علي حسين - القارئ الوجودي

شغلتني الفلسفة الوجودية منذ أن كنت طالبا في المرحلة المتوسطة ، عندما وجدت آنذاك صديقي الشاعر والباحث المتميز عادل عبد الله يقرأ في احد اجزاء رواية سارتر الشهيرة " دروب الحرية " واخذ يحدثني حينها عن التمرد والحرية واشياء لم اكن افهمها في ذلك الوقت ، ولهذا قررت ان اجمع كل الكتب التي تتحدث عن الوجودية والموجودة في المكتبة التي اعمل فيها ، ورغم ان المهمة كانت صعبة لصبي مثلي ، إلا ان الرغبة في منافسه صديقي العزيز عادل كانت دافعا لي لأن اقرأ كل ما كان يقع بيدي من كتب او مقالات عن الوجودية وفلاسفتها ، وبالتاكيد لم استوعب آنذاك الكثير من هذه الكتابات ، لانها محشوة بمصطلحات فلسفية كنت اسمع بها للمرة الاولى ، وتجمعت لدي مئات الكتب والدراسات عن هذه الفلسفة المثيرة ، وبعد سنوات سيطلق علي الصديق عادل عبد الله لقب " القارئ الوجودي " . جربت الكتابة عن فلاسفة الوجودية فنشرت موضوعات عن كيركغارد وسارتر وكامو وسيمون دي بوفوار وهايدغر وغيرهم ، وكان هدفي من هذه المقالات تبسيط مفاهيم هؤلاء الفلاسفة وتقديمهم الى القارئ العادي .. ولا اعرف هل نجحت ام ان محاولاتي مجرد شخبطة على الورق ؟ .. إلا ان المثير في متابعتي لفلاسفة الوجودية هي اكتشافي لسلوكيات البعض منهم وطريقة عيشهم اليومية اليومية ، ومن بين الاشياء التي اثارت اهتمامي علاقة سارتر بالنقود ، وقد وجدت صاحب " الوجود والعدم " يتمتع بكرم استثنائي ، ويتعامل مع النقود باعتبارها وسيلة وليست غاية . كانت مؤسسة غاليمار تدفع لسارتر مبلغا شهريا لقاء كتبه ، ورغم ان المبلغ كان ضخما في ذلك الوقت ، لكنه لا يصمد حتى نهاية الشهر ، فيذهب ليهمس في اذن امه انه بحاجة الى النقود التي سرعان ما يعيدها بعد استلام مبلغة الشهري .. يصفه سكرتيره بانه لم يكن يصرف المال بل كان ينثره ، يرفض ان يدفع احد حساب المقهى او المطعم ، يساعد الاصدقاء الذين كانوا يعرفون جيدا انه لن يطالبهم باستعادة ما اقترضوه ، لم يكن يتردد في مساعدة صديق محتاج لعلاج او تغطية نفقات رحلة او شراء كتب.. يقول سارتر في حوار معه : " أنا احصل على النقود لاوزعها .. كنت اشتري اشياء خاصة بي وخصوصا الكتب . لم اشعر قط بالحاجة لامتلاك بيت او شقة خاصة ، وحين اقول ذلك لا اظن ان هناك ادنى احساس بالذنب او الندم للطريقة التي انفق فيها النقود ، اعطيتها للآخرين لأني استطعت ذلك ، ولأن الناس الذين اهتم بهم كانوا يحتاجونها " وفي لفتة انسانية يضيف سارتر :" انا اريد أن اعطي قدر ما استطيع ، لاعتقادي بان الذين اعرفهم يجب ان يعيشوا بشكل جيد " .. ولو عرفنا حجم المبالغ التي كان ينفقها سارتر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، سندرك اهمية ما يقوله عن النقود .. يخبرنا انه ينفق خمسة الآف دولار شهريا .. وهذا المبلغ موزع على النحو التالي الف دولار مصاريفه الشخصية ومنها ايجار شقة فخمة بمبلغ 500 دولار ، والاربعة الآف الباقية يقدمها للمقربين منه لمساعدتهم على العيش بكرامة كما يقول في حواره مع ميشيل كونتا .. اما من اين ياتيه هذا المبلغ ؟ ، دار غاليمار تدفع له شهريا الفين من الولارات ، اضافة الى 2500 دولار تأتيه من حقوق مؤلفاته في دور النشر الاجنبية ، وهناك راتبه من التدريس والمحاضرات والذي يبلغ ما يقارب الـ " 500 " دولار " .. وهناك طبعا مبالغ كبيرة يحصل عليها من عقود المسرحيات والمقابلات.. وقد كانت هذه النقود تتبخر بسرعة حتى ان والدته اضطرت ان تعطيه ثلاثين الف دولار ليسدد الضرائب التي تراكمت عليه .. يقول سارتر انه لم يتعامل مع النقود لقيمتها كنقود ، ولم يستخدمها لشراء اسهم او سندات او اي شيء باق ودائم .. ما كان يهم سارتر بالدرجة الاولى هو طريقة حياته التي استمتع بها :" فانا اكون سعيدا دائما عندما اكتب .. احببت ما اقمت به من عمل ، فلماذا يفكر اي شخص باعطائي نقودا وانا استمتع بكل ما اقوم به ؟ ومع ذلك كانوا يفعلون " .
منذ ان وطئت قدماي وكالة الانباء العراقية ، عندما اختارني استاذنا معاذ عبد الرحيم للعمل والتدريب ايضا ، وكان عبد الرحيم آنذاك مدير للوكالة ومرورا بعملي في الكثير من الصحف ودائرة السينما والمسرح ، وكتابتي لعشرات المسلسلات الاذاعية ، وايضا عدد قليل من المسلسلات التلفزيونية والبرامج والكثير من المسرحيات التي حققت نجاحا ، والكتب التي صدرت لي في السنوات الاخيرة ، وانا اتقاضى مبالغ جيدة جدا ، حتى ان الكثير من الاصدقاء كانوا يتعجبون من قدرتي على العمل باكثر من مكان .. وربما يسخر مني البعض حين اقول ان النقود لم تكن تخطر ببالي وانا اعمل ، لكنها تاتيني طائعة لانني انجز عملي باتقان واخلاص . وعلى مدى سنوات عمري التي استقبل فيها غدا عاما جديدا ، انفقت الكثير من النقود ، وساعدت عشرات الاصدقاء البعض منهم اليوم يتولى مناصب مهمة ، والبعض سافر ، والبعض لا يزال عندما يراني يطمئن.. لم افكر يوما بشراء بيت او سبارة ، ولم اطمح لأن يكون لي حساب في مصرف .. وعندما قرر القاضي في واحدة من الدعوى التي اقامها ضدي السيد نوري المالكي ، الحجز على اموالي ضحكت عليه في سري ، لانه لن يجد عندي شيئا ليحجز عليه .. وحتى هذه اللحظة احصل على مبالغ جيدة ، لم افكر يوما باستثمارها سوى في شراء الكتب واسعاد المقربين مني وتلبية حاجاتهم .. واجد سعادة كبيرة حين احصل عى كتب جديدة ، واكون اكثر سعادة عندما البي حاجة صديق او قريب .. لماذا اكتب هذه الكلمات ، بالتاكيد لا اريد ان اقارن نفسي بسارتر ، ولا افكر بمثل هذه المواضيع ، ولكنني اطمح ان اصدر ذات يوم كتابا بعنوان " القارئ الوجودي " انتاول فيه تجربتي في قراءة الفلسفة الوجودية منذ أن قال سقراط اعرف نفسك وحتى اللحظة التي تحول فيها كولن ولسون إلى لامنتمي ..
أعلى