أنطون تشيكوف - في الظلام.. ترجمة: مصطفى جميل مرسي

الكون غارق في السكون. . . والفضاء العريض يموج في رهبة، وقد هجع كل حي إلى مضجعه يتقلب في جنوبه. . . والطير قابعة في أوكارها تحتضن صغارها. . . حتى من وكل إليه الأمن قد سرت سنة من النوم إلى جفونه فراح يغط في خفقة وسبات.

ولف ظلام السحر كل شيء سوى غلس الصبح الوليد في الشرق وهو يتجلبب بصفرة شاحبة. . . وعلى حين فجأة ولجت ذبابة أنف (جاجن) مساعد المحصل. . . لعل حب الاستطلاع أو لزق الطيش هو الذي دفعها إلى ذلك العمل، أو لعلها الصدفة المحضة. . .

بيد أن خياشيم الأنف ساءها ذلك الدخيل فانفكت تعطس وتعطس. . . فأفاق (جاجن) إبان هذه الموجة الحادة من العطس وقد بلغ من حدتها أنه كانت ترج الفراش رجاً عنيفاً. . .

أما زوجة (جاجن) وتدعى (ماريا ميلوفا) - وهي امرأة مفاضة فارغة حسناء الوجه - فهبت في هيعة وفزع، وقلبت طرفها يضرب في حلكة الظلام الدامسة، وحملقت فينة ثم انطرحت على جانبها الآخر. ولم تلبث بعد فترة وجيزة أن عادت إلى ما كانت عليه، وأرخت أهدابها عسى النوم يدب في عينيها ثانية. . . ولكن هيهات فقد سرى السهاد إليهما فلم يغمض لها جفن. . .

نهضت من فراشها، واحتذت نعليها وقامت إلى النافذة حيث تجول بصرها في أكناف ذلك الليل البهيم. . . وقد بدت فيه سامقات الشجر كأنها عمالقة من الشياطين. . . وندت عن (ماريا) صيحة فيها عجب وفيها فزع قطعت الصمت الذي شاع في ثنايا الظلام. كانت تحملق أمامها وقد ثبت بصرها على شبح يتسلل في رفق وحذر إلى صحن الدار. . . فدار بخلدها أنه ربما كان جواداً نافراً، ولكن مقلتيها ما لبث أن وضح لهما ذاك الشبح فإذا به رجل يتشح بالظلام. وأومض بعقلها أنه لص في سبيل السرقة. فاكتسى وجهها شحوباً أضفاه عليه الذعر وصفرة الغلس. . .

وفي لحظات نشط ذهنها يصور بيراع الخيال أوهاماً وأوهاماً. قوامها سيدة تعيش في الريف، ثم سارق يتلصص خفية إلى حجرة المطبخ. . . ومن المطبخ إلى حجرة الطعام. . . وثمت الأشياء الفضية من ملاعق وقواطع. . . وبعدئذ إلى مخدع النوم وفي يده فأس حيث يعثر على الحلي والنقود. . . ولم تلبث أن هوت ركبتاها، وسرت رعدة من أم رأسها إلى أخمص قدميها. . .

راحت تهز زوجها وتهتف في هلع (فاسيا. . . باسيل. . . انهض. . . آه يا إلهي لكأنه فارق الحياة. . . استيقظ أيها الرجل باسيل أتوسل إليك. . . انهض. . .) فقبع مساعد المحصل في فراشه، وقال في صوت شابه اضطراب في قرارة نفسه (حسناً!).

- (بالله أفق. . . هناك سارق تسلل إلى المطبخ، لقد كنت قائمة عند النافذة، عند ما لمحته يختفي في نافذة المطبخ. . . إنه بلا ريب سيجتازه إلى غرفة الطعام حيث الملاعق والصوان. . باسيل! لا تدري أنهم هاجموا (مافرا يجروفنا) في العام الماضي؟!)

- (هه. . . ما الذي حدث؟!).

- (آه!. . يا للسماء. إنه لم يدرك بعد ما أنطق به. . . أنصت أيها الأبله، هناك لص ولج نافذة المطبخ، وسوف ينخلع فؤاد (بلاجا) فزعاً وفرقاً. . . هذا مع أن الأشياء الفضية في الصوان بغرفة الطعام. . .).

- (هذا حديث لغب؟. .).

- (باسيل. . . لا أطيق ذلك. . . أخبرك بالخطر الجاثم، وأنت تفحفح في نومك غير ذي بال؟! ما الذي ترجو من وراء ذلك؟! أتشاء أن نجرد من أموالنا وحاجياتنا؟).

فثاب مساعد المحصل إلى نفسه وقام من فراشه يملأ صدره بنسيم السحر المنعش. ثم تثاءب في تؤدة ومهل. . . وراح يتمتم:

- (ليس ثمت من يقف على سريرة تلك المخلوقات الضعيفة العجيبة. . . النساء.

سوى الله!. أما بمقدورك أن تتركي الإنسان يغمض جفنيه جنحاً من الليل لا تزالين تهزينه حتى يستيقظ، فتطرقي سمعه بهذا اللغو!).

- (ولكن أقسم يا باسيل أني لمحته وهو يداف إلى حجرة المطبخ!).

- (وما الذي يثير عجبك من ذلك؟! إنه بلا شك الجندي الذي يعشق (بلاجا) وتعشقه. . . ويسرى إليها على الدوام في هزيع الليل. . .).

- (هه!. . ما الذي تفوه به؟!.).

- (. . . إنه الجندي الذي يعشق (بلاجا). . .) فصاحت (ماريا ميلوفنا) في زحير.

(علة أقبح من العذر. . . إن التلصص أخف وطأة منها. . . لست أرضى عن هذا الفاسق بداري. . .).

- (عجباً. . . إننا طهيرا الثوب عفيناه. . . فما الذي يضيرنا من وجود هذين الفاسقين؟! وما نفيد من تدويم هذه الكلمات الجوفاء؟ يا فتاتي إنها الحياة. . . وهكذا جبل الخلق منذ فطر العالم وما هذا الجندي بملاك يعف عما درج عليه غيره. . .).

- (كلا يا باسيل. . . فهذا ما لا يتفق وهواي. . . إني لا أكاد أتصور أن مثل هذا!. هذا!. يحدث في عقر داري. . . ينبغي عليك أن تهم إلى المطبخ، وتطرد هذا الفاسق شر طردة وفي الغداة سأنهي إلى (بلاجا) أنها ستفقد عملها إن هي عادت فسلكت هذا السبيل الشائن، وحين أغادرك إلى ظلمة القبر وأودع الحياة. . . فافعل ما يحلو لك. . . ولكن إياك أن تأتي ذلك، وأنا على قيد الحياة. . . باسيل! أتوسل إليك أن تقوم إليهما. . .)

فقال (جاجن) في نهيم وتذمر:

(عليك لعنة الله. . . بالله تدبري بمنظارك النسائي الضعيف: ما الذي أفعله لهما؟!).

- (باسيل!. إني لأحس أن الإغماء يغشيني. . .). فعجل (جاجن) بوضع قدميه في نعليه. . . وراح يهمر لعناته في سبيله إلى المطبخ. . .

وكان الظلام يطوي كل شيء تحت مطارفه السود. . . فراح مساعد المحصل يتلمس طريقه في حذر. . . واتخذ وجهته نحو غرفة الأطفال، وأيقظ الحاضنة قائلا في نحيط:

(لقد أخذت معطفي لتنظيفه مما علق به!. فأين هو؟! يا (فاسيليا)!).

(لقد ناولته (لبلاجا) لتنظفه. . . يا سيدي!).

- (يا للعبث. . . أنت تأخذينه ثم تردينه!. . ماذا اطرح على جسدي الآن؟!).

وما كاد يصل إلى المطبخ حتى اتخذ سبيله إلى ركن قام فيه صندوق من الخشب رقدت عليه الطباخة (بلاجا). . . فقال وهو يتحسس كتفيها، ويهزهما في عنف (. . . بلاجا!. .

بلاجا!. . لا تدعي النوم أيها الخبيثة الماكرة. . . من الذي ولج غرفتك منذ برهة وجيزة؟!).

- (سي!. سي!. سيدي! عم صباحاً: من الذي يجرؤ على ولوج غرفتي؟!).

- (آه. . . دعينا من هذا النفاق والإنكار فليس هناك مجال لتصديقهما. أنهضي. . . لقد أسرى ذلك الشرير إلى غرفتك، وأنت راضية عن ذلك!. ألا تسمعين؟ وليس هناك ما يدعوه إلى الحضور سوى أنت!).

- (هه!. سيدي. . . أمستك لوثة من الشيطان، فتقذفني بهذا الهذيان؟!

رحماك يا رب. . . أظننتني بلهاء ساذجة؟. أشقي هنا سحابة يومي ولا أركن للراحة ولو لحظة. . . وتأتي في هزيع الليل فتحدثني هكذا!. ولا أتقاضى عن كدي وإخلاصي في خدمتك سوى أربع روبلات في الشهر. . . إني لأرغب العيش عند تاجر من التجار على أن أقابل بمثل هذا الجحود والإهانة!).

- (انهضي!. . انهضي. . لا سبيل إلى التنصل بالشكوى والتذمر. . . آه. . . لابد أن يغادر عشيقك هذه الغرفة فوراً. .! أوعيت ما أقول؟!.).

فقالت (بلاجا) وقد هدجت من صوتها بوادر الدمع: (لابد أن هذا يخجلك يا سيدي!. أهكذا تفعلون معشر المتعلمين؟ أتسمح لكم أنفسكم أن تتهمونا وتقسوا علينا بدلا من أن ترفهوا عنا، وتفرجوا عن أنفسنا؟! نعم من السهل عليكم أن تهينونا. . فليس هناك من ينبري لنصرتنا ويقف إلى جانبنا). وانفجرت الدموع من عينيها فراحت تنوح وتنهنه. . .

- (هيا. . انهضي. . . فما يجوز على هذا الخداع. . . لقد أرسلتني سيدتك لأخبرك أنها رأت شريراً يدلف إلى غرفتك!) ولكن (بلاجا) راحت تديم نواحها ونشيجها. . . فلم يجد (جاجن) بدا من أن يعترف من قرارة نفسه أنها مظلومة طاهرة وقد ألصق بها هذه التهمة الشنعاء إفكا وبهتاناً. . .

وهم بالعودة إلى زوجته وهو يقول: (بلاجا. . . لقد أخبرتني (فاسيليا) أنها ناولتك معطفي لتنظيفه مما علق به فأين وضعتيه؟!)

- (آه. . . معذرة يا سيدي. . . لقد غفلت عن وضعه على مقعدك. . . إنه معلق على المشجب القريب من الموقد!).

فطرحه (جاجن) على منكبيه، ومضى في هدوء إلى غرفة زوجه. . .

أما (ماريا ميلوفنا)، فلبثت تنظر بعلها في قلق وهي تهس وتهجس:

- لقد مضى منذ حين ولم يؤب! لعل ذلك الجندي الشرير لبط به الأرض. . . لعل. . . لعل. . .

وعادت تصور بيراع الخيال صورة لزوجها، وهو يمضي في ظلام المطبخ. . . ضربة أم رأسه من فأس. . . موت بلا نبس، ودم يتدفق من جروح مثخنة. . . وانقضت إثر ذلك خمس دقائق في إثرها خمس. . . ثم نصف ساعة. . . وأخيراً هاهي ذي الساعة قد بلغت السادسة ودقاتها ترن في جوف الليل البهيم فتزيده رهبة وجلالا. . . فتبلبل جبينها بعرق بارد وهي غارقة في فراشها، وصاحت على غرة: (باسيل. . . باسيل. . .) فأجابها صوت زوجها على مقربة: (ماذا دهاك؟! لم تصرخين هكذا؟ هاأنذا. . .)

- أأصابك سوء؟!

- سوء؟ كلا. . .

ومضى إلى حافة الفراش وهو يقول:

- (ليس هناك أحد على الإطلاق! إنها أوهامك وقسوتك على هاته المخلوقات. . إن بلاجا لا تقل عنك عفافاً وصوباً. . . كم أنت حمقاء! كم أنت. . .)

وراح ذلك السيل من السباب واللعن يتدفق من فم (جاجن) لقد داعب الأرق جفونه فعبثاً يحاول النوم ثانية. . . فقال وهو يضحك:

إنك لواهمة، مجهدة الأعصاب. . . ويعوز نفسك المضطربة فترة من الراحة. . . يجمل بك أن تذهبي في الغداة إلى الطبيب فتخبريه بهذه الأوهام والخيالات. . . فيتبصر في حالتك ويصف لك ما يريح أعصابك المكدودة). . .

فقاطعته زوجه قائلة:

- (ما هذا!! رائحة. . . قطران!! أو شيء آخر كالثوم أو البصل إن يتخلل أنفي في حدة. . .).

- (نعم! ثمة رائحة غريبة. . . لست بنائم. . . سأشعل الشمعة، أين أعود الكبريت. . . آه تذكرت، سأعرض عليك صورة لمحصل قصر (جستيل) العظيم. . . فقد أعطى كل من كان في المكتب نسخة من صورته عندما ودعنا البارحة. . .).

أشعل (جاجن) الشمعة وقبل أن يخطو خطوة لإحضار الصورة رنت في أذنه صرخة ندت عن زوجته. . . فلما التفت إليها رآها تحملق فيه وقد اتسعت مقلتها واستقرت عليه. . . يطل منها الفزع والهلع والعجب والسخط في آن واحد. . .

صاحت زوجته وقد علا وجهها الشحوب: (أتناولت معطفك من المطبخ؟!).

- (لم؟!).

- (انظر إلى نفسك!).

وما كاد يبصر (جاجن) ما على جسده حتى راح يحدق في عجب وذهول. . . لم يكن مطروحاً على كتفه معطفه بل معطف الجندي الشرير. . . ماذا أتى به إلى هنا!! وبينما كان يوجه إلى نفسه هذا السؤال. . . قالت زوجته في غمغمة نمت عن سخرية وسخط (أتقول؟ إن (بلاجا لا تقل عني عفافاً وصوناً). . . أيها الخنزير الأبله)

ثم غرقت في شعاب الفكر وعاد يراع الخيال يرسم صورة مخفية:

ظلام. . . هدوء. . . همس!. . و!. .



أنطون تشيخوف

مصطفى جميل مرسي
(طنطا)


أنطون تشيخوف

نشرت عام 1886. نشرت هذه الترجمة في العدد 640 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 8 أكتوبر 1945



أعلى