هدى سعيد - الهـامِش.. قصة قصيرة

صديقي الجالس على الكرسي:
لم يعد في العمر بقية...
وأرغب بشدةٍ في الكتابة إليك...
يعجِبني صمودك طوالَ هذه السنوات، رابضٌ على كرسيّك، ومِن خلف نافذة غرفتك المتخَمة بالفخامة تراقِب النهرَ المنساب في هدوء تحت فندقك العتيق.
صديقي:
واسمحْ لي أن أخاطِبك بهذه اللهجة الودية، أنا أكرَه الرسمياتِ كثيرًا. طبيعةُ عملي السابق تَفرض هذه اللهجةَ الودودة في التعامل مع الآخرين.
لعلك تتساءل الآن، ماذا تريد منك امرأةٌ مسِنة مثلي؟
يا لك مِن مسكين!
كَم تمنيتَ أن تكون مراسلتك شابةً نضِرة، ليتوهج شبابُك من جديد، ولكني موشِكةٌ على الرحيل، ولا أرغب الآنَ في الكذب عليك، ربما فعلتُ لو التقينا منذ خمسين عامًا أو يزيد.
كان الأمر سيختلف حتمًا، أتخيله كما لو كان حقيقة مؤكدة:
"أرتدي ثوبي الأخضرَ الذي أهديتَني إياه في المرة السابقة، أتأبط ذراعك، وأسير بجوارك، يتعمّد كعب حذائي العزفَ من جديد، فيثير غيرةَ البنات، فتنزوي كل منهن إلى رُكنِها، يحسدنني عليك، أرمقهن بنظرة سعادة لا حدود لها، بينما يختفي ثوبي داخل سيارتك الفارهة، ليحتوينا جناحك الفندقي من جديد".
صديقي الغارق في الحزن خلف منظاري الصغير:
أرجو أن تغفِر لي خيالي المنتشي بك...
وأنا امرأةٌ لا أملك إلا الخيالَ في هذه السن، ولتحرِّي الدقة أمتلك شيئيْن لا أستبدلهما بيومٍ آخر في هذا العالَم...
خيال لا حدود له، ومنظار صغير...
ربما تصلك رسالتي هذه متأخرةً جدًا، بعد أن تمرح البكتيريا في جسدي المُلقَى على الفراش، ويشم أحدُهم رائحةَ العفونة تنبعث من غرفة المرأة المسِنة، ربما تدفعه بقايا إنسانية - نجحت في الهروب من تحللٍ محتمل - إلى اختراق رائحتي وإعلان وفاةٍ متأخرٍ جدًا، أتمنى ألا يجبره الاشمئزاز على الرحيل، أتمنى أن يبعثِر أشيائي رغبةً في شيء ينتفع به، ربما تمتد يده إلى تحت وسادتي فيجد رسالتي هذه، ربما تتفوق بقاياه الهاربة من التحلل، ويحتضن كلماتي، ويبعثها إليك في هدوء، دون أن يقرأها، فبالطبع لا تحتمل جثةٌ متحللة فضيحةً جديدة.
في الحقيقة لم تكن الفضيحة هي مَبعث قلقي، ولكن العنوان على المظروف هو شُغلي الشاغل، لم يكن الأمر صعبًا للغاية، ولكنه سيكون مربِكًا لهذا الهارب من التحلل.
فالخَط دقيق ومنظّم، لم يُصِبه الارتعاش من قريبٍ أو بعيد، وسوف تخطيء العين في تحديد هوية عُمرِ صاحبته. وعنوانُك الذي حفظتُه في قلبي وعقلي مرسوم كلوحةٍ فنية على المظروف...
"الفندق الرابض فوق النهـر
الطابق الذي لا يعلوه بِناء
الجناح الفخم
صديقي"
لعلك تلاحِظ أن الوصف دقيق جدًا، حرصتُ على ذلك، وضعتُ كل قدراتي على الوصف في تحديد مكان إقامتك، لا مجال للخطأ هنا، يجب أن تصل إليك هذه الرسالة، ويعتمد الأمر على شيئين، أراهِن عليهما بما تَبَقى لي من عُمر: العنوان الساطع كالشمس، والبقايا الهاربة من التحلل.
لعل الأمر مربِكٌ بالنسبة إليك، تعلو وجهَك كل الدهشة، تُمعِن النظر في ذاكرتك جيدًا، تحاوِل أن تلتقِط صورة لامرأةٍ من الماضي البعيد، تفاجئك برسالة، تنعِش حياتَك المستلقية على ضفاف النهر منذ أمدٍ بعيد.
لا تفعل!
رأسي هو المكان الوحيد الذي التقينا فيه، منذ أول لحظةٍ رأيتك فيها.
كنتُ شبحًا باهِتَ اللون، أتنسّم الهواء من نافذة غرفتي العجوز، فألمح كيانَك المضيء في عليائه، لا تبين لي ملامحك، أعرف فقط أنك رَجلٌ ترتدي قناعَ الفخامة التي يفوح بها مثواك، وأنا يا صديقي- أقسِمُ لك – امرأةٌ لا تفارق رغبتها في الاختباء .
ربما تغضب من امرأةٍ ظلت تراقب جلستك هذه أعوامًا، وربما يجرح ذلك كبرياءك الرجولي، أن يقفز شخصٌ إلى خلوتك الدائمة، ويعبث بها دون وازعٍ أخلاقي.
هل لي أن أطلب مغفرتَك الآن؟!
فلمْ يَدرْ بخلَدي أن يكون منظاري الصغير مصدرًا لنبض حياةٍ تُبعَث من جديد..
نَعم أيها الصديق..
مِن بُرجِكَ العالي اتصل حَبلي السري، تغذيتُ مثل طفلٍ في رحِم أمِّه، انصبّت الروح في خلايا الجسد الجاف، امتصصتُ من رؤيتك خيالاتٍ وأحلامًا، ظهرَ النبض في عروقي المتغضنة، واتصلتُ بالعالَم من جديد.
العالَمُ الذي قال كلمته الأخيرةَ في عجوزٍ تخطت السبعين عامًا، وأصدر حكمًا قاسيًا عليها، أزاحها إلى الهامش، فهي بؤرة العيب التي يهرب منها!
هل تغيَّر العالَم حقًا يا صديقي؟!
أتذكّر الآنَ مئاتِ الرجال الذين احتواني الماضي معهم، تهافُتَهم على نظرةٍ أو كلمة، والانتشاءَ الذي لا حدّ له إذا منحتُ أحدَهم ابتسامةً صغيرة..
آهٍ أيها الصديق، أتمنّى أن يتسع صدرك لقراءة رسالتي، أثِق أنك ستكون رحيمًا، وربما ترثي قليلا لحالي الذي وصلتُ إليه، ولكن....
أرجو المعذرةَ يا صديقي، فهذا الصداع المؤلِم يعاود رأٍسي من جديد، والرجفةُ تسيطر على يدَيّ، سوف أغفو قليلا الآن، ثم أعود إليك، فبيننا حديثٌ طويل لم ينتهِ بعد



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى