عبدالله البقالي - الحب و الحلم

الى صديق رداد ثانية


لم اتساءل يوما أيهما كان السباق عن الآخر. ليس لأني لم اكن قد بلغت مرحلة التعامل مع الأفكار في بعدها المجرد، و إنما لأني عشتهما كحياة تدحرجت فيها داخل ممرات دون ان تكون لدي أي فكرة عن البوابات التي ستنفتح عليها. و لذلك وجدت نفسي كجسم عائم، تتداول الامواج على حمله. تخفض به موجة لتسمق بها أخرى. و تطوح به موجة لتتلقفه موجة. و بين وضع و آخر، كانت أفكار تتجلى. و رؤية تتسع لتتقلص مساحات القصور، و تتمدد سماء الاحلام على إيقاع تراجعها.
لم يكن الحلم حلما، او صرحا سحريا تهيكل بنيانه العقد المطلسمة التي قد تجود الصدف لوحدها بتعويذة تمكن من تفكيك أسراره. بل كان الحلم مفرا و ملاذا تلوذ به تطلعات أفتقدت الى سند يمكنها من فرض نفسها كمطلب يحقق الانتماء الفعلي للحياة، و فق ما يجب أن تكون دون استصغار أو استكثار.و دعامة تعمده في دنيا دروبها مكتظة بالضواري التي جعلت سماءها حكرا على الكواسر التي اعتمدت الوأد وسيلة للحياة. في حين لم اكن انشد غير هطول يقلص مساحات التصحر الزاحف على تخوم الروح. و لهذا لم يكن لهمسي أن يتردد صداه بين موجات الزئير المتعالي من كل صوب.
لقد كنت الفتى البدوي الواقف على بعد يسير من عصور الاقتتال و الفتن، و دهور السيبة التي تركت في وجدان الناس كل أنواع الندوب و الاعطاب. الناس الذين تسمروا خلف بوابات حصونهم ينظرون عبر ثقوب إلى عالم هجره السلام. و غطى مسامعهم صملاخ سميك حال بينها و بين التقاط الأصوات الحالمة للحياة. و لذا لم يكن هناك مجال لحديث غير حكايات الخبز و الدم. وضع كان يدفع بي إلى ركن خلفي أقف فيه وحدي، أنظر من خلال ثقب يخصني إلى عالم لا ينكشف إلا حين تتعطل فعالية الحواس. أنذاك أتمكن من التسلل إلى عالم يعوضني عما افتقدته داخل الحياة المشتركة مع الناس.
لكن ذلك لم يكن مجديا او على الاقل موفقا، ذلك ان التفاوت بين الحالتين كان يجعلني عاجزا أحيانا عن قراءة أسماء الدروب و سمات المباح و علامات الممنوع. و تنامى لدي جهل في كون الناس لا يزخفون في الحياة على قدر من التساوي. و لا يعيشون نفس الاقدار و الحظوظ. وهو ما عمق الفارق بيني وبين الحياة. و أفهمني متأخرا أن الحب على سبيل المثال هو نيزك حياته في وجوده طليقا في سماء اللامنتهى. محكوم وإلى الأبد في أن يظل في حدود و عمر محدد. و ان أي محاولة له في معانقة فضاء كوكب ما، يكون مصيره الإحتراق.
لم تكن أحلامي تغازل المستحيل للحد الذي قد تدفع بي إلى التبرئ منها في حال انكشاف أمرها كي لا أتهم بالخبل. لكني في الوقت نفسه كنت أبجث لها عن ما يجعلني أتشبث بها و أقتنع بمشروعيتها. و لهذا كنت أحاول ان اشق لها طريقا يجعلها على علاقة بالحقيقة. و لم يكن هناك أقرب لنفسي من جدتي التي كنت انجح من خلالها من استدعاء أطياف أحلامي ليتردد صداها داخل حياة الممكن. و لا أستطيع أن أجزم الآن بشأن تفاعل جدتي مع حكاياتي. و لا ما الذي كانت تجده مهما فيها. هل كانت فقط في حاجة إلى من يتحدث إليها بعد ان هجرها العالم؟ و قبل ذلك، من منا كان الأكثر حاجة إلى الآخر؟ لقد كانت نكبة بعد عز. و كنت الضحية المقبل على مقلب.
هي كانت قابعة في ركن المنبوذ بعد أن أضاعت ميراثها في لحظة غفلة. مؤاخذة بذنب لم تجد بصدده أي شفاعة. مطوقة بكل أشكال المؤاخذات القاسية من قبل فلذات كبدها، لحد لم يكن مسموح لها أن يتردد صدى لصوتها. و انا كنت أبحث لكائناتي عن تخم يتجاوز حدود خيالي و التحرك في فضاء الممكن. كانت في حاجة إلى من يتحدث إليها، و كنت في حاجة إلى من يصغي إلي. و من ثم امتلكت أول شحنة مكنتني من ان اوقع أول كسر على قشرة البيضة.
بمنتهى الوثوق حدثتها عن حياة لم أعشها، و لا أعرف عنها أي شئ. لكن الإثارة كانت في استقبالها لحكاياتي . لم تتهكم ، و لم تشك لحظة في إمكانيتها من عدمها. لكن ذلك ايضا كان يثيرني. منطق ماكنت أنسبه لنفسي لم يكن ينطبق علي. لا الصورة و لا الشكل و لا الانتماء. لكنها كانت تتلقف كل ما كنت افضي به إليها. فهل كانت تنظر إلي من شرفة نكباتها التي كانت تفيد أن الاحلام هي كل ما يتبقى حين يجرد الإنسان من كل شئ؟
كان ذلك الحد الأبعد الذي يصل إليه مد أحلامي. و هي بذلك كانت شبيهة بالأرواح المجردة التي تنتظر حصول تخصيب ما يسمح لها بفتح الغطاء الذي يفصلها عن الوجود الحقيقي.
لكن في حالتي ، لم تكن أحلامي في المجرد الصرف. بل كانت اميرة احلامي تتحرك أمامي . و أستطيع رؤيتها متى شئت. لكن مشاعري و قدري الاجتماعي هو ما كان يقبع في الوجهة الأخرى من الحياة. اشياء أدركتها بعد أن انتسبت للمدرسة. و هي المرة الأولى التي رأيت فيها نفسي في عيون الآخرين. و أدركت على الفور أن أشياء كثيرة تنقصني. استنتاج دفع بي إلى نكوص و تحصن بعيدا عن الواجهة. لكن الروح لم تكن تعاني من تلك العاهة. و لكونها طليقة و متحررة من اتخاذ أي شكل او هيئة تحشرها داخل تصنيف ما، فقد أوكلت إليها صنع التوازن المفقود حتى و إن كان النجاح في النهاية ليس سوى انتزاع اعتراف الآخرين. وهو امر لم يكن يحظى لدي باعتبار ما دمت كنت أستطيع الاكتفاء بالتحدث لنفسي حين كنت أرغب في الكلام. لكن ذلك كان قاسيا و اختلط علي الأمر و لم اعرف ما أن كنت الروح هي التي تمتلك قدرة ترويض الجسد ام العكس. التباس كلفني الكثير.
لم أكن بارعا في شئ مثل براعتي في ضبط التموقع داخل المسافات التي تفصلني عنها. و صرت كجرم يعي ان حياته كامنة في الفاصل الذي يبعده عن ثقب. مكتفيا بما كنت أعتقد أنه يصلني منها. مستعرضا على الدوام تشكيلاتها التي كانت تزرع الحياة من حولها. رفرفة فراشة. قوام أميرة. وجه ملاك. و حضور مغناطيسي يوحد اتجاه الأبصار إلى حين انصراف موكب عبورها.
الكبار أيضا كان يختفون بحضورها. و الأساتذة لم يكونوا ليفرقوا بينها و بين مزهرية حوت كل انواع الأزهار و الورود الفواحة. وجميعهم على الدوام كانوا يختارون لها مقعدا هو الأقرب إليهم للاستمتاع برونق حضورها. بينما كنت أنا على الدوام الجرم الأبعد من موقع الشمس و المفتقد دوما للنور و الدفء.. و بالرغم من ذلك كانت حواسي تبطل مفعول المسافات و لم اشعر ابدا اني بذلك البعد. بل كنت استطيع ان اتباع كل ما كان يشغلها.
أذكر ان المدرس مرة استدعاها للمثول امامه. وهو أمر عادة ما يكون مشحونا و رهيبا حين يتعلق بالآخرين. فمزاجه يكون عادة في أسوء حالاته. تفصح عن ذلك النظرات الرهيبة و النبرة المليئة بالغضب و الترهيب. لكن في حالتها كان الأمر مختلفا. نبرات صوت المدرس كانت تفصح عن أريحية و مزاج رائق جدا لحد ان نبرات صوته كانت تتحرك على أدراج سلم خال من القفزات و الانتقالات الفجائية. أفهمها المدرس أن ما قامت به كان يستوجب عقابا. لم تتوسل إليه. أحنت رأسها و لاذت بالصمت. اقترح عليها المدرس ان تبحث عن متطوع ينال العقاب بدلا عنها. لم تحرك ساكنا. تولى المدرس بنفسه البحث عن ذلك المتطوع. متأكدا أن لا أحد سيقبل بهذا التطوع المكلف، و بالتالي سيمضي إلى آخر لعبته كما توقعها.
أدرك أ ن جل البؤساء أمثالي كانوا مستعدين لهذا التطوع. وهو ما لم يدركه المدرس، إلا انهم وعوا في الوقت نفسه أن المردس لا يرغب في ان يفسد احد لعبته، وبالتالي فحصول ذلك قد يدفع الى عقاب حقيقي. لكن هل كانت قوى عقلي معطلة أم امتلكتني روح التحدي، و ان تلك كانت فرصتي الوحيدة لأعبر عن ما كان ينبض به قلبي؟
أتساءل ما الذي كان في غير أوانه، السؤال أم الجواب. و ضع لم أره بوضوح إلا حين سحب المدرس كرسيه بسرعة و انفعال شديد و انتصب واقفا كالمارد وهو يتجه نحوي كإعصار مدمر، و عيناه تنطقان بكل انواع التحقير و النذر و الوعيد. و على ايقاع غضبه الشديد تلونت نظرات الآخرين و صاروا كمجموعة من ملائكة اكتشفت متأخرة أن شيطانا لعينا كان متنكرا وسط حشدهم.
كان المدرس يطرح السؤال تلو السؤال بينما بدوت منفصلا كليا عن المشهد و كأن غلافا سميكا غير مرئي لفني و لم يعد يصلني من العالم أي شئ.و أدركت على الفور أني وصلت في الزمن الخطأ إلى المكان الخطأ داخل حياة الخطأ. و أن من يكشف كنهه الغائر، يكون اول من تغرب عنه الشمس.
.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى