة ان أقتنع اولئك البدو السذج ان كل سجين سياسي ينبغي ان يكون شيوعياً. وما الشيوعي إلا "مسقوفي"(1)، يهودي، صهيوني، ضد الملك والوصي وعلم الدولة، عديم الشرف، يتزوج أمه واخته، وأخيراً، فهو يستحق ان يحرق بالنار وان تشرب شرطة البادية من دمه مثلما تشرب الماء.
هؤلاء البدو "الشرطة" ينتهزون كل فرصة للتعبير عن أفكارهم ومعتقداتهم تلك، وإظهار مشاعرهم العدائية نحو السجناء بنظراتهم الحاقدة وتهديداتهم وشتائمهم وأحيانا بالاعتداء المباشر والضرب.

والسجين في ذلك الوسط العدائي، لا يشعر بالخطر من المظاهر والتهديدات اللسانية وإطلاق الرصاص في الهواء. وإنما يتلمسه عملياً، في سلوك موظفي السجن ومناوراتهم ومؤامراتهم. ففي كل يوم، وكل ساعة، محاولة لاستفزازه واستدراجه الى شباك مؤامرة حقيرة وربما خطيرة!

اشتهر رجل كان مديراً لهذا السجن، اسمه جبار أيوب (وهو نفسه الذي نفذ مذبحة سجن بغداد وساهم في تنفيذ جرائم سجن الكوت) وجبار أيوب من ذلك الطراز الذي قدر الهتلريون مزاياه العظيمة لإدارة المعتقلات السياسية ومعسكرات الأسرى.

لقد صرح هذا الرجل أمام السجناء، خلال نوبة غضب حادة ألمت به: ان شيئا واحداً يشغل باله طيلة 24 ساعة من اليقظة والنوم، هو ان يبتكر أساليب جديدة، على الدوام، لايذاء السجناء وتعذيبهم. وقد اقترف فعلاً جرائم منكرة اشهرها حصار 1949، وإطلاق النار على السجناء.

كانت سلطات السجن تعزل السجن عن العالم الخارجي بين حين وآخر، فترات طويلة. ولا تسمح لأهل السجناء بزيارتهم إلا بترخيص من التحقيقات الجنائية في بغداد. وأحيانا، تمنع ادخال الهدايا من الطعام وغيره الى السجناء، وهو أمر خطير، إذ يصعب على السجناء الاكتفاء بالغذاء الحكومي الشحيح كماً وكيفاً. وإذا سمحت بإدخال الطعام امرت الشرطة بتفتيشه. والتفتيش معناه خلط السكر بالملح، والشاي بالتبغ، وتكسير البيض وتفريغ الدبس والسمن ...الخ. بحثاً عن المواد "الممنوعة". وأثناء التفتيش، تسرق الشرطة، او تصادر ما تريد، دون وازع أو رادع.

تأتي عوائل السجناء للزيارة من اقصي العراق إلى أدناه بعد ان تمر ببغداد لأخذ الموافقة. فتبيت في نقرة السلمان ليلة أو أكثر لتحظى بزيارة قد لا تستغرق في ظروف الشدة أكثر من 10 دقائق، بحضور جمهرة من الشرطة.

كان أحد السجناء يريد أن يسأل ذويه عن الحرب في كوريا، أثناء زيارتهم له، بحضور جمهرة من الشرطة. فسألهم عن "القوري"(2) وظل يلح بالسؤال ويكرر: شلون القوري ...؟ حتى فطن اهله إلى قصده، فاستحمدوا الله على ان القوري لم ينكسر ولن ينكسر ...! كانت الادارة في ذلك الحين قد منعت ادخال الجرائد اليومية طيلة سنة كاملة ولم تسمح بها آخر الأمر إلا بعد اضراب عن الطعام دام ستة أيام.

وخلال المواجهات، تختلق إدارة السجن وأفراد الشرطة المبررات للاعتداء على الرجال والنساء والأطفال، وعلى السجناء أنفسهم أمام ذويهم. وإليك حادثاً من هذا النوع: أم وزوجة وبضعة أطفال كانوا في زيارة أحد السجناء السياسيين، وقد استغرقوا في أحاديثهم وعواطفهم وأفكارهم التي تتزاحم وتتسابق مخافة ان ينتهي الوقت وتنتهي الزيارة. وكان الأطفال، يتعلقون بأكتاف أبيهم السجين وهو جالس القرفصاء قبالة امه وزوجته. ساعة سعيدة قلما يهنأ بمثلها السجين وأهلوه. وغير بعيد من المكان الذي تجري فيه المواجهة، يقع الباب الداخلي المؤدي إلى الساحة، حيث يتجمهر السجناء أحياناً، ليشاركوا في فرح المواجهات والزيارات. ومن تلك الباب أشار "أحدهم" إلى ذلك السجين الجالس بين عياله وطلب إليه ان يقترب، فلما دنا منه أبلغه رغبة "الرفاق" في دعوة العائلة الى الغداء. فرجع السجين إلى امه وزوجته وأطفاله بهذا الخبر الجليل المفرح: ستتأخر العائلة إذن، وسوف يأتيها الطعام من مطبخ السجناء، وسوف يستمع هو الى مزيد من كلمات امه وزوجته وضحكات أطفاله وهم يتناولون طعام السجن!

لكن مفوض الشرطة شاء ان يفسر اقتراب السجين من الباب وعودته إلى أهله، تفسيراً آخر. وبضربة مسرحية واحدة، انقلب الموقف إلى مأساة إذ أعلن المفوض انتهاء الزيارة وأمر الشرطة ان تفتش السجين وتفتش النساء والأطفال. فهجمت جمهرة من الشرطة "لتفتيش" السجين، على مرأى من أمه وزوجته وأطفاله، فأشبعوه ضرباً ولكماً وتمزيقاً. ثم تحولوا إلى النساء "ليفتشوهن" فاشبعوا الزوجة والأم لطماً وسباباً، وتجاوزوا حدود الحرمات في السب والضرب والتفتيش. أما السجين الآخر الذي نادى رفيقه من وراء قضبان الباب، فقد جيئ به إلى المفوض، بالأسلوب ذاته! كان هذا السجين قوي البنية طويل الجسم، صاحب نخوة وحمية. فأمسك بالمفوض من وسطه ورفعه إلى أعلى وضربه بالأرض وصار يسحق عليه بالحذاء، والمفوض يصرخ ويستنجد، حتى أجتمع عدد كبير من الشرطة الذين داروا على السجين دورة ضاربة وانتقموا منه انتقاماً فظاً. وأرادت إدارة السجن ان تحتجز السجينين في زنزانة الحبس المنفرد لكن موقف "الرفاق" الحازم حمل المدير على التراجع والإفراج عن السجينين، بعد ان تكهربت الأعصاب، وفارت الدماء في العرق في تلك المقبرة المنسية في بطون الصحراء. وانتهى الحادث، ومر على السجناء يوم من أيام الحياة في نقرة السلمان. انتهى الحادث، وانتهت حياة زوجة السجين التي ماتت يوم وصولها إلى مدينتها البصرة متأثرة من آثار الضرب والصدمة ومشقات الطريق.

في أواخر 1949، انتقل المجلس العرفي العسكري، بكامل هيئته إلى سجن نقرة السلمان، حيث أجرى محاكمة أربع وأربعين سجيناً بتهمة ترويج الشيوعية، لأنهم قدموا إلى السلطات الحكومية، عريضة يحتجون فيها على اختطاف قادة الحزب الشيوعي من سجن الكوت وإعدامهم. فحكم المجلس "المتنقل"، عليهم بسنوات سجن اضافية.

ان قلعة نقرة السلمان، بموقعها في بطن البادية الجنوبية، بصيفها المحرق وشتائها القارص، وشرطتها البدو المتعطشين للدماء ومدرائها المرضى في نفوسهم وما يتلقونه من أوامر "عليا"(3) وما يحاولون تحقيقه يومياً من المؤامرات والاستفزازات، ان نقرة السلمان كانت كفيلة بالقضاء على السجناء وتحطيمهم تحطيماً تاماً، لولا ان يكون لهم، ذلك الايمان العظيم بشعبهم ومبادئهم وبالإنسانية ومستقبلها المضيء الظافر، ولولا عزيمتهم الفولاذية المستمدة من عزيمة شعبهم المناضل وكل الشعوب المناضلة ضد الاستعمار والرجعية والحرب، ولولا انهم تعلموا كيف يقاومون عوامل الضجر والحزن والمرض. فنظم السجناء اعمالهم وأوقاتهم. اعمال المطبخ والفرن والغسيل والكنس ونحوها، يقوم بها السجناء بالمناوبة، لا فرق بين واحد وآخر. المكتبة، المخزن الصيدلية، استلام الأرزاق، توزيع الماء، الحفلات، الرياضة البدنية، الموسيقى والغناء ...الخ، يتولاها رفاق مسؤولون أو لجان مسؤولة. ولكل عمل أو نشاط أوقات خاصة به، وأصول يحترمها السجناء ويراعونها. ويتعرض السجناء الى النقد الأخوي الصريح إذا أخطأوا أو قصروا. ويتلقون في الوقت ذاته المعونة والنصح والإرشاد، من رفاقهم السجناء الذين يراقبون كل بادرة في السلوك أو المزاج، تشذ عن الحياة الجماعية الرفاقية أو عن الروح النضالية، وفضائل الخلق الثوري، فيعالجونها في الحال.

وأصبح للسجناء السياسيين في السجون، بعد خبر سنوات عديدة، مدارس راقية للتثقيف والتهذيب، يتعلم فيها السجناء القراءة والكتابة واللغات والاقتصاد السياسي والتاريخ والفلسفة، ويتلقون فيها تدريباً عملياً مفيداً. وفي السجون، يلتقي المناضلون من مختلف الطبقات والاتجاهات السياسية فيتبادلون الاراء والتجارب ويصقلون نفوسهم ويهذبونها ويتزودون بروح التعاون والثقة. وطبيعي ان يلعب الشيوعيون دوراً قيادياً في مختلف نواحي النشاط بين السجناء السياسيين، دوراً لا تنازعهم عليه العناصر الوطنية والديمقراطية الأخرى، بل على العكس، تعترف لهم به وتستفيد منه أعظم الفوائد.

في 1949، والحملة الارهابية في ذروتها، كانت معتقلات بغداد تغص بمئات المعتقلين. وفي واحد منها، استطاع بعض المعتقلين الشبان الذين كانوا ينتظرون دورهم في المثول امام المجلس العرفي العسكري ان يحصلوا على نسخة من جريدة رجعية فيها النص الكامل لبيان مكتب الانباء للأحزاب الشيوعية حول قضية تيتو. هناك، وفي تلك الظروف القاسية، شعر اولئك الشبان الذين سيذهبون الى السجون لأول مرة في حياتهم، بان رفاقهم السجناء القدامى بحاجة الى الاطلاع على تلك الوثيقة الخطيرة. فما كان منهم إلا أن جزؤوا البيان اجزاءً استظهروها بنظام خاص ليعيدوا كتابتها إذا التقوا في السجون بعد حين. بتلك الروح العالية، وبذلك الحرص اللامتناهي على العلم، والحب للحقيقة، انشأ السجناء السياسيون مدارسهم ومكتباتهم التي صار لكل منها تقاليدها وأساليبها وأساتذتها.

لكن الحياة في نقرة السلمان ليست دروساً كلها، وكنساً وطبخاً وغسيلاً. فهناك الجوانب الممتعة أيضاً، الرياضة البدنية في الصباح، والشطرنج وحلقات السمر والغناء في أوقات الشاي بعد الظهر أو في المساء.

من المشاهد المألوفة ان ترى السجناء السياسيين يتسابقون وفي أرجلهم سلاسل الحديد، وترى الاوسمة يعلقها الفائزون على صدورهم وسط التصفيق. وقد تشاهد رفيقاً من لجنة الغناء، يعلم الجوقة أغنية كردية أو نشيداً عربياً من تلحين أحد السجناء. وقد تشاهد، في الضوء الشاحب في الطابق الادنى من القلعة، جمهرة من الرفاق العرب والكرد، يعلو رؤوسهم الغبار وتصبب وجوههم عرقا، يتدربون على الدبكة ويغنون ويتضاحكون كأنهم في (نوروز)، وكأن ظلام القلعة وغبارها نهاراً مشرقاً معطراً بأنفاس الربيع.

أما الحفلات فهي الينبوع الاعظم لمسرات السجناء وأفراحهم حيث المحاضرات والخطب وقصائد الشعر والرقص والغناء والتمثيل. تقام الحفلات في المناسبات الوطنية والأممية، وما اكثرها وما أعظمها وما أروعها!! حزيران، كانون، تشرين، اكتوبر، أيار، الجلاء عن سوريا ولبنان، الهدنة في كوريا، وميلاد ماركس، ولادة الجمهورية الشعبية في الصين ... وغيرها وغيرها!

لقد خلقت تلك الحفلات أدباً وفناً ثوريين، تسربا إلى الخارج فتلقفتهما الجماهير بشغف واعتزاز. ولأدباء السجون اليوم وشعرائها ورساميها وملحنيها مكانة خاصة عند الجماهير.
هكذا استطاع السجناء السياسيون في نقرة السلمان ان يقاوموا عوامل الخمول والحزن واليأس والمرض وان ينتصروا عليها. ان ما ابقاهم أحياء في نقرة السلمان هو فكرهم النير وإرادتهم الفولاذية الواعية واعتقادهم المطلق بأنهم جزء من جبهة الكفاح، جزء يجب ان يصمد ويحتفظ بقواه وثوريته وان يقاوم، مع كل المناضلين، محاولات الاستعمار وأعوانه لإذلال الشعب وإخضاعه واستعباده وتقديمه وقوداً للحرب.

وكان السجناء السياسيون على يقين تام بان شعبهم لن يتخلى عنهم ان هم لم يتخلوا عنه. فكان لهم من عطف الجماهير والرأي العام سنداً عظيماً بوجه السلطات الحكومية، سنداً يمدهم بالقوة والثبات والعزيمة. لقد احتضنت الجماهير وكل الرأي العام الوطني، قضية السجناء السياسيين حتى أصبح الغاء سجن نقرة السلمان (4) والعفو العام عن السجناء السياسيين (أو على الأقل إعادة محاكمتهم أمام محاكم مدنية نزيهة)، مطلبين وطنيين تتبناهما كل الاوساط الوطنية وتوافق عليها حتى الاوساط المعادية للشيوعية وبعض الفئات الحاكمة.

ان صمود السجناء السياسيين في نقرة السلمان والسجون الآخرى وبطولاتهم العظيمة وتضحياتهم، لم تكن موضع عطف الجماهير الشعبية والأوساط الوطنية وإعجابها فحسب. بل كانت أيضاً نبراساً مقدساً للمناضلين ضد الاستعمار في الصمود والبطولة والتضحية. لقد خلق السجناء السياسيون تقاليد رائعة للسلوك الثوري في المواقف والمعتقلات والسجون، تقاليد يعتز بها المناضلون الثوريون ويمجدونها. وهي، إلى جانب تقاليد الشعب العراقي الثورية المجيدة، تقاليد ثورة العشرين وانتفاضة الازيرج ووثبتي كانون وتشرين وإضرابات السكك والنفط ومسيرة العمال المضربين الكبرى من (حديثة) إلى بغداد، وتمردات فلاحي العمارة والبصرة و (دزه ى) وإضرابات الطلاب ومظاهراتهم واعتصاماتهم. تلك التقاليد الثورية هي، الى جانب تقاليد الشعب العراقي الثورية المجيدة، من أبرز خصائص الحركة الثورية في العراق، التي ولدت وترعرعت في ظروف التصادم الحاد مع المصالح الاستعمارية الاجنبية وأجهزة القمع الاستعماري الرجعية السوداء.

لعل القارئ يستطيع الان ان يتعرف على مزاعم الحكومة الفارغة وأكاذيبها في البيان الذي اصدرته مديرية الدعاية العامة في 19 حزيران 1953 حول مذبحة سجن بغداد. وان يفهم حقيقة ما قصدت إليه الحكومة في عبارات (العطف على ذوي السجناء)، و (الوسائل الممكنة للترفيه) عن السجناء. وان يقدر الاسباب الحقيقية التي أجبرت الحكومة على نقل سجناء نقرة السلمان، في سنة 1951 إلى السجون الأخرى في بغداد والكوت فهي قد نقلتهم، بعد ان عجزت، أمام نضال السجناء وضغط الرأي العام، عن الاحتفاظ بهم في ذلك السجن الرهيب النائي. لكنها ما لبثت بعد نقلهم إلى بغداد والكوت، ان صارت تتحين الفرص وتخلق المبررات لتعيدهم من جديد إلى هناك. وأخذت تنقل إلى سجن النقرة، افراداً وجماعات صغيرة تتهمهم بالشغب والعصيان والتمرد، وأخيراً، استغلت ظروف الاحكام العرفية والإرهاب البوليسي والعسكري وتعطيل الصحف والأحزاب، بعد وثبة تشرين الثاني 1952 لتشن أفضع هجوم تعرض له السجناء السياسيون في كل السجون العراقية وفي كل تاريخ الحكم الاستعماري الرجعي في العراق. بدأ ذلك الهجوم –كما اطلع القارئ- بمذبحة سجن بغداد في 18/6/1953، وانتقل بعد ذلك إلى سجن نقرة السلمان، ثم الى سجن الكوت حيث وقعت المذبحة الكبرى بعد شهر من الحصار كما سيأتي بيانه.


محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي - أبو سعيد -)
بغداد - حزيران 1955


* لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1) المسقوف اسم اطلقه الاتراك على الروس خلال حروب الامبراطورية العثمانية مع القيصرية الروسية. ولا زالت التسمية معروفة في العراق وترمز الى العدو القاسي الذي لا يستحق رحمة أو شفقة.
(2) القوري باللغة العراقية الدارجة ابريق الشاي.
(3) صرح أحد المدراء المدعو كاكه أمين: أنه يتلقى أوامره من نوري السعيد مباشرة.
(4) اوفدت الحكومة تحت ضغط الرأي العام لجنة خاصة لدراسة أوضاع ذلك السجن فأوصى تقرير اللجنة بإلغائه نظراً لمخالفته للشروط التي يجب توفرها في السجون الحكومية حسبما يقرره قانون السجون. وقد صرح وكيل مدير السجون العام السيد (صديق خوجه) عند زيارته للسجن قائلاً "ان نقرة السلمان لطخة عار في جبين الحكومة العراقية" اما عن العفو العام ، فقد رفعت خلال السنوات الماضية إلى الجهات المختصة مئات الالوف من التواقيع وقدمت مذكرات عديدة من نقابة المحامين، وأثيرت القضية مراراً في مجلس النواب وقدم الاستاذ حسين جميل وزير العدلية وقتئذ، تقريراً الى مجلس الوزراء تضمن الطعن بمشروعية الأحكام التي أصدرتها المجالس العرفية واقترح اتخاذ الاجراءات التشريعية التي تسمح بإعادة محاكمة السجناء السياسيين امام المحاكم العادية.

***

من أعماق السجون في العراق * /6


ملاحظة لم أسجل كل التفاصيل التي ذكرها الشهيد عبد الجبار وهبي في كتابه، وإنما نقلت نصوصا من موضوعاته مع حذف بعض الفقرات التي لا تؤثر لا على المعنى ولا على نسق الرواية ... وأترك نشر كل هذه التفاصيل لطباعة الكتاب مستقبلا ليطلع عليه القارئ الكريم.

الناشر: محمد علي الشبيبي

صيف 1953 في نقرة السلمان
اواسط تموز 1953. ... كان عدد السجناء السياسيين 26 سجيناً من المناضلين، بينهم حميد عثمان وعشرة من رفاقه الذين هربوا سنة 1952 من سجن الكوت فالقي القبض عليهم قرب بغداد فنقلوا إلى نقرة السلمان. وأربعة من المناضلين الذين جيء بهم حديثاً ... ومناضلين آخرين، بينهم بعض "اليهود". وقد كان في السجن إلى جانب الـ (26) سجيناً سياسياً سجناء عاديون، وسجناء صهاينة....

بدأ الحصار منذ اواسط تموز 1953، حيث منعت ادارة السجن الزيارات وإدخال الهدايا من الطعام وغيره، وقطعت صلة السجن بالعالم الخارجي قطعاً باتاً فلا شيء يخرج منه، ولا شيء يدخل إليه سوى "الأرزاق" الحكومية وقدر مقنن من الماء، هو بمثابة شريان الحياة، إنه الحصار ...

منذ اواسط تموز، بدأت المفاوضات لنقل السجناء إلى سجن بعقوبة ... لا شك ان سجناء نقرة السلمان يرحبون اشد ترحيب بنقلهم الى بعقوبة. إلا ان الأمر الذي يشغلهم أكثر من سواه، هو ان ينقل كل السجناء من نقرة السلمان، بما فيهم السجناء العاديون، وان تعلن الحكومة رسمياً إلغاء ذلك السجن اللاإنساني الرهيب.... وقد شعر السجناء بعد الثلاثين من الحصار المتقابل ان الوضع يزداد حراجة، وان الخطر يقترب مسرعاً، فأعلنوا عن شروط جديدة، هي:
ان يتم النقل على دفعات ثلاث يعينها ويختارها السجناء أنفسهم، على ان يشمل كل السجناء السياسيين، ومن دون تكبيل بالسلاسل، ومع احتفاظ السجناء بملابسهم المدنية، واحترام حقوقهم كسجناء سياسيين. فوافقت الادارة على هذه الشروط، وفك الحصار، وفتحت الباب وخرجت الدفعة الأولى من السجناء وكان بينهم حميد عثمان والمناضلون الاربعة وغيرهم. فأركبوهم سيارات الحمل المكشوفة ونقلوهم إلى ثكنة الشرطة القريبة من قلعة السجن....

وإليك، أيها القارئ، موجز ما حدث في الايام الستة التي تم خلالها، نقل الدفعات الثلاثة من سجناء نقرة السلمان.
كانت الدفعة الاولى مؤلفة من 22 سجيناً (بضمنهم سجناء عاديون)، تحركت بهم سيارتان مكشوفتان تحيط بها سيارات مسلحة. وخلافاً لما هو متوقع، توقفت القافلة عند ثكنة الشرطة ووضعت سيارتا السجناء بعيداً عن السيارات الأخرى وقريباً جداً من جدار الثكنة. فما ان هبط منها سائقاها، حتى انهمر من فوق الجدار، سيل من الحجارة الثقيلة، أصاب السيارتين المكشوفتين، وأصاب السجناء بجراح ورضوض على رؤوسهم وأكتافهم وظهورهم، والسجناء لا يملكون دفاعاً لهذا الغدر المفاجئ ولا سبيل للفرار منه، فسقطوا على أرض السيارتين عاجزين عن الحركة والمقاومة. فتقدمت إليهم الشرطة فسحبتهم إلى الأرض، وأخذتهم إلى الثكنة، حيث بدأت سلسلة أعمال أخرى....

كان في الثكنة 250 شرطياً من شرطة البادية، اجتمع بعضهم على السجناء وأخذوا ينزعون عنهم الملابس المدنية، بينما راح الآخرون يطلقون الرصاص في الهواء، وألبسوهم بدلا عنها، ملابس السجن الرسمية. ثم ضربوا في أرجلهم أطواق الحديد المسلسلة وكبلوا أيديهم بسلاسل أخرى...
اجتمعت الشرطة كلها، إلا نفراً ظل يطلق الرصاص في الهواء، وتوزعت جماعات حول السجناء الجرحى، المكبلين في أيدهم وأرجلهم، فانقضت كل جماعة على فريستها، حتى اغمي على معظم السجناء من أثر الضرب والركل والسحق. لكن حماس الشرطة المتوحشين، ظل يتصاعد ويشتد، واخذ يتركز على أشخاص معينين، دون سواهم....

.... كان المناضلون يصرون باسنانهم وهم ينشدون الأناشيد الثورية، ويدافعون بهذا الشكل عن كرامتهم وكرامة شعبهم وحزبهم، في تلك البقعة النائية المنعزلة حيث لا أحد يسمعهم، لا أحد يراقبهم ولا أحد يستطيع ان يقدر –في تلك الساعة- فيما إذا كانت الحياة ستبعث من جديد في أوصالهم المتورمة المثخة بالجراح، لا أحد هناك غير 250 من الذئاب البشرية الجائعة التي ثقفهم المستعمرون الامريكان والانكليز والتي نسيت معنى (الانسانية) منذ زمن طويل....

.... وأعيدت هذه الدفعة (الدفعة - الوجبة - الأولى) من السجناء الى سيارات السجن المكشوفة التي نقلتهم إلى بعقوبة في سفرة استغرقت 24 ساعة من ساعات شهر آب في العراق، وهم أشباه أموات. وعند وصولهم سجن بعقوبة ضربوهم مجدداً وجلدوا المناضل حميد عثمان (200) جلدة على قدميه، وأدخلوهم زنزانات الاعدام حيث أمضوا سبعة أيام، حتى جاءت الوجبتان الأخريان، فادخلوا سوية إلى السجن، بعد نضال عنيد قام به كل سجناء بعقوبة.
وبعد يومين تحركت الوجبة الثانية من سجن نقرة السلمان، دون حادث يذكر، حتى جيء بهم إلى بعقوبة حيث تلقوا قبل ادخالهم الزنزانات "التأديب الضروري". فعذبوهم بوحشية حتى اغمي عليهم جميعاً وحتى تكسرت اطواق الحديد في أيدي وأرجل البعض منهم.... وأخيراً جيء بالوجبة الثالثة والأخيرة (بهاء الدين نوري ورفاقه) وكان عددهم 5 فقط من بينهم الدكتور السجين "حسين الوردي"، تلقوا "التأديب" في ساحة ثكنة الشرطة الخيالة في مدينة السماوة. كان في الثكنة أكثر من 100 شرطي اشتركوا جميعاً في ضرب السجناء السياسيين الخمسة. وقد لعبوا بهم كما يلعب بالكرة في ساحة واسعة. ولدى وصولهم بغداد، احتجزوهم في غرف السجن الانفرادي، فأضرب السجناء الخمسة عن الطعام مطالبين بنقلهم إلى بعقوبة. فاعتدوا عليهم بالضرب مجدداً فكسروا أضلاع بعض السجناء ولم يكسروا الاضراب! وحلقوا رؤوسهم وشواربهم، وأخيراً، نقلوهم إلى سجن بعقوبة. وبذلك تكون الحكومة قد نقلت سجناء بغداد ونقرة السلمان ولم يبق امامها إلا ان تلتفت إلى سجناء الكوت فلننتظر ما سيكون من أمرهم!

يجدر بنا ان نذكر للقارئ آخر ما حدث في سجن نقرة السلمان للمناضلين الاربعة (بهاء الدين نوري ورفاقه) وبعض السجناء "اليهود" الذين احتجزتهم الشرطة هناك، خلافا لما اتفقوا عليه. فلقد دبرت إدارة السجن هجوماً غادراً عليهم مستعينة بعصابة من السجناء العاديين المجرمين والصهيونيين وعلى رأسهم الجاسوس الصهيوني البريطاني الجنسية (رودني). ان تدبير أمثال تلك الهجمات التي قام بها السجناء المجرمون على السجناء السياسيين لأمر مألوف جداً في سجن نقرة السلمان والسجون الأخرى، خصوصاً حينما لا يكون السجناء السياسيون من الكثرة بحيث يفرضون سلطتهم على السجن.

محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي - أبو سعيد -)
بغداد - حزيران 1955


* لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي


الكوت!؟
2 آب 1953 والتمهيد للحصار!؟

***

من أعماق السجون في العراق * /7


ملاحظة لم أسجل كل التفاصيل التي ذكرها الشهيد عبد الجبار وهبي في كتابه، وإنما نقلت نصوصا من موضوعاته مع حذف بعض الفقرات التي لا تؤثر لا على المعنى ولا على نسق الرواية ... وأترك نشر كل هذه التفاصيل لطباعة الكتاب مستقبلا ليطلع عليه القارئ الكريم.

الناشر: محمد علي الشبيبي

الكوت
أنظر خارطة العراق.

الكوت مدينة على دجلة، على مسافة 150 كلم جنوبي بغداد تشتهر بمركزها الزراعي العظيم، وعندها يقع سد الكوت حيث يتفرع نهر العراق.
لماذا الكوت، وليست الحلة أو سامراء أو النجف أو البصرة؟ في العراق مدن كثيرة، وفي كل مدينة سجن، فلماذا اختارت الحكومة سجن الكوت لتجمع فيه السجناء السياسيين (أو الشيوعيين كما يحلو لرجالات الحكم بالعراق تسميتهم)؟

ذلك ان الكوت احدى القلعتين الكبرايين للإقطاع في العراق وهما لواء العمارة ولواء الكوت(1). ... يتصرف بتلك الاراضي الشاسعة في كلا اللواءين، بضعة اشخاص من كبار الإقطاعيين، أشهرهم في الكوت (أمير ربيعة) ... الذي له من الحاشية والحرس ومظاهر السطوة والأبهة والبذخ ما للملوك سواء بسواء. ... ان قصر هذا الاقطاعي الكبير، هو احدى الملاجئ المعروفة لرجالات الحكم بالعراق. وفي مدينة الكوت يشارك الاقطاع الحكومة النفوذ، في الاحوال الاعتيادية، ويزيد عليها، في الازمات حتى لا يعود للحكومة وللمتصرف الذي يمثلها، غير سلطة اسمية وحسب.

... اختارت الحكومة، منذ عشر سنوات سجن الكوت فخصصته للسجناء السياسيين. فصار ذلك السجن يلعب دوراً خاصاً في حياة المدينة كلها. ... التفتت جماهير المدينة الى احداث السجن وعرفت اسم (فهد) وأيقنت ان وراء الاسوار مناضلين بواسل لا تخيفهم"حوشية"(2) الامير ولا شرطة الحكومة. وفهمت مع الايام ان اولئك المناضلين لا يبخلون بحياتهم ثمناً لإخلاصهم لشعبهم ووطنهم.... فحينما اختطفت الحكومة (فهد وحازم وصارم) من السجن، فكأنما هي اختطفتهم من مدينة الكوت، وحينما اعدمتهم في شوارع بغداد، اهتزت تلك المدينة الصغيرة ..... وسمعوا بالشيوعية لأول مرة. ثم صارت المدينة والأرياف القريبة منها تتعرف بعد ذلك على الشيوعيين وأخبارهم وتعجب ببطولاتهم وتضحياتهم. وحينما هرب حميد عثمان (3) من سجن الكوت في 1952 مع عشرة من رفاقه خضعت المدينة برمتها للحصار والتفتيش وتعرفت عن كثب الى قسوة الشرطة ووقاحتهم واستهتارهم. وتحدثت المدينة بدهشة عن النفق العجيب الذي حفره الشيوعيون من تحت الاسوار. وأسفت وحزنت لان اولئك الشجعان الذين جازفوا بحياتهم، قد وقعوا في قبضة العدو، مرة أخرى.

عرفت مدينة الكوت مئات العوائل التي تفد كل شهر، وكل اسبوع لزيارة السجن. رأت الامهات والآباء والزوجات والأطفال وتحسست بعمق روابط السجناء السياسيين بالشعب، ومكانهم منه. ... وحتى يوم 2 آب 1953، كانت الكوت قد تعلمت اموراً كثيرة أخرى واعتادت ان تصغي بانتباه شديد الى صوت السجن وهتافاته وأناشيده.

2 آب 1953 والتمهيد للحصار
2 آب 1953 ضجيج ينبعث من السجن، وصوت ضخم مستطيل واضح النبرات ينادي: {يا جماهير شعبنا! يا جماهير الكوت الباسلةّ يا جماهير الكوت! لقد قطع الماء والطعام عنا، وأصبحت حياتنا مهددة بالخطر. ان الخونة يريدون قتلنا جميعاً. هبوا للدفاع عن حياتنا. اضغطوا على الحكومة. ارسلوا الوفود قدموا العرائض. طالبوا بإيقاف جريمة قتلنا الاجماعي ... يا جماهير الكوت، نحن امانة شعبنا عندكم فحري بأبناء دجلة والفرات، الدفاع عن امانتهم ... يعيش السلم العالمي ... يعيش الشعب العراقي المناضل من أجل استقلاله وحريته .. يسقط الاستعمار ... تسقط المشاريع الحربية ... تسقط سياسة القتل الاجماعي ... تسقط حكومة المدفعي-السعيد. يا جماهير الكوت لقد قطع الطعام والماء عنا.}

كان هذا أول نداء وجهه السجناء السياسيون، بواسطة بوق صنعوه لهذا الغرض، الى جماهير الكوت، لتنوير الرأي العام بحقيقة ما جرى في ذلك اليوم، الثاني من آب 1953. في ذلك اليوم، في الساعة الحادية عشر صباحاً، كسرت ادارة السجن انبوب المياه، وهدمت الخزان الخارجي، وامتنعت عن تقديم الطعام الحكومي، ومنعت ادخال اي شيء إلى السجن. وفرضت الحصار التام الذي استمر اثنين وثلاثين يوماً.
* * *
لم يكن ذلك الحصار سوى نتيجة لمقدمات سابقة، وحلقة أخيرة في سلسلة أعمال وتحضيرات، ابتدأت منذ أشهر، ابتدأت في الواقع، منذ مجيء (جهاد حسين الجاف) مدير السجن الجديد في أوائل 1952. فقد عرف هذا المدير ميله للإجرام وشراسته. فهو الذي اطلق الرصاص، من قبل، على السجناء في سجن البصرة، ونكل بالسجناء في السليمانية، تنكيلاً وحشياً.....

وضع المدير الجديد (جهاد حسين) قيودا اضافية على المواجهات وأمر بتمزيق الرسائل الشخصية الواردة الى السجن، وبإحداث الخلل عمداً بجهاز الراديو الذي يستمع السجناء بواسطة سماعته المنصوبة على الساحة، الى محطة بغداد اللاسلكية (دون سواها). قام المدير الجديد بتحرشات واستفزازات ... فأدرك السجناء في الحال، ان الحكومة تسعى مرة اخرى الى تهيئة الجو المناسب للهجوم على مكاسبهم ... واخطر تلك المكاسب، في نظر الحكومة، هو حق مواجهة العوائل للسجناء وحق ادخال الكتب والصحف إليهم، وحق انتخاب من يمثلهم امام الادارة وينطق باسمهم ويتفاوض نيابة عنهم.

قام المدير الجديد ببعض الاصلاحات "لتحصين السجن" فبنى أبراجاً عالية ...! وشيد أسواراً ضخمة، واستبدل الابواب القديمة بأبواب حديدية مصفحة، وأنشأ زنزانة خاصة للتعذيب.

وأسعفت وزارة الشؤون الاجتماعية موظفها "الحازم" هذا، بإمداد جديد من "خيرة" السجانين الذين عرفوا ببربريتهم وأعمالهم الوحشية، منهم: جعفر، عبد الله، سفيح، ابراهيم، زكريا، عربي، يونس .... فليتذكر القارئ هذه الأسماء!

وقد نشط المدير (جهاد) في "تثقيف" ملاكاته من الموظفين والسجانين والجواسيس. فكان يلقي عليهم المحاضرات السياسية، ويربيهم على الحقد وروح الانتقام من المناضلين ضد الاستعمار....

وشحذ المدير (جهاد) سلاح التجسس والتفرقة والعداوة بين السجناء العاديين، وجند عددا من السجناء المعروفين بشراستهم وتوحشهم، وأمرهم بتدبير الاستفزازات والمصادمات وباضطهاد السجناء العاديين الذين يظهرون عطفهم على "الشيوعيين"، والتحرش ببعض السجناء السياسيين. ودبر مرة، هجوماً بالسكاكين على السجناء العاديين من أصدقاء "الشيوعيين" .....

وفي نفس الوقت، كان المدير (جهاد) ينشط، على المستوى السياسي أيضاً، بقصد إظهار السجناء بمظهر العصاة الحمقى الذين لا ينفع معهم غير منطق العنف والقوة. وأخيراً، وبالاتفاق مع متصرف اللواء، قامت الشرطة المحلية بحملة ارهابية على المواطنين القاطنين في الحي القريب من السجن. ونجحت الحملة في ارغام معظم الناس على اخلاء دورهم والانتقال الى بيوت أخرى بعيدة عن السجن. فاستأجرت الحكومة الدور الخالية وأسكنت فيها عوائل السجانين والشرطة.

.... اشتدت المضايقات والاستفزازات اليومية فتخصص للمواجهة يوم واحد فقط من كل شهر... وصارت الادارة تهمل شكاوي السجناء وتمنع ايصال عرائضهم الى المراجع الحكومية او الصحافة.

لكن التحرشات والاستفزازات وتوتر العلاقة بين السجناء والإدارة، لم تدخل طورها الحازم الشديد التأزم، إلا بعد مجزرة سجن بغداد في 18/6/1953 فقد هزت أنباء تلك المجزرة المروعة مشاعر مشاعر كل الناس في العراق والرأي العام العربي والعالمي. واستشعر السجناء، فوق ذلك، بالخطر الداهم الذي أصبح يهددهم، هم أيضاً.... وللاحتجاج على الجريمة وإظهار روح التضامن مع ضحاياها، قدم السجناء عرائض رسمية واضربوا عن الطعام اضراباً رمزياً، وأرسلوا وفداً لمقابلة متصرف اللواء وإبلاغه احتجاجهم واستنكارهم، وتقديم مطاليبهم في هذا الصدد. وإليك خلاصتها :
1- معاقبة مدبري ومنفذي مجزرة بغداد، وفي مقدمتهم كبار المسؤولين : جميل المدفعي، نوري السعيد، ماجد مصطفى، حسام الدين جمعه، عبد المطلب الأمين، عبد الجبار أيوب.
2- التعهد بعدم تكرار مثل هذه الجريمة.
3- وضع حد لسياسة الاستفزاز الموجهة ضدهم وضد سجناء نقرة السلمان.
4- نقل سجناء نقرة السلمان الى السجون القريبة.

اعترف المتصرف، المدعو (طاهر القيسي) امام وفد السجناء، ببشاعة الجريمة الدموية في سجن بغداد، ووعد بعدم تكرارها وأعلن مؤكداً انه "يفضل الاستقالة" من منصبه على تنفيذ اية أوامر لتدبير اية مجزرة في سجن الكوت. ... أما إدارة السجن فقد ازدادت تعنتاً. ثم اخذت المشاكل اليومية البسيطة، تتراكم وتتعقد، حتى جاء يوم 5 تموز 1953، حينما طلب السجناء مواجهة المتصرف لإنهاء حالة التوتر، ووضع حد لسياسة الاستفزاز ...

فذهب لمواجهة المتصرف ممثل السجناء (4)، يرافقه سجينان آخران وحمل الثلاثة عريضة تضمنت مطالب السجناء.
فما ان خرج الوفد من السجن حتى اقتيد الى مركز الشرطة بالقوة، واقتيد في الوقت نفسه سجناء آخرون كانوا يراجعون ادارة السجن بطلب منها، وأربعة غيرهم كانوا في طريقهم الى المستشفى، وأحد هؤلاء الاربعة مريض ارتفعت درجة حرارته حتى الاربعين درجة. فكان المجموع عشرة سجناء.

كبلت الشرطة اولئك السجناء العشرة بالسلاسل وأركبتهم عنوة في السيارة، وسفرتهم الى نقرة السلمان، هكذا ... دون امتعة او ملابس أو احتياطات كافية، لسفرة طويلة كتلك السفرة تمتد من الكوت الى بغداد (150 كلم بالسيارة) ثم الى السماوة (200 كلم بالقطار) ثم الى النقرة بالسيارة 150 كلم عبر الصحراء في شهر تموز!

وخلال خمسة الايام التي تلت هذا الحادث الاستفزازي، فرضت السلطات الحصار على السجن... فحاولت ان تفاجئ السجناء ليلاً، بهجوم مسلح، وان تقتحم الباب الداخلي عليهم عنوة. وأرسلت عشرات الشرطة داخل المدينة للاختلاط بالناس وترويج الاشاعات، حول تمرد السجناء وعصيانهم ... الخ .... ففي يوم 10/7/1953 حضر الى الكوت كثير من عوائل السجناء للمواجهة، فاصطدمت بإجراءات ادارة السجن ومضايقاتها واعتداءاتها فتجمهرت العوائل مع مئات من اهالي الكوت واتجهوا الى دار المتصرف، في مظاهرة سلمية ورابطوا حولها، وطالبوا المتصرف بان يذهب بنفسه الى السجن ليسمع شكوى السجناء ويلبي مطاليبهم وانتظروا في مكانهم حتى المساء فأذعن المتصرف، وعاد المتظاهرون بصحبته الى السجن، واحتشدوا عند الباب، بينما دخل المتصرف ومدير الشرطة للاستماع الى أقوال السجناء. كان مدير الشرطة يتوعد السجناء وينذرهم، ويهددهم بإطلاق النار، ومتصرف اللواء يتعهد المطاليب ويؤكد انه لن تجري "اختطافات" جديدة، انه سوف تتوقف كل الاستفزازات والمضايقات حالاً!. ولكنه اعلن قبل ان ينصرف: بان المجلس العرفي العسكري ببغداد يطلب حضور 118 سجيناً لمحاكمتهم بتهمة التوقيع على عريضة رسمية مرفوعة الى الجهات المختصة. وكان السجناء قد قدموا فعلاً عريضة احتجاج على تعذيب اربعة مناضلين اعتقلتهم الشرطة في نيسان 1953.

ادرك السجناء ان غرض تلك المحاكمة المزعومة هو استدراجهم الى الخروج من السجن لاختطافهم وتعذيبهم ونقلهم الى نقرة السلمان أو سجن بعقوبة ....
وصلت حملة الاستفزازات حداً لا يطاق. ... وطلبت من كل السجناء العاديين ان يهجروا القواويش (الردهات) ويلتجئوا الى الاسوار. ... وهجر البعض أماكنهم، لكن البعض الآخر تضامن مع السجناء السياسيين وربط مصيره بمصيرهم....

وعادت ادارة السجن الى التهديد بقطع الماء ومنع الطعام .... واعلن مدير السجن امام ممثل السجناء قائلاً: "عندي أوامر برميكم جميعاً"
كانت الاخطار تزداد وتتعاظم، فهل بإمكان السجناء ان يرضخوا لطلبات الحكومة؟ وان للحكومة دائما طلباتها التي لا تقف عند حد. فقد تعلم السجناء، بتجاربهم، ان الطلبات تجر وراءها طلبات. وان الحكومة لا تطلب في الواقع إلا ان يتخلى السجناء عن شعبهم ووطنهم ومعتقداتهم، وان يتعهدوا بخدمة الاستعمار والرجعية، وان يبلوا حياة الذل والعبودية التي يفر منها الجهاز الحكومي الرجعي الفاسد على كل من يضع نفسه في خدمته.


محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي - أبو سعيد -)
بغداد - حزيران 1955


* لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1) يقسم العراق الى 14 لواء، ادارياً. ولكل لواء مركز يقيم فيه المتصرف –المحافظ-. ولواء الكوت، مركزه مدينة الكوت. (هذا التقسيم كان ما قبل ستينات القرن الماضي/ الناشر محمد علي الشبيبي)
(2) الحوشية: كلمة دارجة في المجتمع الاقطاعي تعني شرطة الاقطاعيين. ولعلها تحريف لكلمة (حاشية) الفصحى.
(3) كان هذا الحادث اول حادث من نوعه في السجون العراقية، وفي المحكمة اعلن "حميد عثمان" بعد القاء القبض عليه وسوقه إلى القضاء بتهمة الهروب اعلن بان السجناء السياسيين لا يعترفون بمشروعية سجنهم وانهم سينتهزون اية فرصة لاستعادة حريتهم ومواصلة نضالهم الى جانب الشعب.
(4) ممثل السجناء هو (أكرم حسين) هذا ما ذكره حسقيل قوجمان في (ذكرياتي في سجون العراق السياسية / في موضوعة - مجازر السجون -)/ الناشر محمد علي الشبيبي


المجلس العرفي العسكري يساهم!؟
شهر الحصار!؟ الطعام في شهر الحصار!؟

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى