محمد دكروب - من حسين مروة: أوراق من مسيرته وكلمات بمنزلة الوصية

تمهيداً لقراءة هذه الاوراق اوراق سمراء من ذلك الورق الذي كانت تطلع عليه الصحف عندنا، كتب عليها حسين مروة ، بخطه الرفيع، اشياء ومعلومات عن حياته في العراق. يعود تاريخ كتابة هذه الاوراق الى اواخر عام 1979 أو اوائل عام 1980.
ففي ذلك التاريخ كنت قد طلبت من ابي نزار ان يكتب لي فقرات في نقاط مكثفة ، عن الفترة التي قضاها في العراق منذ ذهب للدراسة في النجف، حتى أنهى هذه الدراسة، وتحول الى الصحافة والكتابة الادبية والتدريس، بدل ان يتابع حياته شيخاً من علماء الدين، ثم عن مشاركته في الحياة السياسية العراقية العامة.وتعرفه على الشيوعيين هناك، وصولاً الى قرار نوري السعيد بإبعاده عن العراق عقاباً له على مشاركته الشعب العراقي في معاركه ضد الاستعمار البريطاني وصنائعه امثال نوري السعيد.
تلك الفترة من حياة حسين مروة كنت أعرفها بخطوطها العامة، وأردت منه ان يكتب لي بعض التفاصيل والمراحل بتواريخها اما حياة ابي نزار منذ عودته الى لبنان فلعلني اعرف الكثير من تفاصيلها اكثر من غيري، فنحن معاً منذ عام 1949 حتى يوم استشهاده الفاجع (في 17 شباط 1987).
كنت احضر في تلك الفترة من عام 1980، مقالة طويلة هي مزيج من الذكريات والدراسة، والحوارات وما يشبه السيرة، أصور فيها جوانب عدة من مسيرة حسين مروة، وكنا نعد في ذلك العام، للاحتفال بعيده السبعين، وكان "مشروعي" هذا يتطلب بعض التفاصيل عن " الفترة العراقية"من حياة ابي نزار واشارات الى كتاباته، فوعد ان يسلمني هذه الاشياء، مكتوبة بعد اسبوع. حسين مروة كعادته وفى بوعده فسلمني هذه الاوراق قبل ان ينتهي الاسبوع. أما انا فقد اتيح لي ان اكتب فصولاً عن حسين مروة هي في الواقع فقرات من مشروعي الاوسع ونشرت هذه الفترات في صحافتنا ومنها "النداء" و"الطريق" وكذلك في الكتاب الذي صدر عام 1981 بعنوان حسين مروة شهادات في فكره ونضاله، وضم عددا من الدراسات والمقالات لعدد من الكتاب وضم عددا من الدراسات والمقالات لعدد من الكتاب والباحثين العرب. لقد استخدمت قليلاً من المعلومات واللحظات الواردة في هذه الاوراق، ولكنها ظلت تنتظر ان أفي بوعدي لنفسي بتحقيق مشروعي الاوسع ذاك، وكنت احب ان انفذ مشروعي الاحب هذا، خلال حياة أبي نزار نفسه، فقد تعودنا معاً، ان نقول راينا صريحاً في كل ما يكتبه كل منا، وكانت ملاحظات ابي نزار، دائماً، تسدد خطاي وتضيء الطريق. وبدأت فعلاً ، مع ابي نزار بعض خطوات التمهيد، وكان الحافز هذه المرة، اذاعة صوت الشعب، اتفقنا ان ادخل في حوار طويل مع ابي نزار يتيح لنا تسجيل مسيرته بصوته، منذ البدايات الاولى مرورا بالفترة العراقية، وحتى نصل الى الايام التي بدأنا فيها العمل معاً، فاتفقنا-هنا –ان نتذكر، معاً الاحداث والتفاصيل والاشخاص والكتابات والمواقف الحرجة والمواقف الصعبة والطرائف، فيستثير كل منا ذاكرة الاخر، فتتكامل اللوحة..
عدت الى هذه الاوراق لتكون فقراتها قاعدة للدخول في الحوار حول التفاصيل والقضايا والمراحل. وكنا سنبدأ بعد انعقاد المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي اللبناني، هكذا قررنا معاً. ولكن المعارك اندلعت في بيروت.. والقتلة تسللوا الى بيته تحت جنح هذه المعارك، وارتكبوا الجريمة التي لا يزال وقعها يدوي في انحاء الوطن العربي كله وفي انحاء العالم، وسيظل يدوي في الزمان، يدين القتلة ويمجد حسين مروة الشهيد الباقي، ويروي مسيرته الملحمية. اختلف الوضع وتغيرت صورة "المشروع" كله..
والكتابات عن فكر حسين مروة وعن مسيرته سوف تتكاثر ولكن اذا كان متاحاً للباحثين في كتب حسين مروة، الصادرة حتى الان، الحصول على هذه الكتب، فأن المصادر عن مسيرة حسين مروة وتفاصيلها، محدودة جدا حتى الان. فرأيت من الضروري نشر هذه الاوراق الان، ففي فقراتها ما يساعد الكتاب والباحثين، في تحديد ملامح ومحطات مرحلة مهمة جداً، واساسية في حياة حسين مروة في هذه الاوراق نفسها، مرحلة التأسيس المزدوج لتفكيري: تأسيس الثقافة التراثية وتأسيس الثقافة التقدمية، والاشارة هنا الى التقائه مع الشيوعيين في العراق، وبدايات تبنيه الفكر الماركسي (وسوف تكون دراسته للتراث لاحقاً، وعلى الاخص في كتابه التأسيسي والنزعات المادية في الفلسفة العربية –الاسلامية". هي البلورة الرائعة للتفاعل والتمفصل بين هذين المنبعين الاساسيين –والتأسيسيين –في فكر حسين مروة، التراث العربي الاسلامي، والفكر الماركسي). تكشف هذه الاوراق، كذلك عن تلك الخاصية الاساسية في مسيرة حسين مروة الكفاحية، وهي: انه أتى الى الحزب الشيوعي والماركسية من قلب المعركة الوطنية نفسها، المعركة ذات الطابع التحرري (ضد الاستعمار الانكليزي) وذات الطابع القومي ايضاً، فإن وثبة الشعب العراقي عام 1948 كانت كذلك ذات طابع قومي عربي عام، بوصفها معركة ضد أحلاف عسكرية استعمارية كانت تهدف الى تكبيل البلاد العربية، كلها. وكانت كما جاء في هذه الاوراق – " مقدمة لعقد عدة أحلاف عسكرية في الشرق الاوسط، ونواة فعلية لحلف بغداد بعد ذلك". " المعلومات" الواردة في هذه الاوراق تلتقي مع "معلومات" وردت في حديث طويل، ومهم أجراه الشاعر عباس بيضون مع حسين مروة ونشر في جريدة " السفير" ابتداء من 18/9/1985 على مدى ستة أعداد، وجعله بعنوان " ولدت رجلاً وأموت طفلاً" وهو، حتى الان، مصدر اساسي من مصادر مسيرة حسين مروة. -كذلك هناك حديث طويل، حول "الفترة العراقية" هذه، أجراه معه محمد أبي سمراء ، ونشر في مجلة "المسيرة" الثقافية (كانون الثاني عام 1981) وكان بعنوان "حسين مروة يتذكره". -مصدر آخر ذكرناه في سياق هذا التقديم، هو الكتاب الصادر، عام 1981، عن دار الفارابي بعنوان " حسين مروة –شهادات في فكره ونضاله، لعدد من الكتاب والباحثين. وفي جمعية الباحث الصديق الدكتور احمد علبي تسجيل لحوار طويل أجراه مع حسين مروة وملأ اكثر من عشرة اشرطة، وعندما يتاح لهذا الحوار ان يرى النور، في الشكل الذي يرتئيه الدكتور، علبي سيكون ولاشك من المصادر المهمة جداً لمسيرة حسين مروة على الصعد الادبية والفكرية والكفاحية معاً. مصدر مهم جداً، هو مقالة بقلم حسين مروة نفسه هذه المرة، بعنوان " من النجف دخل حياتي ماركس" نشر في " الطريق" حزيران عام 1984، والمقالة هذه مكتوبة بصيغة كأنها فصل من السيرة الذاتية التي كان أبو نزار يعتزم كتابتها. مصادر اخرى لمسيرة حسين مروة نجدها في العديد من الاحداث والحوارات معه، المنشورة في العديد من المجلات والجرائد اللبنانية والعربية، وهي احاديث لابد من استكمال جمعها كلها وتنسيقها، وبالتالي نشرها ، فهي حسب علمي، تشكل اكثر من كتاب واحد، وكل كتاب في موضوع معين. وتظل كتابات أبي نزار نفسه، وعلى الأخص تلك التي اتخذت شكل المقالة القصصية سواء في مختلف صحفنا التقدمية أم تلك التي كان يكتبها، خلال الخمسينيات –في جريدة "الحياة" تحت عنوان " مع القافلة" هي " المصادر" الاغنى بالتلاوين والمشاعر ورسم الاجواء والشخصيات في حياة حسين مروة. في هذه الاوراق يشير حسين مروة ، الى مصدر مهم جداً في سيرته الذاتية: مقالات كان ينشرها في مجلة " الهاتف" النجفية (بين اعوام 1934 و1940).. " وكثيراً ما كانت كتاباتي هذه لمجلة " الهاتف" يقول ابو نزار –تتخذ الشكل القصصي، ويغلب على هذا الشكل طابع السيرة الذاتية". ولكن هذه الكتابات غير موجودة في " أرشيف" حسين مروة، وكثيراً ما كان يحدثني عنها بحسرة، آملاً ان يحصل عليها في يوم من الايام، وكان يخشى بما يشبه الهاجس التنبؤي، انه لن يحصل عليها في حياته... فكتب لي، في هذه الاوراق نفسها، وبين هلالين، كلمات موجهة إلي هي بمنزلة الوصية. بعد استشهاده –أعيد قراءة هذه الكلمات، مرات ومرات، ودائماً أشعر بانهمار الدموع في داخلي، وأدخل في الحزن الصافي، ويتململ في روحي سؤال يحمل ملامح من الغيب: -لماذا كتب أبو نزار هذه الكلمات بمثابة وصية؟ هل كان يهدس؟ هل كان يعرف؟ يخاطبني ابو نزار: -" يؤلمني انني لا املك وثائق هذه الكتابات، وكم اتمنى ان احصل عليها لانشرها في كتاب مستقل، لأنها تمثل مرحلة مهمة في حياتي الادبية والفكرية –واخشى ان لا احقق هذه الامنية قبل نهاية عمري –اذا حدث ذلك يا محمد، فإنني أرجو منك تحقيقها، أو فلتكن " الطريق" هي التي تتولى ذلك.. هذه الاشارة اتركها عندك- يا محمد –بمنزلة وصية". سنحصل على هذه الكتابات، حتماً يا ابا نزار.. ربما أنا، وربما غيري.. من يدري؟ ولكننا، نحن، سوف ننفذ الوصية أيها الغالي...
وهذه هي الاوراق –وقد رأيت من الضروري ان أضيف اليها (بين الفقرات، وبحرف مختلف) تعليقات ومعلومات وإشارات، توضح بعض الجوانب، حتى تتكامل الصورة –(م.د.) يا بني.. عليك ان تصير عالم دين، مثلي
* مات والدي الشيخ علي مروة عام 1920 وعمري اثنتا عشرة سنة، وهاجرت الى النجف سنة 1924 خلال السنوات الاربع بين موت الوالد والهجرة الى النجف، كنت أتردد على علماء الدين في القرى والبلدان الجنوبية لتأسيس دراستي الدينية وكان يحدوني الى ذلك طموح ولهفة غرسها بي الوالد منذ طفولتي.. الطموح الى ان اصبح خليفة والدي كعالم ديني يتمتع باحترام كبير لدى مختلف الاوساط الاجتماعية الجنوبية.
* كنت في الثانية عشرة من عمري حين مات والدي، وكنت في السادسة عشرة حين هاجرت الى النجف لطلب العلم.
* كان والدي هو نفسه يحلم ان اكون خليفته، لذلك كان يعدني بنفسه لهذه المهمة، كان يلزمني ان ابقى معه في البيت وفي السفر وأنا ابن ثماني سنوات، حتى لقد ألبسني العمامة باكراً، في هذه السن، بل اضاف اليها الجبة، حتى صرت بشكل كاريكاتوري مثيرا للضحك والسخرية، تصور ابن 8 سنوات بهذه الصورة (عمامة وجبة..) لذا كنت أخجل من الظهور بين الناس في المجتمعات وفي الشوارع..كانت تبلغ المرارة في نفسي مبلغ الشعور بالضعة والنقص.. من هنا نشأت في داخلي عقدة خجل بقيت فاعلة حتى هذه اللحظة، فأنا لا أزال أتهيب الدخول في المجتمعات، واتهيب الكلام بين الناس، برغم كل الظروف التي الجأتني وتلجئني الكلام.. ضوء.. نجد احد الاسباب التي جعلت حسين مروة يطلق على سيرته الذاتية، التي كان يزمع كتابتها –عنوان " ولدت رجلاً وأموت طفلاً " فعند تلك السنوات الاولى، خسر حسين مروة طفولته، فأختبأ الطفل في أعماقه.. ولكن هذا الطفل عاد الظهور، نضراً وبريئاً وجميلاً، مع دخول حسين مروة مرحلة الرجولة وامتلاك حريته الشخصية في الاختيار.. هذا الطفل يعرفه كل الذين عرفوا أبا نزار- م.د.
"حين ذهبت اول مرة (1924) الى النجف كنت قد انهيت دراسة النحو في الكتب القديمة مثل الفية ابن مالك" وكتاب "المغني" (مغني اللبيب) لابن هشام..مع العلم ان دراسة النحو هي القاعدة الاساس في دراسة علوم الدين حسب نظام الدراسة في النجف والازهر. ضوء: هذا العام (1924) الذي بدأت معه هجرة حسين مروة الى النجف، هو العام نفسه، الذي تأسس فيه الحزب الشيوعي اللبناني.. وكانت هذه " المصادفة" في اساس مقالة قصيرة كتبها حسين مروة فيما بعد هي من اجمل واعمق ما كتبه من مقالات فنية. (المقالة بعنوان "في عيدك الخامس والخمسين –هذه قامتي ايها الحزب " منشورة في "النداء" 20 تشرين الاول 1979). في هذه المقالة يرى حسين مروة ان بداية رحلته الى النجف هين في الوقت نفسه، بداية رحلته الى الحزب الشيوعي.. أي: ان الرحلة الى الحزب بدأت منذ بدأ الحزب نفسه رحلته الكفاحية (العام 1924) " من واقع الوطن الى حلم الوطن".. ويسخر حسين مروة من اولئك الذين يجدون مفارقة وتناقضاً بين الرحلتين. " لكن. لو انهم يقرأون الواقعات في حركة تاريخيتها الاجتماعية الكلية لا في حركة مكانيتها الساذجة والجزئية.. لو انهم يقرأون العلاقة بين القطبين النقيضين، بدل ان يقرأوا المسافة وحدها بين القطب والقطب(...) اذن، لقرأوا بداية رحلتي الى المعرفة، في ذلك العام ذاته، انها بداية رحلتي اليك، ايها الحزب. مثلما قرأوا نهاية الرحلة نفسها، انها نهاية البحث عنك وبداية الوصول اليك، ويؤكد حسين مروة القول مرة اخرى: " نعم" ان بداية الرحلة الى المعرفة، هي –بمنطقها الصحيح –بداية الرحلة اليك –ثم يستخلص حسين مروة هذه الاضاءة المهمة في سر تلك العلاقة الصحيحة بين التراث والاداة المعرفية المعاصرة، لاستيعابه .. " ففي القبض على " سر العلاقة الصحيحة" ذهه يتميز انجاز حسين مروة ومجمل نتاجه الفكري والفلسفي والادبي على السواء – م.د.
* بدأت الدراسة في النجف إذن، من المرحلة الثانية، أي من علم المنطق(المنطق الصوري – ارسطو).
*عرفت في النجف (في أوساط الطلبة والاساتذة) بحسن السيرة، أي من حيث جدية الدراسة والسلوك.. وبقيت منظورا الي هكذا حتى اخر علاقتي بدراسة الفقه وأصول الفقه.
*اما السلوك فقد تغير نظر الرضا علي بشأنه الى نظر السخط والنقد الجارح.. ما سبب ذلك؟ هذا السؤال يثير مسألة (تاريخ حياتي الحقيقي).. ومن هنا يبدأ " الموضوع". من ابن "مطيع" للتقاليد.. الى ابن " ضال"! -مع حكاية القطعة الادبية الاولى..
* سنة واحدة وحيدة، هي السنة الاولى من إقامتي في النجف، كنت فيها "ابنا مطيعاً" لنظام الدراسة هنا، ولأفكار القوم، ولطقوسهم الدينية والاخلاقية والفكرية والاجتماعية، لكن، ما ان انقضت هذه السنة الاولى حتى رأيتني " الابن الضال" عن كل ذلك ، الكاره لكل ذلك، لماذا؟. يصعب لي الان تحديد الاسباب..لكن اتذكر بعض الحوادث:
1- اول كتاب ادبي (شعري) اشتريته من سوق المزاد هو " ديوان السيد ابراهيم الطباطبائي " من شعراء النجف الكلاسيكيين، احدث شرائي هذا الديوان نقداً من زملائي، لأن ذلك في نظرهم خروجاً على نظام الدراسة، فالطالب يجب ان ينصرف انصرافاً تاماً " للعلم" وحده.. اما لماذا اشتريت هذا " الديوان" بالذات فذلك مصادفة فقط.. لكن تبين لي ان وراء هذا الحادث ميلاً للادب كان خفياً، فظهر بهذا الشكل " التافه".." فاتحة رديئة"! ثم كرت تفاصيل العلاقة مع الادب، ثم كانت " قصة" طريفة لأول ممارسة كتابية ابداعية، واول نشر: ذات مساء، في السنة الثالثة من وجودي في النجف، شعرت بحاجة الى نزهة خارج البلدة، وهناك أحسست بأن يدي تمتد للقلم والورقة وتكتب شيئاً. كان ذلك صوراً وجدانية تناجي نجمة الليل بافكار من وحي ظروف " القهر" الطقسي النجفي.. لم أكن افكر ان ذلك يعد "ادبا" وانه يدخل في باب "النشر" في الصحف... لكن احد الزملاء اللبنانيين جاءني زائراً ذات يوم، وبينما أعد له الشاي خارج الغرفة مد يده الى ما تحت المخدة حيث توجد " المقالة –الخريدة". فقرأها وعند عودتي الى الغرفة أخذ يثني ثناء حارا على هذه "الخريدة" واخذ يحرضني على نشرها في جريدة " النجف" الاسبوعية حتى أقنعني.. وفعلاً انتشرت تلك المقالة الاولى لي في جريدة " النجف" بعنوان " أنا ونجمة الليل". وبإمضاء " ساهر" (سنة 1926).. وحين انتشرت المقالة اشترى حضرة الشيخ نحو (20) نسخة من الجريدة ووزعها على اساتذتي واصدقائي المشايخ بقصد التشنيع والتجريح (انظروا هذا عصري، أي هرطوقي).. لكنه احسن الي برغم أنفه..منذ ذاك انطلقت وبدأت انشر في "النجف"..ثم في الصحف العراقية الاخرى.
2-(نفسياً).. أحسست اثناء الاستعداد لتسفيري الى النجف بالمهانة، جاء السيد عبد الحسين شرف الدين الى الزراية، بلدة آل مروة الاولى، ليجمع " خرجية" السفر لابن الشيخ ، ليصير " شيخ" العائلة. كنت حاضراً مجالس " الجميع" في الزراية ، وشهدت محاولات الناس للتخلص من " الضريبة" ومحاولات السيد قمع محاولاتهم تلك المشروعة.. لكنني اثناء " العملية" لم أتمثل شعور المهانة، لأن " وعيي" كان منصرفاً كلياً الى الاستمتاع بشعور الفرح لكوني سأخطو خطواتي الاولى نحو طموحي الذي انشأني الوالد عليهن وبعد ان "راحت السكرة وإجت الفكرة" بدأ شعور المهانة يتسرب الى نفسي ويقلقني، ويدفعني للتمرد، على "طموحي" نفسه.
* عامل العلاقة بالأدب والكتابة الادبية وعامل الشعور "بالمهانة" من حياة " الشيوخ" ثم عامل القمع النفسي الذي يمارسه "نظام" الدراسة النجفية- كل ذلك أقام حاجزاً هائلاً بيني وبين " الوضع" الذي وضعت فيه بـ "الوراثة".. -من هنا بدأ الصراع في نفسي: أأبقى حتى النهاية والتغلب على المصاعب لأجل الوصول الى مكانة دينية استطيع ان استخدمها لتغيير ما (الافغاني، محمد عبده) أم أخرج نهائياً من هذا " الأسر" بطريقة حاسمة؟. -لقد حسمت الموقف اول الامر، وتركت النجف، ولاحقتني التهم المتعددة المتنوعة، في جبل عامل، كما في النجف، جئت الى لبنان سنة (1928).. لكن ضاق بي أفق الحياة، فالطرق كلها مسدودة بوجهي ، برغم ان الاوساط الادبية في جبل عامل كانت تحوطني بالتقدير والتكريم، وكنا نتحرك أدبياً في المناسبات ، بمضامين سياسية.
* لقد اضطررت تحت وطأة ظروفي "العدمية" ان أعود الى النجف، وعدت الى الصراع من جديد.. فترة القلق والصراع والتفتيش -خلال هذا الصراع من جديد قذفت بي الظروف الى مدينة "العمارة" في جنوب العراق، لأكون أميناً لمكتبة عامة تحت اشراف الشيخ حبيب العاملي حيث كان يحتل مركز زعامة دينية ضخمة، فقد انتدبني هذا الشيخ للمكتبة كشيخ " عصري" يستقطب أوساط المثقفين والطلاب العصريين حول مشاريع كانت تناهض تحرك البروتستانت الاميركان في تلك المنطقة، وفعلاً استطعت تحقيق هذا الاستقطاب في وقت لايتجاوز الاسبوعين باللقاءات والمحاضرات.. لكن " الشيخ" برغم هذا النجاح، فاجأني ذات يوم بـ "الفصل" من ادارة المكتبة بحجة اني انشر الالحاد بين الشباب، مع انه كان يطلع على محاضراتي ويوقع عليها بالموافقة مع اضافة كلمة "احسنت" بل كان شديد الفرح بما كنت افعل.. وقد ظهر بعد يومين من "فصلي" ان المسألة تتعلق بتوظيف قريب له مكاني، لقد ثار شباب المدينة (العمارة) على الشيخ واحاطوني بالعناية واستعدوا لفتح ناد جديد اتولى نشاطه، ثم اقاموا لي حفلة تكريم قدموا لي خلالها قلم حبر ذهبياً هدية.. فلم اوافق على الاقامة في المدينة، وأصررت على الذهاب الى بغداد للبحث عن عمل، وتطوع مدير المدرسة الثانوية الرسمية للذهاب معي الى بغداد لمساعدتي في تهيئة العمل: وفعلاً امكن الارتباط بإحدى المدارس للتدريس فيها، واصبحت أنام في المدرسة (نسيت القول بأنني كنت انام في غرفة في المسجد اثناء اقامتي في مدينة العمارة).
* خلال وجودي في بغداد، بهذه المرحلة (1929). حصلت مصادفة غريبة ومفاجأة مدهشة: فقد وصلتني رسالة من أحد الاقارب (مهاجر في الارجنتين)، وفي الرسالة تشيك بعشرين ليرة استرلينية (قيمة كبيرة حينذاك) ويقول ان هذه القيمة مساعدة لي على طلب العلم الديني، فكتبت للرجل حالاً أنني خرجت من النجف وتركت طلب العلم، ولذا استرجع القيمة، كي لا اخدعك.. والغريب ان الرجل عاد وكتب لي ان القيمة لك مهما كان طريقك.. -هنا فكرت: ان هذه الفرصة ثمينة لتغيير وجهة ثقافتي.. فقد كانت كلية الاداب وكلية الحقوق في جامعة دمشق تقبلان الدخول فيها لمن ينتسب الى مدرسة ثانوية معينة دمشقية وينال منها شهادة بأنه تخرج منها (الكلية الوطنية –صاحبها منيف العائدي).. بهذه الطريقة تمكن من دراسة الحقوق والاداب كل من السادة محمد صفي الدين، حسن الامين، عبد الرؤوف الامين (فتى الجبل ) شريف الحسيني ..الخ. -حملت نفسي وجئت الى دمشق للانتساب الى هذه الثانوية سنة واحدة، والحصول على شهادتها والدخول الى كلية الادابن لكن صديقا في بيروت حرضني على الذهاب الى بيروت لتولي وظيفة التعليم في المدرسة العاملية (الابتدائية) وأغراني ذلك، وضاعت الفرصة.. زواج الحب.. وأيام البطالة والفقر الرهيب
* علمت سنة كاملة في العاملية وكان سرحان، سرحان زميلين واختلفنا مع رئيس الجمعية ، وفي نهاية السنة تركت بيروت والمدرسة العاملية، ذاهباً الى دمشق للبحث عن عمل.. وهناك وجدت العمل في جريدة "الشعب" اليومية وكان نصوح بابيل نقيب الصحافة السورية، سابقاً رئيساً لتحرير "الشعب" هذه.. عملت اسبوعيا في الجريدة ثم طلبت الاذن بالذهاب الى لبنان لأتزوج وآتي مع عروسي للاستقرار في دمشق.. وكانت " العروس" تنتظر هذا اليوم منذ ثلاث سنوات. إضافة في الحديث الطويل الذي أجراه معه عباس بيضون، ونشر في " السفير" يروي حسين مروة وقائع من اللقاءات مع ابنة بنت عمه فاطمة بزي (ام نزار ، فيما بعد).. كان اللقاء سهلاً سواء في بيتنا او في بيت والدها المرحوم الحاج محمد فاعور بزي.. كانت الصلة ميسورة مقبولة، لم تتعرض لرفض أو اعتراض من الاهل، بل ان بعضاً من أهلها وأهلي كانوا يحبون هذه الصلة الوليدة بالرعاية ويسهلون لها ان تصل الى غايتها، هكذا غدا حبنا معلنا واطلع عليه امها وأخوالها.. كان على الحب ان يصير الى الزواج. -لكن الزواج لم يكن ميسوراً في مثل حالي وانا العائد من النجف ناقماً محاصراً مجهول المستقبل والمصير" – وتم الزواج بعد ثلاث سنوات، في ظروف معيشية سيئة جدا واشد صعوبة من السابق.
*رجعت مع العروس (ام نزار) الى دمشق لاجد العمل قد "هرب" من يدي: بقيت ستة اشهر دون عمل والعروس تجهل هذا، وظلت تجهله عشرين سنة، اثناء ذلك ولد نزار في دمشق (1931) ووقائع " القصة" خلال إقامتي بدمشق (سنة ونصف السنة) كثيرة ورهيبة مأساوياً.. إضافة: في الحديث نفسه الى عباس بيضون، قال حسين مروة: " كتمت الامر عن عروسي لئلا اربكها وداومت على الخروج صباحاً متظاهراً بأنني ذاهب الى عملي بينما انا في حقيقة الامر ابحث عن عمل(...) كنت اجد بين حين واخر عملاً جزئياً بأجر زهيد، كتصحيح كتاب، ولك ان تتصور الضائقة المادية التي كنت فيها، لكنني أود في هذا السياق أن اذكر مأثرة لعبد المطلب الامين. فقد كان عبد المطلب آنذاك طالباً في مدرسة التجهيز في دمشق وكان قد تسلم لتوه قسط المدرسة من والده ليدفعه والا عرض نفسه للفصل، وامام الحال التي كنت عليها، اثر عبد المطلب ان يعطيني القسط لتغطية نفقات ولادة نزار مجازفاً بمستقبله الدراسي (....) أطبقت علي الازمة بوجوهها المادية والفكرية والنفسية، فآثرت العودة الى بيروت..".
* بعد سنة ونصف رجعت الى بيروت ابحث عن عمل. عملت محرراً في جريدة "العهد الجديد".. لصحابها خير الدين الاحدب، وكانت الجريدة يومئذ تخدم سياسة رياض الصلح، التي كان لها طابع السياسة الوطنية – العربية المناهضة للانتداب الفرنسي.. ثم عملت ايضا متمرنا على مهنة تجليد الكتب باشراف السيد زين والد احمد هاشم صاحب مكتبة هاشم المعروفة.. الى النجف من جديد.. والى الكتابة الادبية
* ضاقت الدنيا بي، والفقر أكل لحمي، وكان حسان قد جاء اخاً لنزار، وكنت اسمع حينذاك ان احد علماء جبل عامل (السيد حسين محمود الامين –والد هاشم حسن الامين) يردد في مجالسته انه يأسف لتركي طلب العلم في النجف، لأنه يأمل بي ان اصبح عالماً ضخماً، ويردد انه مستعد لمساعدتي مادياً على العودة الى النجف لو أنني أقتنع بالعودة. -ان ظروفي تلك، وهذه الحكايات التي كانت تبلغني عن السيد الامين " أقنعتني" بضرورة العودة للدراسة في النجف.. وعدت (1934)، وكانت العودة ناجحة هذه المرة.. أي أنني وجدت الاستقرار والطمأنينة، واستأنفت الدراسة بجدية تامة، باجتهاد لا نظير له بين طلبة النجف حينذاك.. وزملائي الذين عاصروني في تلك المرحلة (الشيخ جواد مغنية، السيد هاشم معروف، الشيخ عبد الله نعمة رئيس المحكمة الشرعية الجعفرية العليا الان) يشهدون بهذه الحقيقة كما يشهدون بغنى الحصيلة التي ظفرت بها من هذه الدراسة الجادة المجتهدة، حتى انتهيت من دراستي هذه بنجاح.




أعلى