ذياب شاهين - النقد وصدى الجذور البعيدة

حينما نتكلم عن النقد سيكون من المريع ألا نبحث بوساطته عن الجذور في النص الأدبي، وما نقصده بالجذور هي النصوص المؤسسة للثقافة الأولى لأمة معينة، وهذه الجذور المؤسسة مختفية في التراث الكتابي أو الشفوي سواء أكانت سردياتٍ أو شعر أو أساطير وخرافات متوارثة، وحتى نقوش ولقى وتماثيل، فالانقطاع عن الجذور سيكون كمن يسبح في دوّامةٍ عاتية بدون هدفٍ تتقاذفه الأهواء وسيكون عاريا بدون موانع من الاستلاب والتأثر بتراث الأمم الأخرى لحد التماهي والتشوه التام للشخصية العربية.
يقول نورثروب فراي وهو يقرأ التراث الغربي متمثلا بالكتب المقدسة(توراة العبرانية والعهد القديم) بحثا عما يسميه بالشفرة الكبيرة: "إن إحدى وظائف النقد العملية، وأعني به التأسيس الواعي لتراث ثقافي ما، هي في تقديري أن تزيد في إدراكنا لشروط موائمة الميثولوجيا"، وحينما استيقظ الغرب ولكي يتخلص من الرداء الاسلامي فلسفة وفكرا وأدبا، وجدناه يربط تراثه ومقولاته بالتراث اليوناني وفلاسفته برغم وثنيتها ومسيحيته، ونافضا يديه من كل التراث الشرقي برغم اعترافه ضمنيا بفضله عليه ولكن بدون الإفصاح عن ذلك، وهذا يعني أنه استطاع أن يلتقط الجذر المؤسس لحضارته الوليدة ويربط نفسه به ويبني عليه من جديد حضارته الشاهقة والمعروفة.
الغرب يعرف اليوم أن هنالك نصوصا تأسيسية قديمة كملحمة جلجامش والنصوص الأخرى من سومرية وبابلية وهي أقدم من التراث اليوناني لكنه وبفعل مركزيته لم يبن عليها بل أعاد إنتاجها بفهم توراتي لنتلقفها نحن منه، والكثير من الأدباء استفادوا من الغصن الذهبي لجيمس فريزر ليدسوا أساطيرغربية في الشعر الحديث، ولكن هنالك الميثيا العربية القديمة التي تم حجرها والتعتيم عليها بصورة عامة بعد ظهور الاسلام وتحولت إلى مجموعة من العبر والدروس الإخلاقية لأغراض دينية وتم تفريغها من معانيها الظاهرة والعميقة ولتذوب على شكل قصص للأنبياء يتداولها الإخباريون العرب على مدى التاريخ، وقصص تحكيها الجدات لأغراض التسلية للصغار قبل النوم، حتى الشعر العربي بعد الإسلام كان يتناولها بمفهوم يقترب من الحكمة وعدم الغوص في محتواها التاريخي والفكري.
يقول ياروسلاف ستيتكيفيتش بحالة تشبه اليأس عنّا: فأنني أجد من الصعوبة البالغة أن أقترب من مهمة"تأسيس نقدي" للتراث الثقافي العربي، ومكانة الأسطورة فيه، ذلك أن العرب، أو العالم الناشئ قي أحضان التراث العربي، والناطق باللغة العربية، يُنكر إنكارا عنيداًـ وبملء إرادته، وبلا تحفظ من ضيق نطاق البلاغة الصريحةـ الإقرار بوجود"شروط موائمة الميثولوجيا" ، وهذا يعني بصريح العبارة أنه يؤشر خللا بنيويا في منظومتنا الثقافية، فأننا لا نعرف من أين نبدأ ولا ندري إلى أين نريد الوصول، فنحن نرفض البناء على الأسس القوية التي ورثناها ولا نريد متعمدين ربطا وتواصلا مع جذورنا، فنحن نتعامل تاريخيا مع نصوصنا المؤسسة بلغتين فالأولى لغة المنتصر عندما انتصر الإسلام ووسم العصور السابقة له بالجاهلية ولم تكن جاهلة فهي تعرف التوحيد والعرب كانوا يهودا ونصارى ومسيحيين وأيضا وثنيين قبل الإسلام، والثانية بلغة المنهزم حينما سقطت الحضارة العربية الاسلامية وانزوت الشعوب في سباتها العميق وصولا لاستعمارها من قبل الغرب الكولونيالي.
اليوم وبعد الحفريات الكبيرة واكتشاف نصوص مؤسسة كبرى ما أحوجنا لربط ثقافتنا بهذه النصوص ورد الاعتبار لها ، والتعامل معها بكونها نصوصا ثقافية بعيدا عن المقدس الديني (مع احترامنا الشديد له) وإعادة كتابة أساطيرنا وحكاياتنا بمنهج علمي بعيد عن التحريم أو التقديس بل انتشال تراثنا كما هو لنقرأه قراءة نقدية فليس من مهمة المستشرقين أن يقرأوا تراثنا ويؤسسوا له نقديا ونحن لا نعير له اهتماما يستحقه. وبالتالي فربط ما هو منقطع وتقوية ما هو واهٍ هو من مهمة النقد الحديث بل والأدب الحديث بفنونه كافة، بدلا من هذا التخبط والفوضى التي تحيق بنا من كل جانب والأمراض التي يعاني منها الأدب وهي نفسية سواء أكانت مجتمعية متوارثة أوذاتية بمعظمها.

البصرة- الاثتين
‏23‏/08‏/2021‏ 12:53:45 ص




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى