أحمد حسن الزيات - أحمد حسن الزيات - هؤلاء عرفوا جرجى زيدان

كان ذلك فى السنة الثامنة أو التاسعة من هذا القرن، وكنت حينئذ مدرساً للغة العربية وأدبها بكلية الفرير بالخرنفش، ثم زادونى حصة كل يوم بمدرسة الفرير الابتدائية بالفجالة، وكان تلاميذى بهذه المدرسة من الصبية الذين تختلف أسنانهم بين الثامنة والعاشرة، وأكثرهم من أبناء الجالية اللبنانية التى تكثر فى هذا الحي فكانوا صباح الوجوه حسان الهندام، ولكنهم كانوا من حيوية الطفولة ومرح الحداثة فى حركة دائمة وزقزقة مستمرة ! فكنت أتسع لهم حينا فأنذرهم باللسان، وأضيق بهم حينا فأزجرهم باليد.

وكان من بينهم صبي خفيف لا يكاد يستقر على حال ولا يستمر على وضع ، لا يكتفي بالعبث في موضعه ولا بالحديث مع جاره، وإنما ينتقل من درج إلى درج، ويقوم من تلميذ إلى تلميذ يأخذ من هذا أيقونة أو صورة، ويعطى ذاك لعبة أو «بلية».

وبين نفسي الأخذ والعطاء لا بد من كلمة مسموعة أو حركة خشنة أو ضحكة مرتفعة فكنت أستدعيه إلى وألويه بالكلمة اللينة وأمنيه «بالعلامة الطيبة» فيسكن قليلاً ثم يثقل على أعصابه السكون فينفجر بالحركة انفجاراً يزعج هدوء الأطفال ويهوش نظام الفصل، فاستدعيه ثانية وأستبقيه بجوار المنصة رجلاه مصفوفتان ويداه مرسلتان ووجهه إلى الحائط.

فلا يلبث على هذا الوضع إلا دقيقة أو أقل ثم يهز كتفيه ويطلق يديه، ثم يستدير بوجهه ويرسل عينيه فى جوانب الفصل فتشخص إليه الأبصار وتفتر له الشفاه وينتظر الأطفال ماذا يكون من أمر هذا البطل الذى يتحدى سلطان المعلم، فلم أجد بدا من ضربه «علقة» على يده بكعب الكتاب فتلقى الضربات كاظماً على جرته حتى انتهيت، ثم مضى مسرعاً إلى مقعده وكفأ وجهه على يديه فوق الدرج وأخذ يبكي.

وخشع رفاقه من الخوف فلزموا الهدوء، وأحسنوا السماع حتى دق الجرس .

وفى اليوم التالى أقبل على فى أول الحصة هذا التلميذ المتمرد وقد اتخذ هيئة الرجل الجاد وسمت الغاضب المبتسم فألقى إلى رسالة كانت فى يده، ثم عاد إلى مكانه فى هدوء وقعد فى صمت ففضضت الرسالة فإذا فيها ما نصه:

أستاذنا الفاضل

«ولدك وولدى شكرى زيدان يشكو من أن معلمه لا يعامله بالعطف الذى يعامل به الآخرين، وأنه قسا عليه بالأمس قسوة لم يتعودها منه، والأطفال بطبيعتهم يبالغون ولكن الأستاذ الفاضل يتفق معى على أي حال في أن أنجع الوسائل في التربية الحديثة هى تحبيب الأطفال بالنظام والعمل من طريق الملاينة والحيلة.

وأرجو مستقبلاً أن يجد الأستاذ من تلميذه ما يحب من الطاعة، وأن يجد التلميذ من أستاذه ما يرغب من العطف وانتهز الفرصة لأقدم إلى الأستاذ تحيتي..

المخلص

جرجى زيدان

طويت الرسالة ووضعتها فى جيبى لأعيد قراءتها بعد ونظرت إلى شكرى وكان يحاول أن يقرأ أثرها وجوابها فى وجهى فابتسمت له وابتسم لى وجرت الريح بينى وبينه رخاء بالسلام والحب حتى انقضى العام وباعدت بيننا مفارق الطريق واتجاهات الحياة فلم أره إلى اليوم!

وعدت إلى الرسالة فقرأتها مرة أخرى ثم أخذت أصعد النظر فيها وأصوبه وأنا أقول لنفسي: إذن هذا الصبى المضروب هو ابن جرجى زيدان، وهذا الكلام المقروء هو كلام صاحب الهلال، وهذا الأدب الرفيع هو أدب مؤرخ الإسلام، لقد قرأت لصاحب هذه الرسالة القصيرة ووالد هذا الرسول الصغير، كل ما كتب من قصص وألف من كتب ونشر من بحوث فنشأت بينى وبينه على البعد تلك الصلة الروحية التى تصل بين الفكر الناشئ والفكر المنشئ وتربط بين الطالب المريد والأستاذ الواصل.

وكان جرجى زيدان يومئذ قد انفرد فى العالم الإسلامى كله بالتأليف والكتابة فيما ليس للعرب والمسلمين به علم من تاريخ العرب والأدب والحضارة والإسلام بالأسلوب الواضح والتقصى العجيب والعرض الطريف، فكان ما ألفه من الكتب فى تاريخ العرب قبل الإسلام، وتاريخ اللغة العربية، وتاريخ التمدن الإسلامي، وتاريخ آداب اللغة العربية، وما أنشأه من القصص التاريخية الإسلامية على نحو ما فعل ولترسكوت فتحا مبينا فى ميدان الثقافة العربية قرب الموارد لكل باحث، ومهد السبيل لكل كاتب.

وكنت فى هذه السنة نفسها طالباً بالجامعة المصرية الأولى بجانب صديقى طه حسين ومحمود زناتى فترامى إلينا أن مجلس إدارة الجامعة قد قرر تعيين الأستاذ جرجى زيدان أستاذاً لكرسى التاريخ الإسلامى بالجامعة، فهزنا هذا الخبر وسرنا أن نكون تلاميذ للمؤرخ الكبير عن طريق المحاضرة، بعد أن تلمذنا إليه طويلاً عن طريق القراءة ولكن بعض الآراء المتزمتة الرجعية قد ساورت بعض الأذهان المتخلفة الغبية، حملت الأستاذ الكريم السمح على أن يعتذر من قبول هذا المنصب بعد أن أعد المحاضرات وصور الخرائط، واستمر الببغاء على الكرسى الجامعى الوثير، يردد ما قال الطبرى وابن الأثير!

ثم عدت إلى الرسالة مرة ثالثة أتملاها وأتأملها ثم كتبت الجواب عنها بالاعتذار والشكر، وأرسلته مع البريد ثم رأيت بعد أيام أن أزوره فى إدارة الهلال فتكشف لى من لقائه الجميل وحديثه العف واطلاعه الواسع وتواضعه الجم عن طراز من العلماء فريد لم ألق مثله فيمن لقيت من العلماء فى الأزهر ودار العلوم والجامعة.

والحق أن جرجى زيدان مدين بعلمه وفضله ونجاحه لأخلاقه وأشد أخلاقه أثراً فى حياته صدقه وجده ودأبه ومثابرته.

تخرج فى أكثر العلوم على نفسه، وشق طريقه فى الصخر بسن قلمه، واختار لجهاده الأدبى الميدان البكر وأعد له ما استطاع من قوة الصبر وصدق العزيمة فانتصر انتصاراً عز على غيره وعاد بالنفع والخير على قومه.

ولزيدان شرف الريادة لمنتجعى الأدب، وفضل السبق إلى فن القصة، وحسن القدوة فى مهنة الصحافة، وحق الأستاذية فى الهلال على كل قارئ، وتاريخ الأدب العربى الحديث يعترف للرجل بكل أولئك.

لم أكن حين عرفت صاحب الهلال على حال من السن والثقافة تؤهلنى لصداقته كنت فى بداية الشباب وكان فى نهاية الكهولة وكنت من شداة الأدب وكان من أقطاب العلم، فظلت العلاقة بينى وبينه علاقة طالب بأستاذ وصلة قارئ بمؤلف فلما قويت أناملى على حمل القلم وصلح تفكيرى لتغذية الهلال كان قلمه قد جف وذهنه قد انطفأ!

لذلك آثرت أن يكون أول ما أكتب للهلال تحية من القلب العروف أقدمها لذكراه وباقة من الأدب الصدوق أنثرها على قبره.
أعلى