ريتا هلايلي - ما العمرُ كلّه سوى شهقةِ دمع حارّ؟

القيروان، ٢٦/٠٥/٢٠٢١..

"كانت الأيّام في قلبي دموع بتجري !.."

أُم كلثوم مؤامرة أبي العبقريّة لمراوغة الزّمن والتغلب على مرارتهِ، ألفتُ منذُ طفولتي الأُولى أنْ أركن إلى صدرهِ ليلاً لنتدثر حُنجرتها حتى أغفو..
ينسابُ الآن صوتها شَجيًا يُدثر ليل وحدتي بينما أُوّدعُ الأيّام التي انهمرتْ تجري من عمري كالدّمع الحارِّ، ما العمرُ كلّه سوى شهقةِ دمع حارّ ؟

حين نهضتُ هذا الصباح كانتْ خيوطًا من الشّمس تتسللُّ
من النافذة لتغفو على صدري بينما كانتْ دموعًا كثيرة تَسفحُ في عينيّ، ظللّتُ أشدُّ على قلبي بأسناني وأراوغها بنُضجِ المرأة التّي صِرتُهَا.
لمْ أبكِ منذُ زمنٍ بعيد، تلاشتْ قدرتي على البكاء فجأةً وتلاشى معها عالمي القديم دفعةً واحدة..

رويدًا رويدًا ينطفئ الشغف ويجتاحُ مكانهُ السَّأم، ظلّلتُ أعضُّ على شفتيّ وأنا أرى عالمي كلّه يُزمجرُ وينفجرُ ويرسلُ طوفانهُ ويهوي رمادًا ويتوارى بعيدًا.. بعيدًا.. كالصدّى، ظلّلتُ أحاول تطويع حياتي للهزائمِ، أحاولُ ترميم خراب رُوحي، أحاولُ أنْ ألفظ من قلبي حزنهُ السرمديّ، أجلسُ إلى مكتبي الصغير طِوال النهار أتأملُ الوحشة التّي أضحتْ تسكنُ رفوفه، أتحاملُ على جسدي، أدخلُ المطبخ، أغفلُ عن العالم لدقائق بينما أنشغلُ بتحضير طبق السمك المشوي، أغرسُ يدي في أحشاء السمكة وأغرقُ في عالمها حتى أرمي بالطبق في الفرن فتُراودني صورة سيلفيا بلاث وأُخمنُ لوهلة؛ ترى هلْ فكرتْ في تلك اللّيلة الباردة في الذهاب إلى المطبخِ وتشريح سمكة مثلاً قبل أنْ تُكمم الأبواب والنوافذ بالأشرطة اللاصقة و ترمي برأسها داخل الفرن لستنشق غازهُ دفعةً واحدة؟ هل فكرتْ أنْ تتحامل على القلق بأنْ تنفض كلّ الآواني البلورية التي تسكن المطبخ على الأرضِ مثلاً؟
كيف يقدرُ السّأم من الوجود أنْ يكون هائلاً وجريئًا وقاسيًا بذلكِ القدرِ الّذي جعلها تذهبُ بكلّ ثباتها إلى العدم؟

أعودُ إلى الفراشِ،أتقلبُ بمللٍ، أُحدقُ بعينينِ غائرتين في شجرةِ السرو اليتيمة التّي تسكنُ المكان، كانتْ شُجيرة فتيّة حين جئنا البيت والآن أضحى خيالها يكبرني؛ أطلّ منها على زمن انفلتَ مني..

بنُضجِ المرأةِ التّي صِرتُها ظلّلتُ أُشدُّ على قَلبي بأسناني كلَّما كادتْ تُراوغهُ شَهقة البُكاء بينمَا كنتُ أنشغلُ بطيّ الزّمن القَديم؛ أُقبلهُ قُبلة الوداع.

تُلاحقني سلفيا بلاث وتهمسُ في أذني:
"لن أستطيع أبداً قراءة كل الكتب التي أريد قراءتها؛
ولن أستطيع أبدًا أن أدرّب نفسي على كلّ المهارات التي أريد إتقانها.
ولماذا أريد ذلك؟
أريد أن أحيا..
لكنني محدودةٌ بفظاعة"

نسيتُ منذُ زمن بعيد كيف يكون الشغفُ بالقراءةِ، نسيتُ كيف أضعُ رأسي بين دفتيّ كتاب فينمو لي جناحان، نسيتُ كيف يكون الشغف بالكتابةِ. نسيتُ كيف علمتني أُمي اللّغة مذْ كنتُ جنينًا يسبحُ في ماء الرّحم، أوصتني كثيرًا أنْ أستعيض عن البكاء بالكتابةِ، أوصتني أن أُطرد باللّغة هلعي ووحدتي، كيف تنكر قلبي لوصايَا أمي؟

أدركتُ أخيرًا أنَّ اللُّغة إنْ غَادرهَا الشغفُ وأصَابها السَّأمُ تَلاشَتْ إلى الأَبَد، وأنّهُ لا مفرَّ لقلبي سوى أنْ يرضى بعالمه الجديد ويألفهُ بعيدًا عن نشوة اللّغةِ غير أنّ دمعة سفحت إلى عينيّ هذا الصباح أيقظتْ فيّ رغبة مُبهمة في الكتابة..

أيّتها الحياة جئتكِ بقلبٍ يشقُ نصفهُ الحُزن الشجي الدافئ ويلتهبُ نصفهُ الآخر شغفًا ويتّقدُ، إذا اتّزنا رأيتني طفلة شاعريّة بظفيرتين تنامان على الكتفين ولسان يلهجُ بالسؤالِ ويهذي وعاطفة صوفيّة تُحركها الشّمس إذا بانتْ في الأفق ويُبكيها أوّل المطر، وإذا إِخْتلَّ توازنهما غلبتْ كفة الحُزن فمال قلبي إلى التعبِ والكبرِ وارتطمت أمواجهُ الهائجة باليابسة وأضحى عُمري كلّهُ زَبدًا..

أيّتها الحياة جئتكِ بقلبٍ يرثُ الحُزن مُذ كان نطفةً في الأحشاء، و بإسمٍ مُترع بالشّجنِ، وعاطفة جيّاشة في باطنها، قاسية عنيدة إذا تبدّتْ للعالمِ.
أيّتها الحياة جئتكِ والقلقُ يغفوُ معي كلّ ليلةٍ ويصحو، بينما تُربتُ الطمأنينة على كتفي لوهلةٍ ثم تتلاشى، غير أنّني أحببتكِ وكشفتُ قلبي عاريًا أمام لهيبك وتركتهُ يتلّظى بناركِ ويستعرُ.
أيّتها الحياة لقدْ هزمتك دائمًا بالكبرياء؛ كان العالمُ يقسو وكنتُ اشتد صلابة ومثابرة..
أيّتها الحياة لقدْ تحديتك دائمًا باللّغة؛ حفظتُ وصايَا أُمي بقلبٍ لا يعرفُ الهزيمة وظننتني انتصرتُ دائمًا على الحروب الّتي التهمتني بأنْ أكتب.. أمّا الآن فقدْ تسلل السّأم الّذي أخشاهُ إلى روحي، كلّ صباحٍ تُراودني سلفيا بلاث مرةً أخرى "إن استطعت تحمّل هذه السنة، ولو على نحو سيء، فسيكون أعظم انتصار حققته يومًا"، بيد أنّي أستعيضُ عن عبارة "هذهِ السنة" ب"هذا اليوم"..
كلّ يوم أتحاملُ على الحياة، على جسدي الرخو، على ارتعاشة قلبي، على زهدي في الكلام، على عقلي الذّي يفيضُ بالأسئلة، على قلقي الدائم، على تقلباتي الهائلة، على المرارة التّي تَغفو في صدري، أتحاملُ على ثقلي وأغرسُ أظافري في جسدي وأصحوُ بخفةٍ أعجبُ منها بينما خافقي يهمسُ"وهاتي يا صلابة وهاتي يا حياة.."

أيّتها الحياة؛ إنّني أتمكنُ من اللّغة مرة أخرى والشمسُ عادتْ تغفو على صدري وتُداعبُ جسدي الحارّ، أيتها الحياة إنّني أقوى على البكاء مجددًّا.. بحرقة أبكي.. بلذةٍ أبكي.. بنشوة أبكي.. ما العمرُ كلّه سوى شهقة دمع حارّ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى