محمد فرحات - حبرُها الأحمر..

(إلى أمى التي لا تزال تعيش معي في بيتي.. يرحمها الله)

هذه كانت كلماتي في منتصف الصفحة الأولى..
وبدأ قلمي يرسم في الصفحةِ الثانية هذه الكلمات..

"منذ أنْ ماتت أمي وأنا أظنُ أنَّ الحنان قد مات فى هذه الحياة..
كثيرًا ما أنظر إليها بتطفلٍ من نافذة غرفتى التي تطل على شقتها الرائعة..
أعلم أنها تعيش وحدها..
فلم أر معها أي شخص، ولم يزرها أي شخص..
وكأنَّ لا أحد لها..
ومع ذلك كانت شقتها الكبيرة - دائمًا - مرتبة ونظيفة..
كانت تُمضي معظم نهارها فى إعداد الطعام، لم أعرف لمن!
وتجلس أمام المنضدة تنتظر شخصًا ما، لا يأتي دائمًا..

وفي بداية الليل تجلس على أريكتها وهي تقرأ كتابها المقدس باهتمام وكأنها تصلي
من نظراتي المتلصصة إليها أصبحت أعرف كل تحركاتها وأفعالها المعتادة..
كنت أحاول كتابة شيء ما عنها..
فقد ترك رحيل أمي داخلي دائرة مفرغة من النبض أفرغت كتاباتي من العاطفة..
وانتظرت طويلاً كي أشعر بمثل الإحساس مع هذه السيدة الكبيرة الوحيدة..
- من بعيد - وقفتُ أتابعها من نافذتي في سكون..
ولكنها رأتنى..
احمرت وجنتاى خجلاً، وهي تنادي عليّ أن أذهب إليها..
فذهبت..
تفحصت عيناها جسدي النحيل وأصرتْ أن أتناول وجبة الغداء معها..

كان الطعام رائعًا، وكان البيت يسوده الصمت والهدوء..
كنت أعرفه جيدًا مثلما أعرف بيتى..
بدأت هي الكلام معي..

وفى وقتٍ قصيرٍ تكلمت معي فى كل شيء، بِدءًا من كيفية إعداد طعامها وحتى المشاجرات الرئاسية.. وأخذها كلامها إلى الدولة التى تحكم العالم، وقالت لي إنها تعلم أن هذه الدولة هي التي تدعم الدولة التي ليست لها دولة..
قالتها وكأنها الوحيدة التي تعلم ذلك..
لكنَّ فطرتها وطيبة قلبها هما ما جذباني إليها، وجعلاني أستمع إليها في صمت..
وأحرك رأسى فقط دالاً على موافقتى لما تقوله..

وفي ذلك اليوم الذى لن أنساه، جاءت لحظة لم تكن في حسباني..
كنت وقتها كعادتي بغرفتى في جوف الليل.. أكتب، ومضت ساعات وأنا أجلس حتى تخدلت قدماي، فقمتُ أتحرك من جِلستي..
فشعرتُ بشيءٍ ما يقف في حلقي، فخرجتْ مني تنهيدة قوية وخرجتْ معها قطرات دم من فمي..

دهشتُ في اللحظةِ الأولى، ولكن زالت هذه الدهشة حين رأيته يخرج بكميات كبيرة؛ حتى ملأ أرض غرفتي، وانثنى جسدي أمامًا وهوى إلى الأرض، وارتطم رأسي بالحائط..
وفقدتُ كل الأحاسيس، إلا واحدًا.. أننى غير موجود..
وخرجتْ مني أناتٌ لم أخرجها، ولكنها خرجت مني وحدها كي توقظ أهلى النائمين،
فأسرعوا إلى غرفتي، وصُدموا حين رأوني مُلقًى على الأرضِ، غارقًا في دمائي..

رفضتْ عقولُهم أنْ تستوعب الموقف المريب واحمرت وجوههم، وسريعًا غاصت أقدامهم في دمائي؛ كي ينقذونى..
وأظنهم ظنونى مُنتحرًا..
وبعد كثيرٍ من الثواني استوعبت عقولهم الموقف، فتكلموا وهم يصرخون، وأيقظ صراخهم كل جيراننا.. وكانت من بينهم..

ظهر رقم سيارات الإسعاف على عدة هواتف محمولة يطلبها..
وفي دقائق حضروا إليهم..
ارتدت أيديهم قفازات بيضاء، وحملونى من دمي، ووضعوني على سريرٍ صغيرٍ حملوه..
وساروا بي إلى سيارتهم..
طارت السيارة غير عابئة بجموع المحتشدين أمام بنايتنا محاولةً إنقاذي..
وصوتها الدائرى يصرخ عاليًا في كل مكانٍ ليعلن للجيران أننى سأنتهي.. وبدأت فى توصيلي إلى المستشفى..

لم أشعر بها، ولكني علمت أنها بكت وصرخت من أجلي، وكأنني ابنها الوحيد التي لا تملك غيره..
سألوا الجيران بعضهم.. هل سأعيش أم سيأخذون إجازات من أعمالهم اليوم؛ حتى يحضروا عزائي..

وجاء معي في السيارة اثنان من أهلي، ومن بقى بالبيت، تحركوا غير مدركين ما يفعلون..
حاولوا تنظيف غرفتى من الدم، ولم يجدوا له مكانًا غير الحمام..
وسارت دمائي فى مجاري الصرف الصحى بعد أن كانت تدور في عروقي..
رقدتُ على سريرٍ أبيض في غرفةٍ كبيرةٍ، وحاطنى عددٌ كبيرٌ من الأطباء والممرضات..
تهامس الأطباء، فهرولت الممرضات تتفحصن أكياس الدماء المخزنة، أيها يناسب جسدي!

أرهقت بحثهم فصيلة دمي، فلم يجدوا إلا كيسًا واحدًا فقط..
كانوا يحتاجون لكميةٍ كبيرة من الدمِ ليدخلوها إلى شراييني لكي أعيش..
فخرجوا إلى الناس يسألونهم من يعطينى جزءًا من دمه..
الآن سأصبح مدينًا لأحدهم...

لم يجدوا غير ثلاثة أشخاص بداخلهم فصيلة دمي، وكانت واحدة منهم، بل أنقاهم دمًا..
رقدوا بجانبي واحدًا تلو الآخر، آخذ منهم دماءهم..
وكان النصيب الأكبر منها..
خرج منها السائل الأحمر داخل الخراطيم البلاستيكية الشفافة، حتى وصل إليّ، وعادت لي الحياة..
فقد متُ يومًا، ودمها توسل إلى الله أن أحيا من جديد..

أصبحت أعيش وهو يدور داخلي كل يوم، ودمي القديم فقدته إلى الأبد..
ولكنني أشعر الآن أنني أفضل..
مضت الأيام وأنا أفكر فيها، علمت بعدها أنها تأثرت كثيرًا، ولزمت فراشها..
فقررت أن أزورها..
وتكررت زيارتي لها كل يوم..
كنت أتذكرها كلما احمرت وجنتاى..
كلما جُرحت وخرج دمها مني.. كلما أخذوا منه للتأكد من صحتى..
تمنيت أن أهديها شيئًا غاليًا، ولكنى لم أجد أغلى مما أهدته لي..
لم أستطع فعل شيء لها غير مودتها إلى نهاية حياتها، فهى تصبح فى أشد حالات الفرح والسعادة وأنا أعاملها وكـأننى ابنها..

الآن عادت لي أمي من جديد، بل لم تعد أمًا واحدة بل أصبحتا اثنتين..
ولم أشعر أننى أغضب أمي يرحمها الله حين أتخذها في قلبي أمًا..
إنهما أمي..
جسدان، وروح واحدة.."

وتلك كانت كلمات الصفحة الأخيرة من قصةٍ نسجها دمها ودونتها في شعوري.


محمد فرحات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى