علي حسين - سارتر يتدثر بمعطف ماركس

وانا ابحث في مكتبتي وهي خليط متنوع بين الرواية والفلسفة وعلم النفس والاقتصاد والادب والاجتماع ، عثرت على كتاب قديم كنت قد قرأته قبل حوالي " 40 " عاما بعنوان " الوجودية ليست فلسفة انسانية " تاليف الفرنسي جان كانابا ، ترجمة محمد عيتاني ، وقد صدر بالعربية عام 1954 . وكنت قد تعرفت على كتابات جان كانابا من خلال كتابه الشهير " نصوص مختارة لانجلز " – ترجمه الى العربية نادر ذكرى – بعدها بسنوات ساقرأ له رواية بعنوان " غربان الزرع " ، وهي رواية قصيرة اشبه بسيناريو فيلم سينمائي ، تتحدث عن علاقة الفن بالمجتمع من وجهة نظر ماركسية .
كتاب كابانا " الوجودية ليست فلسفة انسانية " صدر بعد كتاب سارتر " الوجودية نزعة انسانية بثلاثة اعوام – صدر كتاب سارتر عام 1945 وصدر كتاب كانابا عام 1948 .
كان سارتر قد القى في بداية عام 1945 محاضرة بعنوان " الوجودية نزعة انسانية " ، سرعان ما اصبحت اشبه ببيان تأسيسي للوجودية الفرنسية التي كانت تتأسس في مقاهي سان جيرمان. كانت محاضرة سارتر حدثا ثقافيا لخص فيها ما يعرف بوجودية سارتر " الوجود يسبق الماهية " فالانسان متروك ليصوغ قيمه الخاصة ، وان هذه الحرية ستكون في حد ذاتها القيمة المطلقة التي يمكن ان يلجأ اليها المرء : " عند اختيار اي شيء على الاطلاق ، فأنني قبل كل شيء اختار الحرية " .عندما اعلن سارتر ان الوجودية نزعة انسانية ، كان يريد ان يؤكد انها تضع الانسان في مركز اهتماماتها . بعد اكثر من عام على محاضرت سارتر ينشر مارتن هايدغر مقاله الشهير " رسالة في النزعة الانسانية " ، والذي اعتبر اول رد فلسفي على كتاب سارتر " الوجودية نزعة انسانية " ، حيث انتقد هايدغر الفلسفة الانسانية التقليدية بسبب تعريفها للانسان باعتباره " حيوانا عاقلاً " أو " حيوانا ناطقا " ، فهايدغر يرى ان هذا المفهوم ينتقص من قيمة الانسان ويؤدي الى ظهور مجتمع صناعي يتعامل مع الانسان من خلال انتاجيته ، ويقيم كل القيم الانسانية من خلال نفعها الاجتماعي او الشخصي . ويرى هايدغر ان سارتر عاجز عن الهرب من هذا المفهوم التقليدي للانسان الذي تكمن عظمته حسب هايدغر في انفتاحه على الوجود ، وفي قدرته على الاحتفاظ بمكان في العالم ليمارس فيه " واقعية وجوده " .وهو الامر الذي ازعج سارتر ودفعه لان يكتب :" هايدغر بلا شخصية .. هذه هي حقيقة حاله " .
يكتب جان كابانا أن البرجوازية بعد موت البرغسونية – نسبة الى الفيلسوف الشهير هنري برغسون – وجدت جوادا جديدا لتمتطيه في حربها ضد الماركسية :" الذي يلزمهم الآن عدو لماركس يحظى بالشعبية والنفوذ " ، ثم يبدا كانابا بالهجوم على " جان فال" و " جابريل مارسيل " حيث يصفهما بالمهرجين ، ثم يوجه سهامه صوب سارتر فيقول :" وجاءت الحرب ، واعقبها الاحتلال ، وجاء عداءً ، بطل موهوب يحسن الدعاية ، فكان علينا ان نرى ما سوف نرى .. ورأينا ! فاحتلت البرجوازية أرفع موضع من الصرح الفلسفي في شارع البرجوازيين على الاقل ، وهاهم الوجوديون يخطرون دون خجل ، يلهون بالحديث في السياسة ونقد الماركسية في ضراوة . آه . ما اروع أداة الحرب هذه الجديدة ! انها رائعة عن بعد ، ولكنها عن قرب ليست سوى ورق هش ونوايا مريبة سرعان ما ستشرف على الموت " . .بعد ذلك يقول كانابا انه لا وجود إلا لنزعة انسانية واحدة هي التي تناضل في سبيل الانسان : " وليس ثمة نزعة انسانية إلا تلك التي تبني للانسان مستقبلا إنسانيا " . ويتساءل كانابا : اين نضال الوجودية ؟ متهما سارتر بانه يتقدم الى الانسان ويده خالية ، فهو على حد تعبير كانابا " ثوريي مقاهي " .
لم يكن جان كانابا وحده من تصدى للوجودية فقد كان المفكر الماركسي الشهير جورج لوكاش يؤمن ان الوجودية انما هي أعلى مظاهر الفلسفة البرجوازية .. ويذهب لوكاش الى ان الفلسفة الوجودية ستصبح التيار الروحي الغالب على المثقفين البرجوازيين ، ويرى لوكاش في كتابه ماركسية ام وجودية – ترجمه الى العربية جورج طرابيشي ان الوجودية ترسخت مع كتاب هايدغر " الوجود والزمان " ، لكنها على حد تعبير لوكاش شهدت انتصارا مظفرا منذ ظهور كتاب سارتر " الوجود والعدم " وايضا في المسرحيات التي كتبها سارتر وكامو ، ويرؤى لوكاش ان الوجودية تمثل " الطرف الثالث " بين الراسمالية والاشتراكية ، ولهذا فهي بلا ملامح واضحة ، وفي فصل بعنوان " سارتر ضد ماكس " يسخر لوكاش من ادعاءات سارتر من ان المادية مذهب ميتافيزيقي ، ويقول لوكاش ان من الصعب ان نجد " مفمكرا جليل بمكانة سارتر " يستخدم ضد الماركسية حجج لن تصمد امام النقاش الفلسفي الحقيقي . ويعلق سارتر على اراء لوكاش في كتاب بعنوان " ويعلق سارتر على ما كتبه لوكاش بالقول :" لقد كنا في آن واحد على قناعة بان المادية التاريخية تقدم التفسير الوحيد المقبول للتاريخ ، وان الوجودية تبقى الطريقة الوحيدة للاقتراب من الواقع اقترابا عينيا . انني لا ادعي نفي ما في هذا الموقف من تناقضات، ولكنني اثبت فقط ان لوكاش لا يعير هذا الموقف اي انتباه " .
في العام 1957 طلبت احدى المجلات من جان بول سارتر ان يكتب لها مقالا عن موقف الوجودية من الفلسفة الماركسية ، وبدلا من المقال كتب سارتر دراسة مطولة صدرت فيما بعد في كتاب بعنوان " الماركسية والوجودية " – ترجمه الى العربية جورج طرابيشي ، وقد حاول سارتر في دراسته هذه ان ينفي الادعاءات التي تقول ان الوجودية هدفها نسف الماركسية والحلول محلها ، يقول سارتر " ان كل فلسفة تبني نفسها من خلال ظروف محددة لتعطي حركة المجتمع العامة تعبيرها " .. ويؤكد ان تاريخ الفلسفة يضم ثلاث فترات فلاسفات كبيرة ، وهي فترة جان لوك وديكارت ، وفترة كانط هيغل ، واخيرا ماركس .. ويشير سارتر الى ان لقب فيلسوف ينحصر في هذه الاسماء ، اما شوبنهاور وبرغسون وكيركغارد وحتى سارتر نفسه ، فهم واضعوا عقائد ، مهمتهم تحسين الانظمة الفلسفية الاساسية ، ولا يصح ان نسميهم فلاسفة لانهم مهما هدموا وبنوا يضلون يستمدون افكارهم من " الفكر الحي للاموات الكبار " على حد تعبير سارتر ، وعلى هذا فان الوجودية ليست إلا عقيدة . انها " نظام طفيلي يعيش على هامش حصيلة المعرفة ، عارض في البداية الحصيلة ، وهو يحاول الاندماج فيها " – الماركسية والوجودية جان بول سارتر – ان سارتر يعترف ان المادية التاريخية تظل هي التفسير الوحيد للتاريخ ، لكنه يرى ان الماركسيين المتأخرين شوهوا الماركسية وجمدوها وابعدوا عنها الانسان واعتبروها مجرد صنم ، ولهذا فالوجودية ستقف بالضد منهم مثلما وقف كيركغارد ضد هيغل . ان الوجودية تريد ان تعيد الى الانسان ذاتيته ، وهي تعتبر نفسها بعد توقف عجلة الماركسية : " التقريب العيني الوحيد للواقع " .. ويذهب الى القول ان المثقف الماركسي لم يعد هدفه الوصول الى معلومات ومعارف ، بل تاسيس نفسه قبليا .. ولهذا يقول سارتر كان لا بد للوجودية ان تولد من جديد وان تثبت اقدامها ، لانها تعيد التاكيد على الواقع الانساني . ان الوجودية والماركسية تتطلعان الى نفس الموضوع ، لكن الماركسية " ذوبت الانسان في الفكرة ، في حين الوجودية تبحث عنه اينما وجد ، في عمله ، في بيته ، في الشارع " .وبسبب اصرار سارتر على جمود الماركسية فقد اتهم بان فلسفته دعوة للاستسلام ولليأس ، وانه متامل اكثر من كونه فيلسوف ، وان مايطرحه من افكار انما هي نوع من الكماليات التي تجعل من الوجودبة فلسفة برجوازية تعزل الانسان عن عالمه الاجتماعي وتحصره في وجوده الفردي ، فهي " فلسفة تقيم مذهبها على الذاتية الخالصة وعلى مقولة ديكارت الشهيرة " انا افكر ، اذن انا موجود" وهذه الذاتية هي التي يدركها الانسان في عزلته ووحدته" – جورج لوكاش ماركسية ام وجودية – ولم يكن لوكاش وحده من وجه سهام نقده الى الوجودية ، فقد كتب الماركس الفرنسي هنري لوفيفر يصف الوجودية بانها خليط مترهل وكئيب ، وفي كتيب صغير صدر عام 1946 بعنوان " هذه هي الماركسية " – ترجمه الى العربية محمد عيتاني – يقول ان الوجودية تؤدي الى الكثير من التفتح الذهني الخطير ، ويناقش لوفيفر مسالة الحرية ، حيث يقول سارتر ان الناس احرار، فيطلب لوفيفر منه أن يُعرف ما الذي يمثله رجل عليه الاختيار كل صباح بين الفاشية ومكافحة الفاشية . ماهي اذن هذه الحرية التي يتمسك بها سارتر ويرفضها فلاسفة الماركسية ؟ ، انها الحرية التي تشكل جوهر فلسفة سارتر ..ان حريتي مطلقة لأنه ليس هناك من صانع يحدد ماهيتي سلفا . أن ماهية الانسان غير مكتوبة في أي مكان ، فالانسان هو الذي يكتب ما يريد ان يكونه ، وهذه الحرية لا يحددها اي عائق خارجي . أن توجد هو ان تكون حرا " فنحن لسنا احرارا بان نتوقف عن ان نكون أحرارا " – سارتر الوجودية مذهب انساني – ترجمة كمال الحاج – في المناقشات حول كتاب " الوجودية فلسفة انسانية " يتطرق سارتر الى كارل ماركس الذي يصفه بانه فيلسوف شعبي :" ان الفلسفة اليوم نزلت الى السوق واختلطت بالجماهير . الم ينزل ماركس فلسفته الى مستوى شعبي جدا وكتابه البيان الشيوعي ليس إلا تبسيطا شعبيا لافكاره الفلسفية " .. ويرد على سؤال حول النظرية الماركسية وعلاقتها بالثورة قائلا :" من الصعب ان نقول ان ماركس اختار ان يكون ثوريا في البدء ثم فيلسوفا ، او أن نقول انه اختار ان يكون فيلسوفا ثم ثوريا . انه فيلسوف وثوري . حاول سارتر عام 1948 ان يتقرب من الفكر الاشتراكي فانضم الى حزب صغير اسمه " حزب التجمع الديمقراطي الثوري " وهو حزب يدعو الى اشتراكية غير منحازة للانظمة السياسية ، وفي نفس العام عرضت مسرحيته الشهيرة "الايدي القذرة " ، وهي المسرحية التي جلبت له مشكلة مع الحزب الشيوعي الفرنسي ، الذي كان اثناء الحرب العالمية الثانية مقربا منه ..المسرحية تدور أحداثها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في بلد اخترع له سارتر اسم " إليريا " يحكمه نظام شيوعي ، وفيه نشاهد الشاب " هوغو " ينتمي الى الحزب الحاكم لإيمانه بمبادئه ، وتشاء قيادة الحزب التخلص من الزعيم بعد اتهامه بـ " الانحراف " الايديولوجي ، فتختار "هوغو " للقيام بالمهمة، فيقوم باغتيال الزعيم " هوديرر" ، ويعاقب بالسجن المخفف ، لكنه بعد خروجه من السجن يكتشف أن الحزب قد برأ الزعيم المقتولَ وأعاد له اعتباره، ويتبين له أن ما قام به من اغتيال لم يكن عملا ثوريا بل كان " تنفيذا لتعليمات " ، وفي النهاية يجد نفسه مطالبا بين أن يجعل من سبب جريمته الدفاعَ عن الشرف فيبقى في الحزب، وأن يتمسك بإثبات تهمة الاغتيال على نفسه ، فيتمسك بتهمة الاغتيال ليحكم عليه بالموت..هاجمت الاحزاب الشيوعية في اوربا وبلدان العالم الاشتراكي مسرحية سارتر واتهمت كاتبها بالانحياز الى الراسمالية ، وسيصف الحزب الشيوعي السوفيتي سارترا بانه " ضبع يكتب بقلم حبر " .
كان سارتر قد كتب في " الوجودية فلسفة انسانية " ان الاتهام الذي يوجه لفلاسفة الوجودية هو انهم يبرزوا الجانب السيء في الطبيعة الانسانية ، ولهذا هو يسخر من الذين يروجون ان القبح والوجودية شيء واحد :" تتعلق الوجودية بطبيعة انسانية ، تؤمن بالحرية كفاعل اساسي في الحياة " .
بعد صدور " الوجودية فلسفة انسانية " بعام واحد ، وبالضبط في صيف عام 1946 نشر سارتر في مجلة الازمنة الحديثة مقالا مطولا بعنوان " المادية والثورة " – صدر بالعربية ضمن سلسلة مواقف ترجمة عبد الفتاح الديدي – يكتب في مقدمة المقال ان هذا المقال لا يتعلق بنقد ماركس ، وانما هو موجه للماركسية اللاهوتية كما يسميها ، وهو موجه بشكل خاص الى ماركس من خلال الماركسية الستالينية يقول فيه " "إن المادية وهي نوع من المذهبية عندما تؤكد أن الكون يولد الفكر ما تلبث أن تتحول إلى الريبية المثالية، لأنها تضفي على العقل بإحدى يديها حقوقاً لا حدود لها، وتنزع عنه باليد الأخرى كل هذه الحقوق".
كان سارتر يعاني من انتمائه للطبقة البرجوازية رغم ان هذه الطبقة علمته معنى الحريات السياسية، والحصانة الفردية، وسلطة الذات، ، فقد كان يشعر بانه اقرب الى طبقة البروليتاريا، يقول: "نحن ما زلنا بورجوازيين بثقافتنا، بطريقتنا في الحياة، وبجمهورنا الحالي، لكن الموقف التاريخي يحثنا في الوقت نفسه على الانضمام إلى البروليتاريا لبناء مجتمع بلا طبقات". غير أنه وفي خضم غرامه بالبروليتاريا كان يسخر من جمود من الماديين حيث يجد في مواقفهم تناقضاً صارخاً: "ولقد شاهدت أناساً ينقلبون إلى المادية ويدخلونها كما لو كانوا يدخلون ديناً من ديانات الله. وما يفعلونه هنا ليس إلاّ الذاتية التي يستحون منها".كان سارتر يرفض الربط الحتمي بين الدعوة إلى تحرير الطبقة العاملة والمادية "أنا أعلم أن لا خلاص للإنسان إلاّ بتحرير الطبقة العاملة. وأنا أعلم هذا دون ما داعِ لأن أكون مادياً، ومن مجرد استقصاء الواقع. وأعلم أن من صالح الفكر أن يكون مع البروليتاريا: لكن هل يستوجب مني ذلك أن أطلب من تفكيري الذي قادني إلى اكتشاف هذه النتيجة أن يحطم نفسه". أي أن يلغي استقلاليته وموقفه النقدي.
في كتابها " انا وسارتر والحياة – ترجمته الى العربية عائدة مطرجي ادريس - تخبرنا سيمون دي بوفوار انها قلقت من قرب سارتر من الشيوعيين . وتمنت أن لا يؤدي ذلك الى تنازلت ..كان سارتر قد طلب من سيمون دي بوفوار ان تتقرب من الحزب الشيوعي الفرنسي ، الأمر الذي دفع ميرلوبوني الى وصف سارتر بـ " بولشفيكي متطرف " .في تلك السنوات كان سارتر يعمل في كتابه " الشيوعيون والسلام " ، وتقول دي بوفوار انها كانت تسمع منه جملا من عينة ان الكتابة عبث في عالم يعاني فيه الناس من الجوع ، وفي عالم ينتشر فيه الظلم في كل مكان .لم يعد يقرأ الروايات التي تستمتع بوفار بقراءتها، ولم يعد مهتما بالجمل الانيقة . كان مقتنعا بالمواضيع السياسيبة وليست الادبية ..كان يقرأ بنهم ، وكل ما يقرأه يدور حول الماركسية .
ومن المفارقات أن سارتر توصل إلى الاعتقاد بأن الجماعية الماركسية هي وحدها القادرة على تحقيق "أصالة" وحرية رؤيته الوجودية ، وكان يقول أن "اشتراكية الوفرة" فقط هي التي يمكنها أن تفعل ذلك ، كان سارتر يريد ان يدمج بين الحرية الفردية والثورة ، فما فائدة النضال وانت تعمل في مصنع ولا يكون لديك أي وقت لتكون أصيلًا أو حرا.
كان سارتر يقول انه يريد "استعادة الإنسان داخل الماركسية". أي اكتشاف الإنسان داخل ماركس. من المثير للاهتمام أن العديد من الأشخاص فعلوا ذلك في الستينيات وبعدها وخصوصا هربرت ماركيز والتوسير وروجيه غارودي من خلال التركيز على "أعمال ماركس المبكرة" - أي الأشياء التي كانت موجودة قبل صدور البيان الشيوعي ، ومن أجل تحقيق هذه المهمة المتمثلة في اكتشاف الإنسان في ماركس ، احتاج سارتر إلى التركيز على كتابات ماركس من دون انجلز وربطه بالفكرة الوجودية عن الحرية الفردية والمسؤولية والاستقلالية والأصالة ، وهو ما كان ينتقده لوكاش حيث يقول ان سارتر مثل كل الفلاسفة الفرنسيين يشرب من هيغل فقط .
يقول سارتر في حوار اجراه معه ميشيل كونتا في سنواته الاخيرة وصدر في كتاب بعنوان " صورة شخصية في السبعين " – ترجمه الى العربية احمد عمر شاهين – ان علاقته بالشيوعيين تعمقت عام 1952 واستمر قريبا منهم ما يقارب الاربعة سنوات ، لكنه يعترف ان افكاره لم تكن مثل افكارهم " كانوا يعرفون ذلك ، كانو يستغلونني دون ان يتورطوا بشدة ، وكانوا يشكون انه لو حدث شيء ما فربما اتركهم ، وهذا ما فعلت .. لانني بقيت على اقتناع بانه خلال سنوات الحرب الباردة تلك كان الشيوعيون على حق . ان الاتحاد السوفيتي – برغم كل الاخطاء التي نعرف انه ارتكيهاقد ظُلم . لم يكن في موقف يسمح له بدخول حرب ضد امريكا ، لذا فقد اراد السلام . ولذلك ايدنا الشيوعيين لأن اعتراضاتهم ضد امريكا كانت هي اعتراضاتنا نفسها" ، إلا ان سارتر يصر على ان المثقف ليست مهمته ان يشكل جماعات سياسية ، ويتذكر سارتر انه في صباه وجد نفس يواجه فكرا لم يكن يفهمه جيدا ولا يعلم عنه إلا القليل :" قرأت راس المال ، قرأته دون فهم ، بمعنى اني لم اتغير بقراءته – واصبح هذا الفكر مؤرقا لي ، شيء شيطاني ، .. وشعرت ان الماركسية تتحداني ، لانها فكر يحمله بعض الاصدقاء ، وانها كانت تفسد صداقتنا . وعلى الاقل ، ظلت الماركسية حتى الحرب تزعجني وتؤذيني ، تبين لي اني لن اعرف كل شيء ، وانا بعيد عنها ، وعليّ ان اتعلم ، ولم اكن استطع تدبر امر هذا التعلم . وقمت ذات مرة بقراءة بعض كتب ماركس او عنه ، ولكن لم استطع تذكرها ، ولم افهم ماذا تعني " . لكنه اثناء الحرب العالمية الثانية وفي ظل الاحتلال النازي وجد نفسه عضوا في مجموعة للمقاومة كانت تضم بعض الشيوعيين ، آنذاك بدت له الماركسية نوعا من القوة . ثم بعد الحرب اراد ان يصدر كتابا عن " الاخلاق " لكن الكراسات فقدت ، وكانت بمثابة نقاش حول الماركسية .. تعترف سيمون دي بوفوار في مذكراتها ان سارتر بعد الحرب العالمية الثانية اخذ اهتمامه يتزايد بالحركات الاشتراكية وفي عام 1956 يكتب ان المهمة الكبرى للمثقفين محصورة في تحديد موقفهم من الماركسية :" الماركسية بالنسبة لنا لم تكن مجرد فلسفة . انها كانت الطقس لافكارنا ، والوسط الذي نتغذى منه . كانت تمثل الحركة الحقيقية لما كان يسميه هيغل بالروح الموضوعية " .وفي جداله الشهير مع روجيه غارودي حول الديالكتيل – نشره غارودي في كتاابه نظرات حول الانسان ترجمه يحيى هويدي – يقول سارتر الماركسية تمثل حركة الانسان في طريق بناء نفسه ، لكن هذا لم يمنعه ان يقول لغارودي انه يفضل ان يوصف بالوجودي وليس الماركسي :" لقد كنا مقتنعين ان المادية التاريخية تمدنا بالتفسير الوحيد للتاريخ ، وان الوجودية ظلت تمثل المعالجة الواقعية للواقع .. وانا لا ازعم اني انكر التناقض الذي يتضمنه هذا الموقف " ويذهب الى القول ان ان مهمة الوجودية هي ان تطور طريقة في التفكير تاخذ الماركسية في الاعتبار كي تتجاوزها ، فسارتر يعلن انه يرفض الماركسية ليقيمها ثانية ويتشرب بها:" ذلك هو شرط الوصول الى اشتراكية حقيقية " .. وفي رسالة يوجهها لغارودي يعترف سارتر ان الماركسية والوجودية تنبعان من مصدر واحد :" لكننا تقدمنا عليكم .. لاننا نهتم بالبشر ..واخشى ان تكونوا قد نستموهم " .
يصر سارتر ان الوجودية هي فلسفة الانسان ، والالتزام بقضاياه والدفاع عنها ، يقول لميشيل كونتا وهو يشكو من ضعف اليصر وارتفاع ضغط الدم وامراض الشيخوخة :" حينما افكر في افعال الفرد الاجتماعية ، اميل إلى الاعتقاد بان الانسان قد انتهى . ولكن حين اضع في الاعتبار الشروط الضرورية لوجود الانسان ، اقول لنفسي أن الشيء الوحيد الذي يجب ان اشير اليه واوضحه وأؤكده وأؤيده بكل قوتي ، هو أي موقف اجتماعي وسياسي معين يمكنه أن يؤدي إلى اقامة مجتمع من الأحرار ، وإذا لم يفعل المرء ذلك ، يكون ، في النتيجة النهائية ، موافقا على إن الانسان ما هو إلا قطعة من الخراء " .
أعلى