د عيد صالح - - مصطفى الأسمر قامة أدبية دمياطية معطاءة دؤوبة.. فى دقة وأناة وتواضع واستبسال

فى البعيد / البعيد .. حيث تقبع عين يقظة وثابة .. !! تلتقط العادي فتحيله لفانتازي .. والواقعي إلى سحري والهامشي إلى صدارة المشهد وذروة الحدث المغلف دائما بالسخرية الناعمة واللامبالاة الفاعلة .. واللاجدوى المجدية .. حيث الفرد / الذات / الأنا فى مواجهة العالم والسلطة والحاكم وحيث يهز كتفيه تحديا واستهتارا وأحيانا انسحابا داخل شرنقة تحميه أو درع يقيه الطعنات والاغتيالات والخيانات ..
ثمة كاتب اضطرته ظروف الحياة أن ينقطع عن الدراسة فثقف نفسه وغذى موهبته وتحدى إعاقته وانتصر على ظروفه / فكان بحق الرائد لكتاب القصة القصيرة فى دمياط من الواقعية للرمزية للتعبيرية للفانتازيا والسريالية فالواقعية السحرية فالغرائبية وهو فى كل المراحل .. يشغله الصراع الاجتماعي والسياسي والقومي
الإنسان فى مواجهة العالم .. فى مواجهة الحاكم فى مواجهة العسف والظلم .. فى مواجهة نفسه .. فى أزمة الوجود ربما بدا منتميا لكنه مأزوم . وربما بدا عبثيا .. لكنه عبث الواقع الذى يخرج لسانه وأسلحته وعسسه وسلطانه الضعيف / الشرس / العنيف / الهش .
عرفته عام 1964 فى رواد الأدبية فى ندوة الأثنين وكنت وقتها أكتب القصة القصيرة .. قدمتها له وهو الرائد المتمرس فإذا به على مائدة رواد يشيد بها كقصيدة لا قصة إذ كانت فى أغلبها موزونة ... وجهني سامحه الله إلى الشعر .. وظل يعاني من ذنب إزاحتي من عالم القصة لعالم الشعر وكنا وقت ذاك فى سلطة الواقعية الاشتراكية .. والحدود القاطعة الباترة بين أشكال الكتابة فى القصة والشعر والمسرح .. كانت الأطر والهياكل والأبنية محدودة وصلدة وصارمة مع أن كتاباتنا كانت إرهاصات للنصوص المتفاعلة / المتداخلة / ولم نكن فى الأطراف نعي ذلك وكنا نكتب لأنفسنا وكان النشر بالبريد والإيقاع البطء البعيد يؤجل السبق والتفرد والتميز ويلقى بنا خارج الأسراب والجماعات .. كنا ضحايا إقليميتنا حتى عندما ذهب بعضنا للقاهرة حمل معه إقليميته .. وابتعد وتباعد ثم عاد من العاصمة بخفي حنين ساعد فى ذلك عصف المتغيرات وضغط الاحباطات والانكسارات والتراجعات وضياع الحلم فى ضباب التشيؤ والفوضى والعبث .
لكنه أبدا ظل وسطنا العنيد رغم توقفه لسنوات عن الكتابة – الصلد / الذى تنكسر عليه أمواج الفوضى والتيه .. ظلت عينه المدهشة وكاميراته الحساسة وايقاعاته الداخلية الفوارة ترصد وتختزن وتهضم وتتمثل وتمتص العصارة والرحيق .. لتقطره فى ابداعات قصصية وروائية مائزة بعضها أغرق فى الواقعية ( لقاء السلطان والمألوف والمحاولة وابتسموا للحكومة ) والآخر فى الرمزية " فى انفلات وحيوانات وغوص مدينة " والثالث فى الفانتازيا والغرائبية فى رحلة س " وهنا ..!! " وجديد الجديد فى حكاية زيد وعبيد " التي تنطلق من الواقع بكل أحداثه وتفصيلاته بمتنه وهوامشه لتسبح فى غرائبية الأحداث والسرد فى هيولى نص يكاد يكون تصنيفا وحده ... وحيث تتداخل السيرة الذاتية والاجتاعية بالحلم بالكابوس بالشطحات فى ثلاثيته الروائية المخطوطة والتي لم ينشر منها غير مقاطع فى دوريات ومجلات متخصصة كالثقافة الجديدة وأخبار الأدب وضاد ..
نحن هنا أمام مشروع قصصي روائي متكامل .. حتى فى تطوره وانسلاخاته .. وفى نضجه وتخميره وعتاقته فى قبو الابداع ورحمه فى فضاءاته وانفجاراته .. فى التزامه حد الايدلوجيا وفوضاه حد اللامعقول والعبث " مزج ومزاج ومراوحة بين جميع أشكال السرد وتداخلاته وفضاءاته "
يقف مصطفى الأسمر بمشروعه القصصي والروائي كرائد وفاتح فى دمياط وداخل إقليمه .. كاسرا الحصار والطوق عن الاقليميه بطابع البريد منذ كان " بميلليمين " كما قال فى إهدائه لمجموعته القصصية " هنـا " الذى حفظ له كرامة المبدع التى ابت أن تسلك سبل النشر والانتشار التى يفرضها الزحام والشللية وصراع المركز والأطراف .. فكم من مبدع ذوي وأنطوى وتلاشى فى إقليمه ومات ولم يسمع به أحد ..
ولعل مصطفى الأسمر كان أكثر حظا كرائد فى جيل كان يعد على الأصابع وكان رغم إيقاع العصر والاتصال والتواصل واضح المعالم والخطوط والفواصل الآن فى كل إقليم ألف مبدع والكاتب رغم كل وسائل الاتصال مطالب إلى جانب التميز والإجادة بالتسويق والترويج لعمله كي يجد طريقه على الخارطة المزدحمة المثقلة .. بمتلقى ملول لاهث فى جغرافيا الفوضى والأفول ..
وأعتقد أن مصطفى الأسمر لو كان موجودا بالعاصمة منذ البداية لكان له شأن آخر .. بل كان ابداعه نفسه بموهبته وجموح خياله شيئا آخر .. لكنها الإقليمية اللعينة تحاصر المبدع وتعصره حتى تتركه جافا نحيلا يتمشى فى خريف العمر وشيخوخته على كورنيش مدينته الساكن الآسن حتى لو كان الهواء نقيا وشمس الأصيل تغرق فى النيل / والبحر والبحيرة مودعة نهارا .. بليدا .. مكرورا .
هنا يقف المبدع غريبا / تائها يفتش مرة أخرى فى البديهات مستغرقا فى جلد الذات بعيدا عن أعين القراء الساخرة وشراسة الرفاق فى سباق الدلافين والفقمات تلقف ما يلقى به المارة وعابري السبيل والأطفال المشدوهين .. وحيث لا جائزة ترجى ولا قلادات أو نياشين .. عله ذات نص فارق .. ذات إفضاء وبوح .. يصرخ هاتفا .. " وجدتها .. وجدتها " .. !!

د. عيد صالح



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى