حميد اليوسفي - تخيل أنك أصبحت عُمدة!؟.. قصة قصيرة

تخيل أحمد أنه ترشح للانتخابات ، ونجح ، وأصبح عمدة المدينة ! فسأل نفسه :
ـ ماذا ستفعل يا أحمد ، ها أنت وجها لوجه مع الكرسي الذي يحلم به كل المرشحين ؟
ضحك حتى دمعت عيناه ، وقال :
ـ هذه المرة ذهبتَ بعيدا . من سابع المستحيلات ، واحد مثلك لا يجد أحيانا ما يأكل ، يستيقظ في الصباح ، ويجد نفسه يحكم مدينة ، وكأنه بطل قصة من قصص ألف ليلة وليلة ؟ هذا هو الهبل بعينيه !؟
بدأ أحمد يشرح لنفسه الفكرة من جديد ، حتى أقتنع بان الأمر يتعلق بمجرد لعبة ، يمكن أن يلعبها أي مواطن مع نفسه ، ولو في الخيال . ومَثّل لذلك بما صرح به رئيس الحكومة في البرلمان ، وكيف أصبح بين عشية وضحاها في موقع لم يكن يخطر له حتى في الأحلام .
انتبه أحمد إلى الفخ الذي أوقع فيه نفسه :
ـ رئيس الحكومة يجر وراءه حزبا كبيرا ، والكبير هو الله ، وتدعمه مئات الجمعيات الدينية السلفية ، ناهيك عن الدعم الذي يتلقاه من الخارج . وأصحابه في التنظيم يملكون أموالا لا يعلم حجمها غير الله . أما أنت فمجرد مواطن ضعيف ، مغلوب على أمره ، من سيقف خلفك ؟ ومقابل ماذا ؟
لتصبح عمدة ، لا بد أن تتوفر على حزب منظم وقوي ، يمتلك مشروعا مجتمعيا ، ومتلاحم مع المجتمع ، أو مع جزء كبير من المجتمع ، ليس بالشعارات ، ولكن بالاحتكاك اليومي يقاسمه آلامه وآماله . مثل ما يحدث عند الغربيين . المشكل ، عندنا أحزاب على قدِّ الحال . في غالب الأحيان تجدها في واد ، والمجتمع في واد آخر .
ـ لا نستطيع أن نستورد لك حزبا من اليابان ، يا أخي انطلق من واقع الحال !؟ اقنع بما هو موجود ؟!
صمت أحمد قليلا ، كأنه يستجمع أفكاره ، ثم قال :
ـ وهل يستطيع أي مواطن مهما علا شأنه أن يسير مدينة من موقع العمودية من غير تكوين في مجال التسيير ؟ أم تريد (حجّاما)* يتعلم الحلاقة في رؤوس الأطفال اليتامى .
ـ وإذا تجاوزنا التكوين ؟!
ـ أول مشكل سُيواجه من يترشح لمنصب العمدة ، هو الحصول على أصوات الأغلبية ، أي الدخول في تنسيق مع بقية الأحزاب والمستشارين . ألا تلاحظ أن أغلب المستشارين عندنا ، بمجرد ما ينجحون يختفون حوالي شهر ، وكأن الأرض ابتلعتهم . ويوم انتخاب العمدة ومكتب المجلس يأتون محاطين برجال أمن خاصين يمتلكون كلابا شرسة ومدربة ، وربما يحملون أسلحة مرخصة . أنا أسمع مثل باقي المواطنين أن صوت الناخب الكبير ، قد يصل إلى عشرات الملايين ، لست متأكدا من ذلك ، لكن المنطق يسير في هذا الاتجاه . الناس لا تخسر أموالها في الانتخابات من أجل المصلحة العامة . كيف سأصعد إلى هذه العمودية ، وأنا ربنا خلقتنا ؟!
ـ لنتجاوز هذه العقبة ، ونفرض أنك فزت بالعمودية ، وتشكل المكتب ، وتوزعت المسؤوليات ؟!
ـ إذن تطلب أن أفعل مثل بطل العالم بوبكا* أقفز على الزانة ، وأقدم بعض الاحتمالات .
ـ حسنا الاحتمال الأول ، سأعمل مثل عمدة من أوروبا . أول شيء سأفكر فيه هو تشخيص الوضعية . حصر ممتلكات المجلس والمداخيل والمصاريف ، ثم بعد ذلك أرى أين توجد الأمراض وما نوعها . وأشكل فريقا من الخبراء لاقتراح الحلول المناسبة ، ووضع مشروع برنامج لتنمية المدينة وأفتح نقاشا حوله مع السكان .
عندما تُغلِق الصنابير المفتوحة عن آخرها ، وتَحبس تدفق المياه بشكل مفاجئ ، وتلجأ إلى منطق الحساب صابون* ، ستجد نفسك وجها لوجه مع مسامير المائدة* . الحزب سيتلكأ في الدفاع عنك ، ويدخل في مساومات . ستتوقف المشاريع ، ثم أشغال المجلس ، وتسوء أحوال المدينة ، وتنشتر حولك الاشاعات ، وسيصبح الانقلاب على العمدة أمرا مشروعا ..
باي باي العمودية .
من يعتقد بأنه يمكن أن يشتغل بعقل أوروبي ، وليس وراءه حزبا قويا ، وليس مسنودا بساكنة المدينة ، ولم يطلب من الله أن يحالفه الحظ ، فهو واهم .
ـ والاحتمال الثاني ؟
ـ الاحتمال الثاني ، لا بد أن تكون شيطانا أو جنا باللهجة المحلية أو داهية باللغة العربية ، تفهم جيدا عقلية المغاربة ، تعرف كيف تترك المياه تمر من المجاري بالقدر الذي تسمح به الظروف . تُشخص الوضع ، تقترح الحلول . لكن لا بد أن تفتح الأنبوب قليلا لمسامير المائدة ، ولا تترك الماء يتدفق ، أي لا تغلقه بالكامل ولا تفتحه بالكامل . ولا بد أن تُقنع المكتب بأن يفكر قريبا من هذا المنطق ، وأن تكون مسنودا من الحزب والسكان ، وتطلب من الله أن يقف بجانبك ، وقد تنجح ، وترى المشاريع النور ، ويمدحك سكان المدينة ، ويذكرونك بالخير في غيابك .
ـ هل هناك احتمال آخر ؟
ـ نعم الاحتمال الذي خرب العديد من المدن ، وحولها إلى قرى مكتظة بالسكان . أنت عمدة دورك أن تأمر بشراء سيارات الخدمة ، وتركب أحسنها ، وتأكل المكسرات ، ، وتوقع الأوراق ، وأحيانا تأخذ نصيبك من العمولة ، وتترك مسامير المائدة يهيئون المشاريع وينفذونها . وربما تتورّط من غير أن تشعر بالتوقيع على وثائق ، قد تقودك إلى السجن ، فتتحول بسرعة إلى خاتم في أصبعهم .
تتناول الطعام في أفخم المطاعم . وقد تفتح بيتا ثانيا وثالثا ، وتنام في أحضان بنت الثامنة عشرة ، وبنت الثلاثين ، وتتوسط لهما في شغل ، ودائما على حساب المجلس . لا يراك الأبناء والزوجة القديمة إلا يومين في الأسبوع أو أقل . يزورك عمك ، أو خالك في البيت ، ويطلبان منك البحث عن عمل لوائل ونجلاء ، وقد تجرك عاطفة الدم إلى العمل بقانون في المقربين أولى ، كما تفعل مع أصدقائك في الحزب والمجلس .
دائما تشكو من كثرة الانشغال والاجتماعات التي تبدأ ولا تنتهي . تأخذ يوم الجمعة سجادتك ، وتذهب إلى المسجد ، مكانك محفوظ في الصف الأمامي بجانب الأعيان . تعود بعد الصلاة إلى البيت ، وتتناول الكسكس مع الأبناء والزوجة الأولى . عندما تنظر إليك المسكينة ، تُحس بأن نظراتك الزائغة تفضح ، بأنك لم تصن عهد الملح والطعام المشترك بينكما . أحيانا تخجل من نفسك ، وتطلب من الله أن يغفر لك ، وأحيانا تبرر غدرك بطبيعة تقاليد الحياة في أعلى هرم المجتمع ، وتطلب في صمتك أن تحمد الله وتشكره ، فقد أصبحت مثل حذاء قديم غير صالح للاستعمال .
تنتهي الولاية ، وإذا لم يُزجّ بك في السجن ، تجد نفسك دخلت المجلس بدراجة عادية ، والآن تخرج منه وأنت من أصحاب الملايين .
ـ أظن أن الاحتمالات انتهت ؟
ـ لا . ما زال احتمال أخير .
ـ قبل أن أتحول إلى عمدة في الخيال ، كنت مواطنا بسيطا ، أسكن في حي شعبي . أتبادل التحية مع الجيران ، وأحيانا نلتقي في الحمام أو المسجد . أقتني المواد الغذائية من دكان حماد صاحب البيسري* . أسير في الظل ، وأعود إلى بيتي باكرا . أكتوي بنار ارتفاع الأسعار مثل باقي الناس . أفكر بين الحين والآخر في تدهور التعليم والصحة ، وانتشار وباء كوفيد ، وما خلفه من أزمة ، وهؤلاء الباعة المتجولين ، وأصحاب السترات الصفراء ، والشباب العاطل ، والملك العام المحتل ، والحفر التي تملأ الأزقة والشوارع ، والنقل ، والأزبال ، وانتشار الجريمة ، وندرة المرافق الترفيهية .
حتى الموظف الذي يجلس في المكتب يبدو غاضبا ، أتحدث معه ، ولا يرفع حتى رأسه ، لينظر إلي .
وأتساءل كباقي المواطنين بمرارة : أين تذهب أموال الشعب ؟!
عندما تخيلت نفسي أشغل منصب عمدة لبضع لحظات ، عرفت أغلب المجاري التي يمكن أن تتدفق إليها كل هذه المياه .
المعجم :
ـ حجام : حلاق .
ـ بوبكا : من أصل روسي ، بطل للعالم في القفز على الزانة خلال مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي .
ـ الحساب صابون : تدقيق الحسابات
ـ مسامير المائدة : كناية عن لوبي يرفض التغيير حفاظا على امتيازات يحظى بها .
ـ البيسري : متجر المواد الغذائية .
مراكش 29 غشت 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى