مى سلامة - الروح الخالدة..

استيقظت مبكرًا كعادتى، أوقظ طفلى الحبيب، وأحضر له الفطور، كيوم طبيعى، أذهب به لإيصاله إلى المدرسة، لكن يختلف هذا اليوم عن غيره فى روتينه، فبدلًا من أن أذهب إلى عملى سأذهب إلى المشفى لأخذ نتائج تحاليلى، وبالفعل ذهبت ثم عدت لأخذ ابنى بعد انتهائه من يومه المدرسى وأعود به إلى البيت، وأحضّر له الغداء، وأقضى معه فروضه الدراسية، وفى نهاية الليل أحمله على كتفى، وأذهب به إلى سريره الصغير، أغطيه، ولكن ليس كالعادة قرّرت أن أبقى معه قليلًا لكنه يرفض كأغلب الأيام، اقتناعًا منه أنه لا يخاف، وأنه كبير، وأنه ليس فتاة مدللة تحتاج إلى قصة قبل النوم، لكن هذه المرة أصرّرت على البقاء.

قال ببراءة هذا الطفل الذَّى لم يتعدَّ السنوات السبع من عمره "ماذا بكى أمى؟ هل أنتى خائفة من الأشباح؟
قلت له: لا حبيبى، فلماذا أخافها؟ فإن الأشباح أرواح مثلنا فلن تؤذينا أبدًا".

قال ثانيتا: فلماذا إذن لا نراها إذا كانت مثلنا؟

قلت "حبيبى , إن الأشباح هم إناس ماتوا , ذهبوا عند ربهم لكن عندما يشتاقون لنا يأتون لرؤيتنا وليس لدينا القدرة لنراهم".

قال الصغير "حسنًا، فأبى شبح يا أمى؟".

قلت وأنا أدمع "نعم حبيبى، أبوك شبح، أبوك روح تطير حولك عندما تشتاق "

قال بحماس، "لكن أنا أريد أن أراه، فأنا أيضًا أشتاق إليه".

قلت له "ستراه وسأراه أنا قبلك وأعدك أن نأتى لك فى الحُلم.. نام الآن صغيرى".

قبّلته على جبينه وتركت الأحلام تأخذه وذهبت إلى غرفتى ونمت.

ومرّت أسابيع تدور فى دائرة الحياة، بذات الأفعال والأشياء، لكن شيئًا واحدًا فقط هو الذى كان يتغير ويتطوّر كل يوم، ذلك المرض الخبيث الذى يأكل فى جسدى يومًا بعد يوم، تدهورت صحتى وعمرى لم يتبقَّ منه سوى القليل، فأردت أن أجلس معه , فأنا قادرة على تبسيط الأمور لصغيرى، فجلبته وأخذته بين أحضانى، جالسًا على أرجلى، وقلت "حبيبى، أمك لديها مرض يدعى بالسرطان، هذا المرض يقتل، وهذا يعنى أنى سأرحل عن دنياك".

قال "لا أمى، سأعطيك الدواء الآن لتشفى ولن تموتى"، وترك أحضانها سريعًا وذهب ليحضر دواءه وفتحه وجلب المعلقة ووضع فيها المشروب ووجّهه إلى فمّها، وقال "هيا أمى افتحى فمكِ لتأخذى الدواء وتشفى".

وأنا صامتة أشاهده وأبكى ثم قلت وأنا آخذ من يديه الدواء "حبيبى، هذا المرض ليس له دواء".

قال: "حسنًا, أرينى أين هو ذالك المرض فى جسدك؟ أين يصيبكِ الوجع؟
فأشرت إلى رأسى وأنا ما زلت أبكى، فأخذ يضرب بيده على رأسى بقوة، ويقول "ارحل عنها أيها المرض وإلا سأقتلك".
حاولت أن أمنعه عن فعل ذلك، لكنه منع يدى واستمر فى الضرب، ويقول "هذه أمى، ألا تفهم أيها المرض الغبى، لماذا تعذّبها؟ انت سيئ"..

لكنه فجأة انهار باكيًا فى أحضانى وانهرت أنا معه.

ومرّت أيام وتحسّنت حالت حبيبى بعد أن أقنعته بأنى دائمًا سأكون معه، بجواره، سيشعر بى فى كل مكان يذهب، وسآتى له فى الحلم، لكن لم تتحسّن صحتى مثله، بل تدهورت أكثر حتى اضطررت أن أُحجز فى المشفى وذهب طفلى الحبيب ليعيش مع عمّته وبدأت أشعر كأننى أذهب، كأننى أرحل نهائيًّا بلا رجعة، كيف سيقولون له إنى رحلت؟ كيف سيتقبّل الأمر؟ عاجزة أنا أمام تلك الأسئلة وأنا على فراش الموت، لكنى تذكّرت.. فكيف سينسانى وأنا الروح الخالدة فى قلبه!!

وبهذا هدأت وأغلقت عينى وذهبت..

وبعد مرور فترة على وفاتها يتحدث فيها الطفل إلى أمه فى كل مكان وكأنه معها، حتى أن أرسلت المدرسة إلى عمّته لتقول لها عن قرار المدرسة بفصل الطفل، وطلب تحويله إلى مشفى للأمراض النفسية والعقلية، ليتعالج مما هو فيه، جلست العمّة مع الطفل لتفهم، فقالت له "عزيزى، إن معلمتك فى المدرسة غاضبة منك، فماذا فعلت حتى تغضبها منك؟"،
قال بهوء "يا عمتى، فى كل مرة أتكلم فيها مع أمى، تسألنى المعلمة إلى مَن تتحدّث، أقول لها مع أمى.. تقول لى لا تفعل هذا ثانية، فأمك ماتت ولا تستطيع التكلّم معك بعد الآن".

قالت العمّة وهى تبكى بشدة "حبيبى، لماذا تتحدّث مع أمك دائمّا، ألا تعلم أنها ماتت؟".

قال "أعلم عمّتى، أمى ماتت، ذهبت إلى ربّها، أصبحت شبحًا تأتى عندما تشتاق، وهى دائمًا تشتاق لى، تطير حولى فى كل الأوقات، بجانبى فى كل الأماكن، فكييف لا أتحدّث معها، وهى الروح التى أشعر بوجودها دون أن أراها".



مى سلامة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى