د. ابراهيم عبدالمعطي - أستاذي الدكتور محمود فهمي حجازي

حين يختطف الموت إنسانا قريبا من نفسي، أكون كمن انتزعت قطعة من جسده، فيحدث اختلال في التوازن لفترة من الزمن. هناك أشخاص تطمئن لوجودهم في الحياة حتى لو كانت اللقاءات والاتصالات بينكما على فترات متباعدة تفرضها ظروف قدرية خارجة عن إرادة الإنسان، ومن هؤلاء الأشخاص أستاذي الدكتور محمود فهمي حجازي أستاذ علم اللغة في جامعة القاهرة، وصاحب الفضل في تشكيل الوعي اللغوي لدى كثير من تلاميذه، ليس في مصر والوطن العربي فحسب، وإنما في أنحاء مختلفة من الكرة الأرضية. عانى من المرض الشديد لمدة تزيد على العام، لكنه ظل صابرا متحملا الألم، إلى أن أراد الله أن يرحل عن دنيانا يوم الأربعاء 11 ديسمبر 2019، تاركا وراءه مؤلفاته وما زرعه من علم في نفوس تلاميذه المحبين له.

كان العام نفسه 2019 قد حمل في بدايته خبرا سعيدا، عندما أُعلن تتويجه بجائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية، لتزدان الجائزة بهذا العالم الجليل الذي خدم وطنه على مدار سنوات طويلة، مثقفا بارزا، وأستاذا مرموقا في كلية الآداب - جامعة القاهرة، وأول رئيس للهيئة العامة لدار الكتب القومية بعد فصلها عن الهيئة العامة للكتاب، وواضع خطة النهوض بها، كما تولى تأسيس ورئاسة الجامعة الإسلامية في كازاخستان، وقد وقع اختياره لهذه المهمة باتفاق من الجانبين المصري والكازاخستاني.

التقيت أستاذي لأول مرة في السنة التمهيدية للماجستير في قسم اللغة العربية بكلية الآداب - جامعة القاهرة. تعلمت على يديه المنهج العلمي، وظلت كلماته راسخة في ذهني تتردد أمامي عند كتابة مقال أو بحث علمي. في السنة التمهيدية للماجستير، درست على يديه كتابه «الأسس اللغوية لعلم المصطلح»، فكان هذا الكتاب فتحا، وأعادني إلى الشغف بالعلوم التطبيقية، عندما اخترت القسم العلمي في المرحلة الثانوية. وعندما علم برغبتي في إعداد رسالتي للماجستير عن المصطلحات العلمية في بعض كتب التراث العربي، سألني ثلاث مرات: هل لديك إرادة؟ فأجبته ثلاثا: لدي إرادة، ثم قال لي: ستتعلم اللغة اليونانية القديمة، فهل أنت مستعد؟ وكان ردي بالإيجاب. وعندما لمس إصراري على السير في هذا المجال، نصحني بدراسة كتاب «مفاتيح العلوم» للخوارزمي الكاتب، وبالفعل كان هذا الكتاب موضوع رسالتي للماجستير. ولظروف اكتمال عدد الطلاب الذين يشرف على رسائلهم للماجستير، انتقل الإشراف إلى العالم الموسوعي الدكتور حسين نصار الذي حصل - أيضا- على جائزة الملك فيصل العالمية من قبل، وطلب الدكتور حسين - رحمه الله- أن يشاركه الإشراف الدكتور محمد حمدي إبراهيم أستاذ اللغة اليونانية وآدابها عميد الكلية في ذلك الوقت، ثم نائب رئيس جامعة القاهرة فيما بعد، فكانت الاستفادة عظيمة. ثم استكملت تخصصي في «علم المصطلح» في مرحلة الدكتوراه على يدي أستاذتي الدكتورة وفاء كامل أول امرأة تنال عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ولهذا، فأنا محظوظ؛ لأنني تتلمذت - بشكل مباشر- على يد أربعة من أبرز الأساتذة والعلماء في الوطن العربي، جزاهم الله جميعا عني الخير كله.

أستاذي الدكتور محمود فهمي حجازي، وجه تعلوه البشاشة، قامة مرتفعة فيها شموخ، شخصية راقية تحمل ملامح الأرستقراطية لكنه مصري أصيل، لديه اعتزاز بالنفس يخلو من التكبر، روح طيبة تتسم بالتواضع، بسيط في التعامل مع تلاميذه بساطة لا تنزع هيبته من القلوب، وإنما ترفع قدره في نفوسهم، يصحبهم ويفتح لهم بيته، ويطرقون بابه في أي وقت عندما يحتاجون إليه. يتدفق العلم على لسانه في جمل مرتبة خالية من الغموض، تسأله فتجد الإجابة حاضرة تزيل حيرة الباحث. كتبه من أفضل الكتب في مجال علم اللغة، وهي من الكتب الأساسية التي لا يستغني عنها باحث في الدراسات اللغوية في اللغة العربية أو اللغات الأجنبية، وكتابته تتألف من جمل تنساب عبر السطور دون نقص أو استطراد، مع إحاطة بموضوع الكتاب من جميع الجوانب.

ترك أستاذي مجموعة من المؤلفات المهمة، منها: اللغة العربية عبر القرون، وعلم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة، وعلم اللغة العربية: مدخل تاريخي مقارن في ضوء التراث واللغات السامية، ومدخل إلى علم اللغة، وأصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي، والأسس اللغوية لعلم المصطلح، والبحث اللغوي.

ـ رحم الله أستاذنا الدكتور محمود فهمي حجازي، ونفعنا بعلمه، وبعلم جميع أساتذتنا الذين يمثلون النور الذي نستضيء به في حياتنا.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى