أحمد أبوخنيجر - ضلال الرائحة… قصة قصيرة

ليس المرج ما دفعني للهبوط لكنها رائحة القهوة التى وجت ببطن الكهف، خيط خفيف بين روائح متداخلة للنباتات والصخور وبلل الرمل؛ كنت قد بت ليلتي محتميا بأحد الكهوف من مطر غزير أخذ فى الهطول منذ عصر الأمس، كان المرج تحت عيني وخايلني بيت شعر فى طرفه القصي، لم تفلح عيني فى التقاطه جيدا أو تلمح بادرة حياة بجواره، خمنت أنه ربما كان خداع من البصر بسبب المطر والشمس الغاربة، وقلت: وربما هجره أهله منذ موسم على الأقل. بدا بعيدا والمطر المتزايد حاشني من التقدم، عند الصباح أيقظتني الرائحة ، وبدت خضرة الوادي كأنها أمل جديد.

خطوت كأنما تجرني الرائحة الحريفة للقهوة الصحراوية – الجَبَنَة- مقصدي بيت الشعر فى طرف الوادي، مستمتعا ببلل الرمل، وإذا بشيخي يضحك فى قلب الحضرة، وأنا أتحاشى الاقتراب من حال الغبطة التى تلف الحلقة، أكتفي بالخطو على حوافها، وجلال الوجد بين الذاكرين يصاعد دفئا هادرا فى ليلة الشتاء تلك، وحادي القهوة فى نشوته يرص الأكواب يعادل بها وجود الحاضرين وطربهم، أتناولها منه وأدور بها على الحواف كفراشة، ونباتات المرج تبللني بالقطرات العالقة، وطيف يقوم ويقعد أمام بيت الشعر، وماعز وشياه تجرى متلاعبة فى براح المرج الأخضر.

حينما اقتربت بدا الطيف لرجل عجوز عاكف على راكية جمر، ينفخ فيها فيتطاير دخان خفيف بلون لحيته الضاربة إلى البياض، قلت: سلام أيا عم. قال: سلام. ولم يغير من موضعه، لم أستطع تبين ملامحه رغم أنه حاسر الرأس نحيف البدن، أدوات القهوة عن يمينه، أرسلت عيني للمرج الواسع، والرائحة تغمر المكان بتجليها الصباحي الطازج، تتخاطف الأيدي الأكواب، تطوحها فى دوران الذاكرين دون أن تهتز، وقبس من التجلي يردها للأفواه المفغورة بـ: هوو. تذكى الأرواح كما فسر شيخي فى واحدة من شروحاته النادرة، والرجل وقد خلط حبوب القهوة بالحبهان و الزنجبيل يسويها فوق الجمر المضطرم، تذكيه نفثات من نسائم المرج لتعلو الرائحة وتدوم حولي، أنا الهائم فى يفاعتي على الحواف، ألتقط الأكواب الطائرة فارغة، بعد أن مسها لطف الوجد لا تريد أن تستقر، تهتز راقصة قبل أن تسكن مذعنة، وبسمات الشيخ تزيد من توتري، و الرجل يقول: مالك واقف.. اجلس.

أتخير حجرا قريبا أجلس عليه متسائلا عن حياة رجل عجوز ووحيد فى هذا الوادي، فبيت الشعر لم يفصح عن أي حياة أخرى هنا، أردت فتح فمي بالسؤال وأنا أرى يديه المدربتين تصحن الحبوب بنعومة لا يصدر عنها صوت لدق أو طحن، قال: أيهما أعجب… رجل وحيد بالوادي، أم شاب وحيد ضائع بين الوديان؟ لأول مرة أنتبه لنبرة صوته وقرارها العميق، يبدو أن الرائحة قد ضللتني عن أشياء عديدة، كان جانب وجهه المنهمك فيما يفعله يمنعني من معرفة ملامحه أو حتى التقاط نظرة عينه، ورغم إغماض عينه فى قلب الحضرة إلا أنها حاضرة تلتقط كل حركة بالمكان، حتى ارتباكي الذى يبادله ببسمات المطمئن، وحادي القهوة الملتاث يزيد من أوار الرائحة لتسخن الأبدان وتتوافق فى تمايلها وطيرانها.

وضع البكرج بقلب الجمر وراح يغلى القهوة كى تستوي، فبدا استوائي على الحجر مختلا لوقفة طافية على الأعراف، لا قدرة على الدخول ولا رغبة فى الابتعاد، ثغاء بعيد وشيخي يقول: رغبة برهبة، وجسارة القلب موطنها الحب. والعجوز يستدير نحوي قائلا: سياحة أم هوى؟ فانتبهت ليده التى تمد القهوة لى: تفضل. رفعت رأسي نحوه، فهالني الشبه بين وجهه ووجه شيخي البعيد، قلت لنفسي كى أبعد عنها أشباح التوهم: العجائز يتشابهون. فضحك الرجل ضحكة لينة وهو يقول: ذق.

والحنين يطيرني لبدايات قديمة وأصوات وأدوار وأوراد وأرواح ووجد يتقطر فتزبد الأفواه، وحادي القهوة يزيد العيار فى كل دور بإشارة غامضة من قلب الحضرة، ودكة قدم على الأرض تغير الإيقاع سخونة ولطفا، وحنان يتنزل صافيا، لتشق النار حلقي إثر رشفة فأصرخ بقولة: آآآآه.

قال العجوز: نسيت الطعم، أم افتقدت الحنان؟ رحت أستحلب حلقي ملطفا من الجمرة العالقة به ومتجاوزا معرفته الجارحة، قلت: كلاهما… الطعم والحنان.

أحمد أبوخنيجر



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى