محمد المخزنجي - تاكامو - كوكومو - مومو.. ذلك الصوت الخفي.. قصة

نتيجة الثانوية العامة 2021

رئيس مجلس الإدارة : أحمد جلال رئيس التحرير : جمال الشناوي

الأخبار المسائي
أخبار الحوادث

1
2
3
4
5
6
وقضى فلاريس طاغية صقلية الروماني بأن يُحشر النحات البارع بيريلوس في جوف الثور البرونزي المتقد بالنار المشتعلة تحته، ليكتوي بما صنعت يداه، فيما صرخات احتراقه تتصاعد خوارا مرعبا من فم الدابة الملتهبة، فكان صانع الشؤم أول من اختبر صنيعه، فليس أكثر عدالة من قانون يقضي بموت من أملت عبقريته عليه صنع الموت
(بتصرف نثري عن كتاب «فن الهوى» للشاعر أوفيد)


*****

" آلو .. هل يمكنني محادثة السيد مامادومازنجي".
للوهلة الأولى تصورت أن المتصل أخطأ الرقم، فقلت له: " لا يوجد أحد بهذا الاسم هنا"، وأوشكت أن أضع السماعة مغلقا الخط، لكنه بدلا من أن يعتذر فأقول له عفوا وينتهي الأمر، وجدته يقول بصوت جياش يكاد يصرخ " لكنهم في مقهى الأدباء أعطوني هذا الرقم وأكدوا أنه للكاتب مامادومازنجي"، وهنا وجدت ومضات التفكير تتعاقب ويتلو بعضها بعضا لتصنع احتمالا منطقيا لأن يكون المتصل يطلبني على وجه التحديد، والأمر يستحق بعض التريث، فالاسم الذي نطقه برغم تحويره يوحي بأنه قريب الصلة باسمي، ثم إن إقرانه بصفة الكاتب يعزز احتمال أن يكون الأمر متصلا بي فعلا، كما أن الصوت واللكنة التي ينطق بهما الإنجليزية ذكراني بالجنوب الإفريقي، فالصوت به سمة رنين الكلام والغناء لدى سكانه الأصليين، والكلمات تنتهي بما يشبه طقطقة خاطفة لفتت انتباهي في أكثر من لغة قبلية سمعتها عبر ترحالي في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء.
أثار كل هذا فضولي، لاحتمال أن يكون المتصل ممن تعرفت عليهم في تلك الرحلات، ومع الفضول كان الاستغراب الذي يزيح هذا الاحتمال، فقد مر أكثر من عشرين سنة على هذا الماضي، دون أن أجدد تواصلي مع أيٍّ ممن التقيتهم هناك. فقلت: ــ " عفوا أيها السيد.. أرجو أن تخبرني بالمزيد لإزالة الالتباس". لكنه لم يخبرني بالكثير. فقط قال إنه الطبيب الشخصي لرئيس إحدى بلدان الجنوب الإفريقي وإنني كنت سببا في " أحداث خطيرة جدا" كان نصيبه منها تهديد حياته. وبدأ كل هذا غريبا وغامضا ومثيراً للريبة حتى إنني أوشكت على الاعتذار له عن اللقاء الذي يطلبه بإلحاح، و"في أقرب وقت" كما كرَّر. لكنني عندما سألته أين يقيم، وأخبرني أنه مع أسرته ينزلون بفندق قريب من بيتي، وجدت الصوت الفضولي في داخلي يهمس " ولم لا"؟! فالمكان قريب، وهو مكان عام مفتوح، وأنا أتردد على مقهى فيه، وبعض العاملين به يعرفني، ثم إنه ما من نزيل في فندق كهذا إلا ويقدم أوراقاً ثبوتية تيسر تعقبه إذا ما بدر منهما يسيء، فلأذهب، كجزء من تمشيتي اليومية، حيث لن يستغرق ذلك أكثر من عشر دقائق، وسأكون على إطلالة من النيل الذي أحب اتساعه الفاتن من هذا الموقع، وإذا وجدت في الأمر ما يريب، أنسحب. أما إذا كانت هناك محاولة لاحتيال ما، فأنا مهيأ لإجهاضها، حيث لا شيء لديَّ يلبي ابتزازات أي محتال، وعلى أقل تقدير للأمور مهما كانت ملابساتها، سأفوز بضحكة ساخرة من إدعاءات الاحتيال القديمة المكشوفة، أو أتزود بشحنة دهشة تنعش الخيال إذا كانت الحيلة جديدة وحاذقة الابتكار.

*****

في بهو الفندق، تحت الثريا الضخمة المدلاة من السقف العالي المكسو بالخشب المشغول، فوجئت بعملاق إفريقي قدرت أن طوله لا يقل عن 190 سنتيمتراً ووزنه يزيد عن 120 كيلوجراماً، ولما لم يكن هناك شخص أسود البشرة في صالون البهو غيره تقدمت منه مرددا الاسم الذي قدم به نفسه عندما حادثني تليفونيا، فانفرجت أساريره، وشرَّع أصبعا كبيرا يشير به نحوي وهو ينطق بتحمس "مامادووماااازنجي"، فأومأت هازاً رأسي بموافقة مؤقتة، وسألته إذا ما كان من الأفضل أن نجلس في مكان أكثر هدوءاً، ففتح جناحيه الشاسعين مرحبا، لكنه قبل أن يتجه معي إلى التراس المطل على النيل التفت إلى سيدة أربعينية وبجوارها صبيين، وجميعهم يحملون تلك الملامح اللطيفة لمعظم سكان دول الجنوب الإفريقي، التي تماثل نمنمة ملامح أبناء القرن الأفريقي والنوبيين، ببشرة داكنة «السمرة» مع لمسة زيتونية خفيفة. كانت السيدة جميلة وكان الصَبيان جميلين أيضا وقريبين من القلب، قدمهما الرجل لي وقدمني لهم بالإنجليزية ثم حادثهم بلغة محلية، ففهمت من إشارات يديه وإيماءاته أنه أخبرهم بالذهاب معي لنجلس في مكان آخر ليس بعيدا عنهم. ولم يكن المكان الذي اقترحته عليه بعيدا بالفعل.
جلسنا في صدر التراس الصغير المرتفع عن الأرض ببضع درجات والمطل على النيل في مواجهة المطعم العائم، وقال لي إن مشهد النهر وضفتيه من المكان يبدو رائعا، فأخبرته أنني رأيت مشاهد خلابة في بلده، حدائق أشجار الجاكاراندا بزهورها البنفسجية التي تبزغ بسخاء على الأغصان قبل ظهور الأوراق الخضراء الريشية المنمنمة، وعشرات أقواس قزح البهية فوق جرف الشلالات العميق الذي تهوي ستارة الماء الفوار الشاسعة إلى قاعه، فتجلو تلك الصخور الأسطورية السوداء المدورة وتجعلها تلمع. وافقني على ما رأيته من جمال بلاده، لكنه بجبين مقطب وهزة رأس آسفة بدا متحسراً على هذا الجمال. وقبل أن ندخل بالحديث في موضوع " مامادومازنجي "، أمسك الرجل بمغلف للأوراق فَضَّه واستل منه صفحتي مجلة مطويتين بعناية وقدمهما لي.
قرأت باستغراب عنوانا كبيرا بالانجليزية Hum Hum وخطر لي للوهلة الأولى كما لو أن تلك محاكاة صوتية لتعبير " هم هم " الذي نسمي به الأكل الذي نغري به صغارنا، لكنني استبعدت ذلك الخاطر عندما انتبهت إلى أن ترجمة الكلمة المكررة يمكن أن تكون "همهمة همهمة " أو "غمغمة غمغمة " وعندما قرأت تحت العنوان " قصة للكاتب المصري مامادومازنجي"، شعرت بنوع من الاضطراب والتشوُّق، لكنني ما أن قرأت أول سطر حتى أيقنت أنها ترجمة معقولة لقصتي " زوموو".
كنت قد كتبت قصة "زوموو" ونُشرتها في جريدة الدستور عام 2006، وفيها يتوافق سكان بلد ما على إعلان احتجاجهم على انتخابات اعتاد حُكم متسلط يسيطر عليه العواجيز تزويرها، بأن يلزموا بيوتهم في يوم الاستفتاء، وينطلقوا في الزومان معا وهم في بيوتهم مفتوحة النوافذ، وعندما حدث ذلك، تحول زومان الملايين إلى ظاهرة فيزيائية مكتسحة قوامها نوع غامض من الصوت الفائق، أزال بتراكم طاقة ذبذباته كل الألوان المضافة غير الطبيعية حيثما كانت، فلم يعد في المدينة من ألوان غير أخضر الشجر وأزرق السماء، ورمادي الأسمنت والتراب، وأسود الأسفلت. وكانت ذروة التعرية هي الإطاحة بألوان صبغات شعر وحواجب أصنام الحكم المُسِنَّة، وألوان ثيابهم وسياراتهم، مما جعلهم مستباحين للقهقهات الساخرة لجنود وضباط الحرس الرئاسي، فاختفوا بطريقة غامضة، ربما بدافع الخوف بعدما صاروا مادة لسخرية شبان شداد مسلحين يحرسونهم، وربما لإدراكهم أن زمنهم قد انتهى. وبعدما نامت المدينة من شدة الإنهاك الذي لحق بأهلها جرَّاء تواصلهم في إطلاق الزومان وسماعه حتى منتصف الليل، استيقظتْ على صباح ساكن سكونا مريحا للنفوس، رائقا ونديا بشكل يدعو للانطلاق بعافية حلوة. ودونما تنسيق أو نداء من أية جهة، انخرط الناس في تجديد ألوان مدينتهم التي أزالتها عجائب ما ترتب على الانطلاق الصوتي الأسطوري من عشرين مليون حنجرة متمردة، بسخرية، ومرح، وعناد حماسي متواصل، فانخرطوا في اشتغال جماعي، احتفالي ومبهج، في ورشة عمل شاملة كبرى، يجددون ألوان طلاء واجهات البيوت، والمحال، وأعمدة النور، وحواف الأرصفة، وعلم البلاد؟!

*****

فاجأتني تماماً ترجمة قصتي التي قدم لي الطبيب الإفريقي الضخم نسخة من نشرها، وفاجأني أكثر وصولها إلى هذا الركن القصي من القارة، فكيف شكلت هذه القصة ما يزعم الرجل أن أموراً خطيرة ترتبت عليها، كان نصيبه منها ما يهدد حياته كما قال لي على الهاتف؟ سألت الرجل ( وقد عرَّفني باسمه كاملا وإن كنت سأشير إليه لأسباب مفهومة بالحرف "ج" )، فلم يجب، بل ناولني بدلاً من ذلك صفحة مطوية أربعاً عندما فردتها اكتشفت أنها بمقاس ِA3 ومطبوعة بحروف لغة لا أعرفها، فبادر بإخباري أنها ترجمة للقصة باللغة المحلية، وأن هذه الصفحة تم نسخها بآلاف النسخ وكانت توزع سراً وتُدس من تحت أعقاب الأبواب بعد منتصف الليل. ثم راحت تتوالد منها قصاصات تلقى في زوايا الشوارع، وكتابات على الحيطان المتوارية داخل الأزقة، تدعو كلها إلى إطلاق صوت الزومان في ساعة محددة من منتصف ليل يوم بعينه، كان يوافق يوم الاحتفال ببلوغ الحاكم عمر التسعين. وهنا توقعت أن يحكي لي الرجل ما تحدثت عنه القصة من إزالة الألوان والأصباغ وفضح شيخوخة زمرة الحكم المُسِنَّة، لكنه هز رأسه الضخم بتلك الطريقة الطيبة المومئة إلى أن ما حدث كان أخطر. فما الأخطر؟
تنهد " ج " العملاق تنهيدة إفريقية ضخمة وهو يُسرِّح بصره في فضاء الليل فوق النيل، وأحسست أنه يَلزَم في تسريح بصره منطقة الظلمة فوق الماء وسط أقاصي النهر، كما لو كان غير راغب في مطالعة أنوار الفنادق والأندية على الضفتين والأضواء الملونة لمراكب الفسحة التي تنطلق على صفحة الماء، أو أنه لا يراها، أو لا يستطيع أن يراها. وحكى أنه بعد انتشار ما توالد عن فكرة القصة من الدعوة إلى الاحتجاج على فساد الحكم وتزويره للانتخابات وتأبيده في السلطة، التي ظل العجوز يتسنمها لأربعين عاما، جرت قرب منتصف الليلة المحددة عدة محاولات مترددة لإطلاق نفير الأصوات الجماعية للناس بنوع من الزومان الذي تجعله سقوف الحلوق الإفريقية العالية كما لو كان منطلقا من أبواق " فوفوزيلا " جنوب إفريقية عملاقة، لكنها مُتحشرجة، تحاول بارتباك أن تُجمِّع ما تنفخه صدور سبعة ملايين إنسان في العاصمة وما حولها..
فشلت عدة محاولات أولى لانتظام جؤار الفوفوزيلاالملاينيةالعملاقه، لخوف الكثيرين من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن كثيرين آخرين كانوا ينظرون للرئيس العجوز " مومو"، كما يدللونه، كرمز لتحررهم من ربقة استعمار أبيض عنصري سامهمالإهانة والعذاب على امتداد قرن كامل، وكان مومو هو قائد كتائب التحرير، فاستحق عن حب جارف وإجماع شامل أن يكون أول رئيس وطني لدولتهم الحرة البازغة. لكنه برغم كبره في السن، وإفلات رؤية النهوض من رأسه، وغرقه وإغراق المحيطين به في الترف، مع التسلط العنيف ورفض سماع أي صوت مخالف مهما كان سلميا ووطني الدوافع، بدأت الصورة الأولى لبطل التحرير تتآكل. حتى بات رحيله حلما في صدور معظم أبناء البلاد من غير زمرة الحكم والمنتفعين بعطاياه.
وأخيرا، بعد منتصف تلك الليلة، وبعدماأطفأ الرجل العجوز شمعة واحدة تعود بعقارب سنوات عمره التسعين إلى بداية لاتبدو لها نهاية، نجح زومان الملايين السبعة في الانتظام، وصار صوت الفوفوزيلاالجامعة العملاقة كاسحا، وصل بكامل عنفوانه إلى القصر الرئاسي المشتعل بأضواء الاحتفال الملونة بألوان العلم الوطني، وغمر صوت المحتفلين وضحكاتهم اللاهية فأغرقها، وتجاوز صوت موسيقى الطبول الإفريقية التي حمِيَ رقص زمرة الحكم على إيقاعاتها المتقدة، فانطفأت. تجمد الرقص، وساد الذهول ملامح المحتفلين.
استمرت صرخة الفوفوزيلاالملاينية في ليلتها الأولى أربع ساعات كاملة، من لحظة انتظامها وحتى الرابعة قبيل الفجر، دون أي تحرك للسلطات التي شلها الارتباك وعدم التصديق. وظلت تتكرر نوبات إطلاق ذلك النفير الجماعي من ملايين الحلوق لخمس ليال، وإن بدت متقطعة ومضطربة بعد ليلة النجاح الأولى، فقبل كل نوبة وأثناءها وفي أعقابها كانت المداهمات الباطشة تتم ويجري اعتقال عشرات ثم مئات ثم آلاف الناس، حتى لم تعد هناك سجون تسع أي مساجين جُدُداً. ولم تحدث أية ظواهر خارقة كالتي في قصة "زومو"، بل حدث شيء واقعي أغرب وأخطر، وخطورته تتمثل في اقتصاره على الرجل الكبير العجوز " مومو" وحده، ولا أحد غيره!
"وهنا بدأ عذابي " ــ قالها العملاق الإفريقي الذي يجالسني، وأغمض عينيه وهو يقولها، ولبث على إغماضه كأنه يستعيد ذكريات آلمته أشد الإيلام فلزمت الصمت، ثم فتح عينيه الكبيرتين معاودا التحديق في ظلمة الليل وسط النيل، وشرع يحكي بخفوت في البداية ثم بجهرٍ رنان، وحسنا أن تراس السوفيتيل لم يعد فيه غيرنا ساعتها وإلا أرعبهم صراخ ذلك الجهر المُعذَّب...
لقد صار "مومو" العجوز مُقدَّد البدن ومُقعقِع الصوت الرادع يصرخ كاتما أذنيه براحتيه شاكيا من سماعه صوتا كهدير محرك ديزل أو أزيز طائرة منطلقة. وكوحش مجنون أمر بتجريدات تأديب شاملة لكل من تثبُت "أو لاتثبت" مشاركته في إطلاق ذلك الصوت. ولهذه التجريدات جَنَّد كل أفراد الجيش والشرطة وحتى الموظفين العموميين. وأدى الردع العشوائي والوحشي إلى رعب شامل جعل الناس بعد الليلة الخامسة يتنادون لأخذ " هدنة"، يكفون فيها عن إطلاق النفير، بل يمنعون بأنفسهم كل من يحاول إطلاقه من الأهل أو الجيران.
انقطع النفير في الليلة السادسة، بل سكتت البلاد ليلا ونهارا، وكأن ساحراً كونيا سلب أهلها حناجرهم. بل إن الناس راحوا يتحادثون في أمور أعمالهم ومعايشهم همسا حتى لايثيروا جنون تجريدات البطش الشامل من جديد. لكن ذلك الطنين أو الهدير أو الأزيز ظل يدوي في سمع " مومو" فيشتعل غضبه وتحمر عيناه كجمرتين حارقتين، وكان لهيب الغضب واتقاد الجمر يكوي أول مايكوي "الطبيب الخاص للرئيس" الذي كان صوته يرن في تراس سوفيتيل المطل على النيل..
" أي ذنب اقترفته أنا ليلسعني أنا بسياط غضبه جراء ماحدث له وأنا لم أكن مسئولا عن إحداثه. ما ذا أفعل وقد مكثت أدرس الطب لأربعة عشر عاما بعيدا عن بلدي وأهلى، ستة في جوهانسبيرج وأربعة في لندن وأربعة أخرى في نيويورك، لأعالج في النهاية شخصا واحدا من إمساك مزمن وحرقة مَعِدة تاريخية وضعف انتصاب شيخوخي، وبعدها آثار جانبية على القلب والأعصاب من فرط انتصاب صناعي لم تسعفه الدعامات فتطلب استخدام العقاقير التي أسرف في استخدامها برغم تحذيري له بعد زواجه الثاني من فرس نارية الجسد وباردة القلب ونهِمة للسلطة والتسلط، كانت أحدى سكرتيرات مكتبه، أغوته وجعلته يطلقها من زوجها الطيار الشاب، ثم تزوجها وهو في الخامسة والسبعين بينما كانت هي في أوج تفجُّر أنوثتها في الخامسة والثلاثين، وأخيرا جاء دور ذلك الصوت الذي أخذ يفرقع في سمعه، وكأنني من أطلقته".
كان مومو ينظر إلى طبيبه الرئاسي وهو يتألم بعينين كجمرتين مشتعلتين فيدرك الطبيب أنه يمكن أن يوعز لأحد أدواته السرية بإطلاق الرصاص في "أذني أنا. أذني أنا" إن لم يخلصه مما يصرخ في "أذنيه هو". وحتى يؤجل الطبيب موعد انفجار هذه الطلقات في أذنيه وجد وسيلة لإزاحة الأمر بعيدا عنه ولو لفترة يدبر فيها أموره. واقترح استدعاء طاقم طبي من أساتذة الجامعة في جنوب إفريقيا المجاورة نظرا لتقدمهم العلمي عن بلده الذي أخذ الطب فيه يتراجع بشراهة عاما بعد عام على امتداد السنوات الأربعين لحكم العجوز، بطل التحرير السابق، المتيبس بقساوة وميت الروح تحت حيوية الألوان الحارة لثيابه الاحتفالية التي كانت ترسم وجهه بألوان ليست له، والتي كان يرتديها في الاحتفالات الرسمية التي تكاثرت حتى كادت تغطي أيام السنة كلها، وترتديها فرسته النارية المفترسة كما يرتديها رفاق الأمس، الذين"تحولوا من رفاق نضال تحرري إلى بطانة نفاق وعصابة فساد وإفساد ونهب منظم".
" تصرّف.تصرف ياكبير أطباء الرئاسة. تصرَّاااااف " كان صنم السلطة الأبدية العجوز المخيف يصرخ بها في وجه طبيبه الخاص فيبدو كمن تنهشه مناشير أسنان تماسيح من الداخل، صرخة حقد محشوُّ بنذير انفجاري، تليها صرخة أخرى تضع بين يدي الطبيب ميزانية بلا حساب لإطلاق النار على هذه التماسيح ولو بالمدفعية الثقيلة. وكان أن حدد الطبيب " كونسولتو " من أشهر أساتذة الطب في السمعيات لإحضارهم من جنوب إفريقيا المجاورة على وجه السرعة في طائرة خاصة، ذهبت وعادت بشحنة من عشرة أطباء كبار في تخصصات دقيقة تحيط بكل احتمالات الهدير أو الأزيز أو الطنين في سمع " مومو". وبعد مناظرة طبية ماراثونية على امتداد ثلاثة أيام وجد أساتذة السمعيات الوافدين من جوهانسبرج وبريتوريا وكيب تاون أن أذني الرجل العجوز سليمتين، وأوصوا ــ بأكبر قدر من التهذيب واللباقة ــ أن يُستدعَى فريق من أطباء المخ والأعصاب لعمل كونسلتو، ولم يكتبوا في تقريرهم أن الغرض من هذا الكونسولتو هو البحث عن مكان صدور هذه الأصوات من المخ " مخ مومو نفسه" بل "تركوا لي أن أجد الكلمات المناسبة للإجابة عن استفسارات الرئيس، إن سأل عن الغرض من استدعاء هذا الكونسولتو"!
كانوا أطباء كبارا ولابد أن أجهزة المخابرات في بلدهم، الجار الكبير، قد حذرتهم من الاندفاعات الانفعالية للرجل العجوز إن تسببوا في إغضابه بما يمكن أن يفجر أزمة سياسية بين البلدين الجارين، " كانت المصالح السياسية والاقتصادية فوق الحقيقة الطبية كما وضح لي، وكان لهم الحق في ذلك"، فما أن قرأ مومو التقرير حتى هاج هياجه وكأنه جنيأرعن أخذ يسب ويلعن ويركل كل ما تطاله قدماه. "مزق التقرير وهو ينظر بكراهية متأججه نحوي وكاد يرمي بمزق التقرير في وجهي" لولا أن أمسك بحركة يده في اللحظة الأخيرة وأسقط حفنة المزق تحته قدميه وراح يطأها بحقد، نابسا من بين قواطع طاقم أسنانه ناصع البياض والمعمول في سويسرا: " هاتوا خبراء من روسيا من فرنسا من ألمانيا أو حتى من أمريكا، أو من جهنم. خبراء يستطيعون العثور على المخابئ التي يُصدِر منها أولاد العاهرات هذا الصوت اللعين، ولنحرقهم في مخابئهم النتنة تلك".
"الهلع يجعلنا نصدق أشياء لايمكن تصديقها ونحن مطمئنين" كانت تلك آخر جملة في ذلك اللقاء الأول بالطبيب الأسود العملاق الذي أحسسته أرق مايكون، وأنه لرقته البالغة أرهقه الحكي حتى الإنهاك، كما أن الليل كان قد تأخر وكان انفرادنا وارتفاع صوته المنفعل لافتا للانتباه، لهذا طلبت منه أن نلتقي في الغد لنكمل الحكاية، عندها ناولني ملفا في مغلف بلاستيكيكي وهو يقول:" خذ واقرأ هذا ياسيدمامادو، فلعلك بخيال الكاتب تربط بين مابهوماحدث من رعب بعد ذلك". وقفنا نتصافح ونتواعد أن نلتقي ثانية، ثم سرنا معا حتى بهو السوفيتيل حيث لم يكن هناك أحد غير مراقبي جهاز كشف الأسلحة والمتفجرات على باب الدخول.
"إلى الغد إذن" قلت للعملاق الرهيف مستأذنا الانصراف، فأومأ لي بنظرة ود مؤثرة وهو يهمس" أتوق إلى هذا. أنت أول من أُسرُّ إليه بأساي ــ غير زوجتي طبعا. إلى الغد ياصديقي". تصافحنا، ومضيت خارجا بينما يتجه هو إلى ركن المصاعد.

*****

برغم عودتي إلى البيت في الواحدة بعد منتصف الليل، متأخرا عن موعد نومي الاعتيادي في الثانية عشرة، لم أستطيع النوم، الجملة التي رددها " ج " في نهاية سهرتنا في تراس سوفيتيل ظلت تترجع في دماغي وتومض في ظلام الغرفة" الهلع يجعلنا نصدق أشياء لايمكن تصديقها ونحن مطمئنين". ولما أدركت أن الأرق لن يتركني أخلد إلى النوم، وبسابق خبرتي مع الأرق التي خرجت منها بألا أعانده وإلا عاندني، حيث تعودت متى ما أحسست باستبداده الذي يجعلني أتقلب في سريري وكأنني أتقلب على جمر، أن أنهض وأخرج إلى صالة البيت بعد إغلاق الغرف على النائمين، أجلس وأشعل ضوء " الأباجور" الجانبي الصغير في ركن الصالة، أقرأ ما يعن لي قراءته، فأجد نفسي بعد ساعة مشدودا إلى النوم فأطفئ النور وأدخل سريري لأنام، فأنام. صار اللعب مع الأرق بهذه الطريقة نادرا ما يتجاوز الساعة، لكنه هذه المرة تجاوز الساعة إلى خمس ساعات، لم تكن كلها لقراءة الملف الذي أعطانيه الدكتور "ج"، بل إن معظمها التهمه وقت تجوالي بين مواقع الصحف والمجلات العلمية على الإنترنت لتوسيع حدود ما جاء في ذلك الملف، الذي احتوى على صور لتقارير استخباراتية خارجيةمُرمَّزة، لايُعرف مصدرها،وموجهة إلى مكتب ذلك الرئيس وممهورة بخاتم " سري جدا".

*****

لاحظت أول ما لاحظت أن تلك التقارير استبعدت منذ البداية الاحتمال البديهي لارتباط ما يعانيه ذلك الرئيس بطنين الأذن Tinnitus المعروف طبيا والناتج عن أسباب عضوية تتعلق بالأذن الوسطى أو الداخلية أو المخ، وتؤكد بإصرار غير مقرون بأية أبحاث على المصدر الخارجي كسبب للعلة، ومن ثم دخلت في مقدمة سردية تحكي أن ظاهرة الهمهمة The Hum بدأت في لفت الأنظار مع صدور تقارير عديدة عن أصوات مستمرة منخفضة النبرة غير مسموعة لجميع الناس لكنها مصدر معاناة لكثيرين في أماكن مختلفة، وتوصف بأنهاأصاوات هادرة بغير ارتفاع ومُتداومة بإلحاح، تشبه صوت طائرة تقترب من بعيد، أو أزيز خارج غرفة مغلقة النوافذ، أو ضوضاء مرورية تُسمع من قمة برج شاهق، أو طنين محرك ديزل في مكان مغلق. وقد رُصدت أول ما رُصدت في الولايات المتحدة وبريطانيا، وصارت تقترن باسم المنطقة التي رُصدت فيها.، فهناك "همهمة بريستول"، و"همهمة تاوس"، و"همهمة كوكومو"، وظلت الأخيرة أشهرها لأنها أول ما استرعى الانتباه في مدينة " كوكومو" الصناعية بولاية إنديانا الأمريكية عام 1999، ورغم أن من عانوا عواقبها عدد قليل يُعد بالعشرات من سكان هذه المدينة البالغ عددهم 45 ألفا، إلا أن " معاناتهم كانت لاتُحتمل حتى أوشك بعضهم أن يصاب بالجنون من الصداع واستحالة النوم إضافة إلى أعراض جسدية واضحة كالغثيان والقيء ونزيف الأنف، فاضطر معظمهم إلى مغادرة المدينة". وقد أثبت البحثأن أصل الهمهمة يرجع إلى مصدرين،أولهما برج التبريد في مصنع الفرع الأمريكي لشركة ديملر دايسلر وتصدر عنه نغمه ترددها 36 هرتز، والثاني صمام دخول الهواء المضغوط بمصنع هاينس المحلي بتردد 10 هيرتز، وبعد إصلاح هذه الاجهزه، تواصلت التقارير تؤكد استمرار صدور هذه الهمهمة، "مما يُرجِّح أنها بقايا غبار صوتي لما سبق رصده"!
أوحى لي تعبير " الغبار الصوتي" بالمراوغة ولم أعثر على ما يربطه بالظاهرة طوال بحثي عبر الانترنت لأكثر من خمس ساعات، كما أنني توقفت طويلا أمام تجاهل تام لمصدر آخر لهذه الهمهمات الغامضة مما تحت الصوت، لم يعد سرا منذ سنوات ونُشر عنه الكثير، ويُشار إليه اختصارا بلفظة تاكاموTACAMO التي تختصر عبارة " تولَّى المسئولية وانطلق" Take Charge and Move Out التيتعبِّر عن المراهق عندما يقرر ترك بيت العائلة للاستقلال بحياته. وقد بدت لي هذه التسمية غريبة الخفة في شأن من أخطر شئون عالمنا وأكثرها رعبا، فتاكامو هذه تشير إلى نظام اتصالات لاسلكية سرية مصمم للحفاظ على دوام التواصل بين صناع القرار في الولايات المتحدة وهيئة قيادة الجيش الأمريكي وثالوث الأسلحة النووية الاستراتيجية، مهمته الأساسية تَلَقي رسائل الطوارئ (EAMs) والتحقق منها وإيصالها إلى القوات الاستراتيجية الأمريكية لإطلاق الصواريخ النووية من الغواصات والطائرات على المواقع المستهدفة بالقصف. ويتأسس هذا النظام على قاعدة الحفاظ على القدرة المتواصلة على الاتصال، في نطاق تردد لاسلكي هائل الاتساع والمرونة، ويعتمد على تشكيلات هائلة التعقيد من التشفير وشبكات البث التي استلزم ألا تكون ثابتة المواقع الأرضية، بل محمولة جوا، لتحل محل المواقع القديمة ذات التردد بالغ الانخفاض والتي تَبيَّن أنه " يمكن تدميرها في أي ضربة نووية استباقية من الخصوم". وقد اكتسب هذا النظام اسم " نظام اتصالات طائرات جهنم" لأن الجزء الرئيسي فيه يتكون من ثلاثة أسراب من أسطول الاستطلاع الجوي مجهز بطائرات بوينج ميركوريIDS E-6B ومقرها قاعدة سلاح الجو بأوكلاهوما. كما أن هناك قاعدة إنذار داعمة على الساحل الغربي بكاليفورنيا، وأخرى مُناظِره على الساحل الشرقي بولاية ماريلاند. وهما من " النقاط الساخنة " التي رُصدت فيه أصوات هذه " الهمهة" أو الدمدمة!

*****

بعد كل ذلك الهول، حيرني أن ملف تلك التقارير المبثوثة بسرية إلى المكتب الخاص لذلك الرئيس الإفريقي، اقتصر في ذكره لوسائل معالجة تلك الهمهمة على" تقنيات تقطع مسار موجاتها الصوتية بأساليب خاصة تعتمد على التقنية البيزوكهربائية(Piezoelectricity) لتحويل الموجات الصوتية غير المرغوبة إلى تيار كهربي يتم أمتصاصه بموصلات فائقة وتصريفه في الأرض ــ اشبهمايكون بمانعات الصواعق". دققت في ذلك عبر ماقرأته طوال ساعات الليل الخمس، فوجدته معقولا نظريا وحتى تجريبيا، لكنه لا يشكل خصوصية لبلد بعينه، فهذه البيزكهربائية، أو الكهرباء الانضغاطية، معروفة منذ العام1880 عندما اكتشفها العالمان الفرنسيانبيار كوريو جاك كوري عبر ملاحظتهما أن الضغط على بعض البلورات يولد جهدا كهربيا عند طرفيها، وبما أن الصوت موجات انضغاطية فيمكن تحويله إلى موجات كهرو مغناطيسية، هذا ليس جديدا وتطبيقاته وأبحاثه منتشرة في العديد من دول العالم المتقدمة علميا في الشرق والغرب. ثم إن هناك أساليب مجربة أكثر شهرة وفعالية وبساطة، ولها براءات اختراع يابانية وألمانية وغيرها، وتتشارك جميعها في آلية قطع الطريق على الموجات الصوتية للهمهمة بحوائل من لوحات متعددة الطبقات من مواد تمتص الطاقة الميكانيكية للصوت وتعزله، وتبدأ بطبقة من مادة صلبة مسامية كالخرسانة الغازية، تليها طبقة ثانية لينة من مادة يسهل اختراقها كالصوف الزجاجي، وطبقة ثالثة من الصوف الصخري، وأخيرا طبقة رابعة من الهواء تحبسها صفيحة عازلة. وقد نجحت هذه المنظومة في منع موجات ماتحت الصوت المُكوِّنة لظاهرة الهمهمة خارج حظائر اختبار محركات الطائرات! فلماذا ذهبت التقارير التي قرأتها بعيدا إلى هذا الحد؟!
لاحظت أيضا في هذه التقارير أن هناك تشديدا على أن "ثمة أعدادا قليلة من البشر تستقبل آذانهم ذات الحساسية الخاصة جدا هذه الأصوات"، مُبرئة آذانهم وأمخاخهم وحالاتهم النفسية من أية احتمالات لصدور هذه الظاهرة عن أي عطب أو اضطراب فيها. بينما هناك أبحاث حديثة تشير إلى أن تلك الهمهمة تصيب وتؤثر أيضا في ذوي السمع العادي، ويمكن احتمالها والتعايش معها بشيء من التدريب النفسي والواقيات السمعية. كما لاحظتُ شدة الإصرار على حصر مصادر هذه الهمهمة في وسائل صناعية، بينما ثبت علميا صدورها عن مكونات طبيعية أيضا، كأصوات تواصل الحيوانات منخفضة الذبذبة كما عند الأفيال، وأصوات أسراب الأسماك في موسم التزاوج، والأهم والأكثر توافرا ورصدا، هو صوت حراك الصفائح التكتونية لقشرة الأرض العائمة على صهارة جوف الأرض؟ فلأي وجهة كان يقود كل هذا التكريس؟

*****

في لقائنا المسائي الثاني بفندق سوفيتيل، عندما سألت " ج " عما علق بهواجسي بعد قراءة تقارير الملف وتفتيشي في ثنايا ما يتعلق به قال محزونا بأسف " أنا طبيب في البداية والنهاية. لم أكن مهتما بالسياسة أبدا. كنت لا أحبها لاعتقادي بأنها ساحة أكاذيب. وعندما وُضِعت في الموقع الذي لم يكن ممكنا رفضه، والذي ربما أغراني بريقه، تأكدت أن السياسة خاصة في قممها ليست مجرد ساحة أكاذيب، بل مستنقع تمرح فيه ديدان الكذب". ولقد استغرب "ج" أن يطلب الرجل الذي ظل يرفع رايات مجابهة الإمبريالية الغربية وريثة الاستعمار الاستيطاني مستشارين من بلدان يدمغها بالإمبريالية، لحل معضلة الأصوات التي تقض مضجعه "منبعثة من مغارات المعارضة وخصومه المحليين". ولم يكن أمام طبيب الرياسة إلا الإذعان لما يطلبه مومو، "على وجه السرعة"، و"مهما كلف الأمر". ولم يكن الأمر يكلف الكثير، فتحت غطاء العداء بين "منارات الديموقراطية والليبرالية في العالم " وبين " نظام ديكتاتوري مارق"، كانت هناك قنوات سلسة الإرسال والاستقبال بين النقيضين وضح أنها لم تنسد أبدا، فلم تمض عدة أيام على طلب " القسم الطبي للرئاسة" لفريق من الاختصاصيين من إحدى هذه " المنارات الديموقراطية" لاكتشاف "أصوات غامضة تسبب معاناة شديدة لكثير من الناس وبينهم الرئيس " حتى حطت في مطار العاصمة طائرة عملاقة بها عشرون رجلا أبيض تبدوا عليهم الأهمية والثقة الفائقتين، وبصحبتهم شحنة من عدة أطنان تحتوي على أجهزة معقدة المظهر وبادية الحداثة قالوا إنها "آخر ما توصل إليه العلم والتكنولوجيا لاكتشاف مكامن ومصادر الأصوات الغامضة التي تشكل خطورة على الصحة العامة للبشر كما تؤثر على سلامة الكائنات الفطرية والبيئة".
ثم وكأنهم يعودون إلى مكان يعرفونه جيدا، وبعد أن حصلوا على إذن بحرية الحركة من الرئيس شخصيا، انتشروا يعملون بأجهزتهم هذه والمحمولة على سيارات دفع رباعي عسكرية الطابع في قلب العاصمة، ثم في محيطها وأخذوا يوسعون من هذا المحيط حتى غطى " البحث " مساحة البلاد معظمها. ثم صدر تقريرهم النهائي المختصر الذي لم يكن بإمكان أي جهة علمية أن تحكم بصحته أو خطأه. وقد قرأته في آخر أوراق الملف الذي سهرت معه بالأمس..
"بعد بحث مُوسَّع غطى مساحة خمسمائة وتسعين ألف كيلو مترا مربعا بدءا من قلب العاصمة حتى أعماق الغابات وأطراف البراري ومصب النهر الكبير. وباستخدام أحدث أجهزة تحليل الموجات الكهرو مغناطيسية لسبر منابع الأصوات ذات الترددات الخارجة عن قدرة الأذن البشرية العادية على التقاطها، سواء كانت ترددات تحت صوتية أدنى من 20 هيرتز، أو فوق صوتية أعلى من 1200 هيرتز. تبين لنا أن هذه الأصوات موجودة بشكل لافت في " نقاط ساخنة" تنتشر على اتساع الرقعة التي جرى مسحها بمجساتنا الصوتية فائقة الحساسية، وهي مما لاتستطيع استقباله غير نسبة شديدة الندرة من الآذان البشرية، وتسبب أضرارا عضوية ونفسية بالغة على أصحاب هذه الآذان، لكن البحث العلمي والتقنيات الحديثة في أماكن قليلة من العالم اهتمت بهذه الظاهرة، واستطاعت إيجاد وسائل ناجعة لتحييد هذه الأصوات وحماية المتأثرين بها، أهمها وأحدثها وأكثرها فعالية هي تقنية تحويل تلك الأصوات الغامضة المدمرة إلى موجات كهرو مغناطيسية بتقنيات بالغة التطور، ومن ثميجري امتصاصها بحوائل عالية التوصيل للكهرباء وتسريبها إلى الأرض كشحنات كهربية، أشبه ماتكون بمانعات الصواعق".

*****

"من أين نحصل على هذه التقنيات وبأسرع وقت ممكن " كان ذلك هو السؤال الذي أجمع على توجيهه أعضاء اللجنة الوطنية التي شكلها " مومو" من " السيدة الأولى" و"رفاق التحرير " المقربين، لمناقشة هؤلاء الغرباء فيما جاء بتقريرهم. وبثقة مجتاحة كانت إجابتهم " نحن ننفرد بها وعلى استعداد لتقديمها فورا "! وكان أن اقترحوا إكساء مكتب الرئيس برقائق من النحاس النقي مبثوثة بأجهزة دقيقة لتحويل الموجات الصوتية إلى تيار كهربي يمتصه النحاس ويسربه إلى الأرض. وصدرت موافقة اللجنة على هذا الإكساء النحاسي وما يُبَثُّ به. " لكن بعد ذلك،وبشكل غامض لايعرف أسراره إلَّا الحلقة الضيقة حول الرئيس وعلى رأسهم الفرس النارية التي صارت تدير الدولة بعد انطلاق ذلك الهدير في رأس زوجها العجوز، تحول اقتراح الإكساء النحاسي لجدران وسقف مكتب الرئيس داخل القصر الرئاسي إلى اقتراح بديل.. بناء جديد كمقر عمل وإقامة مصغّر ومؤقت للرئيس من النحاس الخالصوملحقانه الإلكترونية حتى خلاصه من ذلك الصوت الذي ينهش سمعه".


*****

بالإجماع نال اقتراح تصميم المقر الرئاسي النحاسي الجديد موافقة واستحسان كل أعضاء اللجنة الوطنية، وقد اتخذ التصميم شكل كوخ من أكواخ رؤساء القبائل في الجنوب الإفريقي، وخلال أيام وصلت طائرة شحن عسكرية تحمل مكونات هذا الكوخ، وبصحبتها طائرة ركاب تقل فريق بناة الكوخ وفريق طبي احتكر القرار في التعامل مع الرئيس بموافقة زوجته ورفاق طريقه. " وصِرتُ أنا طبيبه الخاص على هامش الهامش". لقد قاموابتنويم الرئيس نوما طبيا مديدا بزعم ألا تدمر هذه الأصوات دماغه حتى يتم تحييدها، وأخضعوه لنظام تغذية صناعية وهو غائب عن الوعي. وبعد ثلاثة أسابيع أيقظوه ليفتح عينيه التائهتين على ذلك الصرح النحاسي الخاطف للبصر، والذي بعث في قلب طبيب الرئاسة العملاق رعدة مقلقة، بل مخيفة.
لم تكن تلك الرعدة في قلب الطبيب الذي انتفض جرمه الضخم وهو يذكرها لي في تراس سوفيتيل مبعثها الغرابة الصادمة للمبني النحاسي الذي يشبه كوخا إفريقيا عملاقا من المعدن الأحمر البراق، بل كان مبعثها أن هذا لم يكن كوخا مما تألفه العيون الإفريقية، بل وحشا معدنيا لاتستطيع مخيلتهم أن تتوقع حدود وحشيته. ومع إكمال إيقاظ " مومو" من تنويمه الطبي الطويل، جيء به وسط كوكبة من رفاق الماضي وبطانة الحاضر، وكانت زوجته الشابة على رأس الجميع. وشمخ في المقدمة صف الغرباء الذين بدوا مغتبطين للغاية بمأثرتهم النحاسية تلك. وبما يشبه افتتاح احتفالي بصرح وطني عظيم كانت الأعلام الوطنية ترفرف والابتسامات تعلو الوجوه. ثم ساد الصمت وتحفز الترقب عندما دُفعبالزعيم غائم الوعي، يكاد يكون مُساقا، يتساند على الأذرع الغريبة وهي تدفعه إلى مُقامه الجديد.
دُعي مومو الذاهل إلى دخول الكوخ النحاسي منفردا "ليقرر فعاليته بنفسه". لكنه لم يخرج ليقرر ذلك، فقد دخل وغاب لبضع دقائق كانت بطول وثقل دهر من الصمت. وعلت الحيرة وجوه الجميع باستثناء الغرباء الواثقين بأنفسهم وزوجة الرئيس الواثقة بهم. ثم بدأ الكوخ العملاق يرتج وصوتٌ مفزعٌ غريب يتعالي نافذا من مساربه. صوت غير بشري وغير حيواني وغير قابل حتى لأن يُنسب لهدير آلة من أي نوع.


*****

" بعد مشاهدة نوبة الارتجاج الغامض والهدير المخيف لذلك الكوخ النحاسي لم أنتظر، تسللت خلال الارتباك الذي شمل المكان وعُدت مذعورا إلى بيتي وكنت قد أخبرت زوجتي أن تكون مستعدة هي والأولاد للرحيل في أي لحظة، بينما جهزت سيارتي رباعية الدفع لنتسلل بها عبر البراري إلى بلد مجاور لي فيه أصدقاء مخلصون. كنت قد حجزت مقدما فيأكثر من رحلة تخرج من هذا البلد إلى القاهرة التي تُعد نقطة ترانزيت جامعة لكل الرحلات بين جنوب القارة وشمال العالم. اخترت بلدا في أقصى الشمال الثلجي الغائم يمكنني دخولهدون تعقيدات بجواز سفري الديبلوماسي، وهناك سأطلب اللجوء مع أسرتي هربا من رعب بلدي الدافئ الصحو الجميل الحبيب.. الحبيب.. الحبيب"، وانفجر الرجل العملاق ينتحب.

*****

قرب منتصف الليل ودعت الطبيب الإفريقي العملاق بادي الطيبة وهو مبتل الوجه بفيض دموعه، يكاد يختنق بالقهر، ووجدت زوجته وولديه لم يغادروا أماكنهم في بهو الفندق، كانوا ينتظرونه بعيون إفريقية طيبة يختلط فيها القلق بالوداعة المستسلمة للمقادير، كانوا سيسافرون في الصباح إلى ذلك البلد في أقصى شمال العالم. ودعتهم جميعا وضممت الولدين وقبلتهما كما أقبل ولديَّ عند السفر. غادرت فندق سوفيتيل في دُوار ووجدت أقدامي بدلا من أن تتجه إلى كوبري الجلاء لأعود إلى بيتي تقودوني إلى كوبري قصر النيل، وبمنتصف الممشى الجنوبي للكوبري وقفت مُرسلا بصري إلى الماء الذي بدا أسود حالكا في ظلمة الليل، لاتنم عن تموجات سطحه غير التماعات متعاقبة تتلاحق، عاكسة أضواء الجسر وأبنية الضفتين التي خفتت إضاءتها. وفيما كنت أشرد وسْنان بعينين مفتوحتين، أتخيل ذلك الكوخ النحاسي الذي يرتج وتصدر عنه صرخات ليست لحيوان أو بشر، لمع في خاطري طيفَ ثور نحاسي تضيء جَرمِه الضخم كتلة نيران موقدة تحت بطنه فيما تتصاعد من فتحتي أنفه أدخنة حريق مندفعه بمصاحبة جؤار خوارٍ مُعذِّب.
ولم يكن ذلك الطيف إلا " الثور البرونزي" الذي ابتكره النحات بيريلوس وأهداه كأداة تعذيب شيطاني للطاغية فلاريس حاكم صقلية الروماني في القرن السادس قبل الميلاد. ثور معدني مجوف بجانبه باب يُدفع عبره الضحية المراد تعذيبه حتى الموت، يُغلَق عليه ثم توقد النار تحت بطن الثور حتى يتوهج معدنه ويبدأ المحبوس في جوفه يُشوى حيا، تتصاعد صرخاته مع دخان احتراقه عبر أنابيب حاذقة التركيب تُحوِّل صراخه المُعذِّب إلى خوارٍ وحشي العذاب. وقد كوفئ النحات الآثم من الطاغية فلاريس بجعله أول نموذج لتجريب عمل ثوره الشيطاني. تترجَّع في خاطري صفة " الشيطاني" فتستدعي من فورها صور الثيران النووية الشيطانيةالعائمة والطائرة والدارجة على الأرض، المنذورة كلها لصناعة الموت بمحرقة نووية تلتهم كل حي على هذا الكوكب، فهل تستثني صانعيها!

*****
أعلى