مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - الفتنة الكبرى _عبدالله بن سبأ

يقال أن رجلا يدعى عبد الله بن سبأ ، هو من أسس لبدايات الفتنة.
وهو اليهودي المعروف بابن السوداء، الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر والعداوة للإسلام .
توجّه ذلك الرجل إلى البصرة التي كانت تحت إمارة عبد الله بن عامر.
وقد علم عبدالله بن عامر : أن في عبد القيس رجلاً يدعى عبدالله بن سبأ نازلاً على رجل يدعى حكيم بن جبلة العبدي.
فأرسل إليه ابن عامر فسأله: من أنت؟
فقال: رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك.
فقال: ما يبلغني ذلك، اخرج عني.
فخرج حتى أتى الكوفة، فأُخرج منها، فقصد مصر فاستقر بها.
وكان ابن سبأ يكثر الطعن على عثمان ويدعو في السر لأهل البيت، ويدعى
إن محمدًا يرجع كما يرجع عيسى
وعنه أخذ ذلك أهل الرَّجْعَةِ، وإن عليًّا وصيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن عثمان أخذ الأمر بغير حق.
و ظلَّت الرسائل تُتَبادَل بين أهل الفتنة في مصر والبصرة والكوفة، يحرِّض بعضهم بعضًا فيها على ولاة عثمان رضى الله عنه، ثم على عثمان نفسه حتى وصل الأمر إلى قدومهم المدينة في موسم الحَجِّ، وإعلان العصيان والخروج على أمير المؤمنين رضى الله عنه.
***.
عندما علم أمير المؤمنين بما خططه أهل الفتنة ، قام فأرسل إلى الكوفيين والبصريين، ونادى: الصلاة جامعة!
وأشار المسلمون جميعًا على عثمان أن يقتل دعاة الفتنة، وذكروه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
مَن دعا إلى نفسه، أو إلى أحد وعلى الناس إمام، فعليه لعنة الله .
غير أن عثمان أخذ يرد على كل ما زعموه وافتروه، والمهاجرون والأنصار يؤيدونه في كل ما يقول؛ حتى إذا انتهى من ردِّه، وقد أفحم أهل الفتنة.
"أبى المسلمون إلا قتلهم، وأبى عثمان إلا تركهم،رحمة وشفقة بهم، فذهبوا ورجعوا إلى بلادهم، مع اتفاق بينهم على أن يعودوا وسط الحجاج لاقتحام المدينة؛ فتكاتبوا وقالوا:
موعدكم ضواحي المدينة في شوال" من عام 35ه
***.
فوجِئ عثمان رضى الله عنه، بأهل الفتنة يعيدون احتلال المدينة بشكل منظَّم تم إعداده مسبقًا، ثم يحاصرون داره، ويُعدِّدون عليه اتهاماتهم؛ فردَّ عليهم رضى الله عنه كل اتهام باطل بما يدحضه، ولكن رءوس الفتنة جعلوا يقطعون كل السُّبل أمام إخمادها؛ فخيروه رضى الله عنه بين عزل نفسه أو قتله، فرفض رضى الله عنه.
***
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بشَّر عثمان بالشهادة؛ فعن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عند بئر أريس، فجاء إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟
فقال: عثمان بن عفان.
فقلت: على رِسْلِكَ.
فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال:
"ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ".
كما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاه في حياته عن خلع نفسه من الخلافة التي تأتيه؛ فعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عثمان فناجاه فأطال، وإني لم أفهم من قوله يومئذٍ إلا أني سمعته يقول له: "ولا تنزعَنَّ قميص الله الذي قمَّصك".
لذا لما طلب منه أهل الفتنة عزل عُمَّاله وردَّ مظالمهم، وقالوا:
والله لتفعلن أو لتخلعن أو لتقتلن، أبى عليهم وقال: لا أنزع سربالاً سربلنيه الله.
ولما اشتد حصارهم عليه، أرسل إلى علي وطلحة والزبير فحضروا، فأشرف عليهم فقال: يا أيها الناس، اجلسوا.
فجلس المحارب والمسالم.
فقال لهم:
يا أهل المدينة، أستودعكم الله، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي.
ثم قال:
أنشدكم بالله، هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم، ويجمعكم على خيركم؟
أتقولون: إن الله لم يستجب لكم وهنتم عليه وأنتم أهل حقه؟
أم تقولون: هان على الله دينه فلم يبالِ من وَلِي والدين لم يتفرق أهله يومئذ؟
أم تقولون: لم يكن أخذٌ عن مشورة إنما كان مكابرة، فوكل الله الأمة إذا عصته ولم يشاوروا في الإمامة؟
أم تقولون: إن الله لم يعلم عاقبة أمري!
وجعل عثمان يوضح لهم فقال: وأنشدكم بالله أتعلمون لي من سابقة خير وقدم خير قدمه الله لي ما يوجب على كل من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها!
فمهلاً لا تقتلوني، فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر بعد إيمانه، أو قتل نفسًا بغير حق، فإنكم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبدًا.
ثم لزم عثمان رضى الله عنه بيته، وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم، فرجعوا إلا نفر قليل منهم الحسن بن علي وابن عباس، ومحمد بن طلحة، وعبد الله بن الزبير ، واجتمع علي عثمان أعداد كبيرة من الناس ، فكانت مدة الحصار أربعين يومًا، فلما مضت ثماني عشرة ليلة قدم ركبان من الأمصار فأخبروا بخبر من تهيأ إليهم من الجنود وشجعوا الناس، فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان ومنعوه كل شيء حتى الماء.
فأرسل عثمان إلى عليٍّ سرًّا وإلى طلحة والزبير وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إنهم قد منعوني الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا.
فكان أوَّلهم إجابة علي، وأم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء عليٌّ في الغلس فقال: يا أيها الناس، إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي!
إلا أنهم منعوه فعاد إلى داره غاضبا.
وجاءت أم حبيبة، زوجة الرسول على بغلةٍ لها، فضربوا وجه بغلتها، فقالت:
إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل، فأحببت أن أسأله عنها لئلاّ تهلك أموال الأيتام والأرامل.
فاتهموها بالكذب وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فنفرت وكادت تسقط عنها، فتلقاها الناس فأخذوها وذهبوا بها إلى بيتها.
***
طفق عثمان رضى الله عنه يُذَكِّرهم بسابقته في الإسلام، ومكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضحياته من أجل الدين؛ فقال:
أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة بمالي ليستعذب بها، فجعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين؟
قالوا: نعم.
قال: فلِمَ تمنعوني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر؟
ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا فزدتها في المسجد؟
قيل: نعم.
قال: فهل علمتم أن أحدًا مُنع أن يصلي فيه قبلي؟
ثم ذكرهم بمكانته عند الرسول وتكريمه له وذكر لهم بعض مما قاله الرسول في حقه.
فرقت قلوب الناس، وجعلوا يقولون: مهلًا عن أمير المؤمنين.
فقام الأشتر محتدا، وصاح بهم : لقد مكر بالنبي، والآن يمكر بكم.
فجاء عدد من الصحابة وأبنائهم كي يدافعون عن عثمان ، ولكنه أمرهم بالانصراف، حرصا على حياتهم
عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عثمان في الدار فقال:
أعزم على كل من رأى أن عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه.
وحين جاء زيد بن ثابت فقال له:
إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون:
إن شئت كنا أنصار الله، مرتين.
قال عثمان: لا حاجة بي في ذلك، كُفُّوا.
وقال له أبو هريرة: اليوم طاب الضرب معك.
قال: عزمت عليك لتخرجَنَّ.
وكان الحسن بن علي آخر من خرج من عنده.
***
في يوم الجمعة 18 من ذي الحجة سنة 35هـ قُتِل الشهيد عثمان بن عفان رضى الله عنه، وكانت صدمة كبيرة حتى أن المدينة بقيت خمسة أيام بعد استشهاد عثمان رضى الله عنه بلا خليفة.
حاول عبثا أهل الفتنة استمالة أحد الصحابة لتوليته الخلافة ،فكان يأتي المصريون عليًّا فيختبئ منهم ،ويطلب الكوفيون الزّبير فلا يجدونه، ويبحث البصريّون عن طلحة فإذا لقيهم باعدهم مرَّة بعد مرَّة.
ليتضح أن أهل الفتنة، كانوا مجتمعين على قتل عثمان، ولكنهم كانوا مختلفين فيمن يَولون ، فلما لم يجدوا مجيبًا، قالوا:
لا نولِّي أحدًا من هؤلاء الثلاثة.
فبعثوا إلى سعد بن أبي وقاص وقالوا له : إنك من أهل الشورى؛ فرأيُنا فيك مجتمعٌ، فاقدمْ نبايعك.
فبعث إليهم:
إني وعبدالله ابن عمر خرجنا منها.
فذهبوا لعبدالله بن عمر ، و قالوا له :
أنت ابن عمر، فقم بهذا الأمر.
فقال:
إنَّ لهذا الأمر انتقامًا، والله لا أتعرّض له، فالتمسوا غيري.
فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون، والأمر أمرهم ،إلا أنهم خافوا على أنفسهم إن لم يقبل أحد الصحابة الخلافة، وقالوا:
إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بعد موت عثمان، ودون أن يكون هناك خليفة عوضا عنه، فلن نسلم.
لذا عزموا -وهم في أوْج قوتهم، وسيطرتهم على الأوضاع بالمدينة- على أن يُوَلُّوا خليفة بأقصى سرعة، فجمعوا أهل المدينة، عنوة وقالوا لهم:
يا أهل المدينة، أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وحكمكم جائز على الأمة، فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبعٌ، وقد أجلناكم يومكم، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلَنَّ غدًا عليًّا وطلحة والزبير وأناسًا كثيرًا!
فهرع الناس إلى على مذعورين، قالوا له :
نحن نبايعك؛ وأنت ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من بين القرى.
فقال علي:
دعوني والتمسوا غيري؛ فإنا مستقبلون أمرًا له وجوه وله ألوان، لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول.
فقالوا متوسلين : ننشدك الله!
ألا ترى ما نحن فيه؟
ألا ترى الإسلام؟
ألا ترى الفتنة؟
فقال على على كره :
قد أجبتكم، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، ألا إني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه.
وفي صبيحة يوم البيعة، وقد كان الجمعة، حضر الناس المسجد، وجاء عليٌّ فصعد المنبر وقال:
أيها الناس، عن ملأٍ وإذن، إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنتُ كارهًا لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألاَ وإنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم معي، وليس لي أن آخذ درهمًا دونكم، فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد.
فقالوا جميعا:
نحن على ما فارقناك عليه بالأمس.
قال: ففي المسجد، فإنَّ بيعتي لا تكون خفيًّا، ولا تكون إلاَّ عن رضا المسلمين.
فدخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعه الناس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى