طلعت رضوان - هل سرق الصبى الفجل؟

رغم أنّ الأديب الصينى (مو يان مواليد1956) حصل على جائزة نوبل فى الأدب عن روايته (الذرة الرفيعة الحمراء) عام 2009، فإننى فضــلتُ الكتابة عن روايته الأولى (الصبى سارق الفجل) الصادرة عن هيئة الكتاب المصرية- سلسلة الجوائز- عام 2015- ترجمة د. حسانين فهمى حسين، حيث أنّ بساطة السرد فى هذه الرواية مذهلة، وبالتالى فإنّ الإبداع فيها ليس فى مأساة الصبى وحياته البائسة القاسية فقط ، وإنما فى سرد تفاصيل حياة هذا الصبى ، ولذلك جاء السرد والمضمون أشبه بالضفيرة المُــتجانسة.
كتب مو يان روايته سنة 1985 وهى تتناول واقع المجتمع الصينى أثناء أحداث (الثورة الثقافية- 1966- 1976) وبينما أحداث وتفاصيل الثورة الثقافية لا تظهر بشكل مُـباشر فى الرواية، فإنّ الأديب عكس صداها وأدان الدعاية حول (الاشتركية) وتحقيق مبدأ (المساوة) بين المواطنين، والحديث عن (العدالة الاجتماعية) و(إذابة الفوارق بين الطبقات) كما كان النظام يـدّعى ، ولكن بشكل روائى بديع ، فالصبى (بطل الرواية) البالغ من العمر عشر سنوات ، والذى ماتتْ والدته وتزوّج أبوه من غيرها ، والتى تــُـعامله بقسوة ، لم يكن أمامه إلاّ أنْ يعتمد على نفسه ، والبحث عن عمل يكفل له أدنى مطالب الحياة. بصعوبة وجد فرصة العمل فى (كومونة) لتوسيع الهويس خلف القرية. رفض رئيس العمال أنْ يكون الصبى ضمن العمال لصغر سنه ، ولكن أحد شباب القرية من العمال تعاطف مع الصبى، وقال لرئيس العمال ((خللى بالك.. الواد المسكين دا يعتبر من نتيجة الاشتراكية اللى بتساوى بين الناس.. الواد اللى قدامك من عيلة فلاحين فقرا.. ولو ما اهتمتش بيه الاشتراكية ح تهتم بمين ؟ فين قلبك وتعاطفك مع الفلاحين الفقرا يا ريس؟)) (ص59) مع ملاحظة أننى التزمتُ بترجمة المُـترجم الحاصل على الدكتوراه فى اللغة الصينية وتجمعه بالمؤلف صداقة عميقة. وقد احترمتُ المترجم كثيرًا لأنه ترجم من اللغه الصينية إلى اللغه المصرية (التى يقول عنها المتعلمون المصريون المحسوبون على الثقافة السائدة أنها عامية العربى وهى ليست كذلك وفقــًـا لعلم اللغويات الذى يعتبر أنّ البنية structure هى الأساس وليست الكلمات)
اعترف المؤلف فى مقال نشره فى مجلة صينية سنة1993 أنّ ((مولده كان فى غرفة تشققتْ جدرانها وتهشم سقفها وعلق بحيطانها الغبار))
بعد أنْ اشتغل الصبى فى موقع (الكومونة) فى تكسير الأحجار بالمطرقة، ونظرًا لأنّ رئيس العمال لم يقتنع بكفاءة الصبى ، لذلك قال له ساخرًا ((روح كسر الحجارة مع الستات اللى فى الموقع.. يمكن ربنا يرزقك بواحدة ست تتبناك)) وعندما ذهب الصبى إلى موقع العاملات قالت إحداهنّ ((شايفين المسكين دا.. إزاى أهله سابوه يطلع عريان كدا فى البرد الموت دا؟ ما فيش أم ممكن تسيب ضناها يطلع عريان كدا)) (ص66، 67) وهكذا فإنّ الأديب – فى كل صفحات الرواية - كان ينقل للقارىء صورة حياة الصبى البائسة من خلال عيون الآخرين. أما الصبى الذى استمع لحديث العاملة فإنه ((راح ينظر إلى مياه النهر. وأشاح بوجهه عن أولئك النسوة ، وقد بدتْ مياه النهر بقعة حمراء وأخرى خضراء)) وهنا يقوم (الوصف) من خلال عينىْ الصبى بتجسيد حالته النفسية، حيث أنّ مياه النهر مجرد ((بقعة حمراء وأخرى خضراء)) ولكن الأديب لم يكتف بذلك وإنما أضاف ((وكانت أوراق الصفصاف تطير فوق الضفة الجنوبية للنهر مثل الفراشات)) كأنما أراد تحقيق المُـعادلة بين نظرة الصبى لبؤس حياته، وأمله أنْ يكون مثل ورق الصفصاف الذى يطير مثل الفراشات.
كانت قمة الإبداع فى هذه الرواية أنّ بطلها (الصبى) لم ينطق فيها بكلمة واحدة ، وعندما سألته إحدى الفتيات : بلدك إيه يا حبيبى؟ اسمك إيه يا حبيبى ؟ فإنه لم يرد عليها وإنما كان ((فى معركة حامية مع عدد من الورود البرية ، فكان يدوس على الورد ببطن قدمه ، فبدتْ قدمه قوية مثل حوافر البغال . فقالت الفتاة ((شاطر يا واد.. إنت رجليك قويه زى ما تكون حوافر من حديد. ولكن ليه إنت ساكت كدا على طول ؟)) وراحت الفتاة تربت على كتفه وسألته : إنت سامعنى يا حبيبى ؟ ولكنه لم يرد عليها وإنما شعر بأصابع يدها الدافئة تنزل على كتفه وتستقر عند الجرح الذى فى ظهره وقالت : ياه دا إنت مجروح.. قل لى يا حبيبى اتجرحت إزاى ؟ وأيضـًـا فإنه لم يرد عليها فقالت له ((لو عايز تتكلم معاى ممكن تنادينى بأختى)) وبعد عدة محاولات كى تشجعه على الكلام قالت ((ورينى كدا الجرح ؟)) ثم تساءلتْ ((يا ترى فيه فى الدنيا دى كلها عيل صغير زيك بيشتغل شغلانه صعبة زى دى؟ جسمك وسطينا وقلبك ما حدش يعرف متعلق فين ؟!)) لم يرد عليها بينما راحت عيناه تراقبان مجموعة من الأسماك فى قاع النهر. وأخرجتْ الفتاة منديلا مُـطرزا بالأزهار ولفــّـتْ به يد الصبى المجروحة. جلس الصبى صامتــًـا واكتفى بالنظر إلى تلك الأزهار التى تـُـزين المنديل الذى يلف جرحه ، حتى انتبه إلى زهرة جديدة بجانب أزهار المنديل الحمراء ، إنها بقعة من دم أظافره الممزقة. وعندما سألته : هوّ بيتكم بعيد عن هنا ؟ لم يرد عليها.
الأديب فى هذه الرواية البديعة - كما أعتقد – جعل من الصبى التجسيد الحى للشعب الصينى، تحت حكم النظام الشيوعى، فكما أنّ الصبى لم ينطق بكلمة واحدة طوال الرواية، كذلك كان قمع الحريات فى تلك الفترة من تاريخ الصين. وبلغة الفن فإنّ الأديب جعل الفتاة تسأل صديقها الشاب الذى ساعد الصبى فى الالتحاق بالعمل : هل الصبى أخرس أم يتعمد عدم الكلام؟ فقال لها صديقها إنّ الصبى يتمتع بذكاء حاد.. ولكن لا أحد يعرف ماذا يشغله. فإذا نظرتِ إلى عينيه الغائرتيْن ، فلن يمكنك تخمين ما تخفيه هاتان العينان . فقالت الفتاة : إنّ الصبى يبدو عليه الذكاء (بالفعل) وأنها لا تعرف لماذا تنجذب إليه وتحبه كل هذا الحب ؟! فهل هناك مُـبالغة - فى رأيى - أنّ الصبى رمزٌ للشعب الصينى ؟
000
رئيس العمال تأكــّـد أنّ الصبى لن ينجح فى تكسير الأحجار بالمطرقة ، وفكــّـر فى طرده من العمل فى الكومونة. وبعد تدخل من الشاب المتعاطف مع الصبى ، فإنّ رئيس العمال وافق على أنْ يعمل الصبى فى ورشة الحدادة ويساعد فى نفخ الكير. وسأل الصبى : ح تقدر على الشغلانه دى؟ فراح الصبى ينظر إلى الفتاة والشاب نظرات توسل ورجاء . فقال الشاب : أيوا ح يقدر.
فى اليوم الخامس من عمل الصبى مع الحداد ، تحوّل جسده العارى إلى ما يشبه قطعة فحم عالية الجودة ، تلمع من شدة سواها.. وأصبحتْ عيناه أكثر رعبـًـا. وكانت الفتاة وصديقها يـُـتابعان أحوال الصبى فى ورشة الحدادة ، فلما اكتشفا كثرة إصاباته قالت له الفتاة : كفاياك من الشغلانه الصعبه دى.. تعال ارجع معاى لتكسير الحجارة أحسن لك.. مستحيل تقدر تتحمل النار دى.. تعال يا حبيبى ارجع مع أختك حبيبتك.
ورشة الحدادة فيها الأسطى الكبير، المُـتعاطف مع الصبى، لدرجة أنه عندما وجده يرتعش من شدة البرد، سأله : إنت سقعان يا حبيبى؟ فلم يرد عليه وبدأ فى إشعال النار. وفيها مساعده الذى يـُـعامل الصبى مُـعاملة قاسية ، لدرجة كيه بالنار.
هل الصبى يستحق صفة (اللص) كما يوحى عنوان الرواية (الصبى سارق الفجل)؟ عن هذا السؤال قـدّم الروائى مفاجأة ، حيث أنّ مساعد الأسطى الحدا هو الذى طلب منه الذهاب إلى الحقل القريب من موقع العمل وسرقة ((كام راس فجل على كام حبة بطاطا)) والروائى جعل من الصبى وكأنه بلا إرادة، وعليه إطاعة أمر رئيسه ، ولكن هذا غير صحيح ، حيث أنه عندما ذهب إلى الحقل لسرقة الفجل ، فإنه ((سمع نعيق بومة فوق إحدى الأشجار)) وبعدها مباشرة ((تذكر أنّ زوجة أبيه تخاف من صوت الرعد ونعيق البوم، وهو يتمنى ألا ينقطع صوت الرعد وألا تغادر جماعات البوم نافذة زوجة أبيه)) هنا إسقاط واضح (من المبدع) على أنّ الصبى ترجم مشاعره إزاء القهر الذى تعرّض له من زوجة أبيه ومن مساعد أسطى الحداد الذى أجبره على السرقة. اهتـمّ الشاب بمصير الصبى، فقال له مساعد الحداد بلغة استنكارية ((هوّ كان ابنك ولاّ كان ابنك؟!)) أما الفتاة فقالت له ((إنت بعته يسرق؟)) فردّ عليها ((قصدك إيه بالسرقه ؟ طالما إننا ما بناخد ش البطاطا ونروح بيها لأهلنا، فإحنا كدا مش بنسرق))
وسط هذا العالم الكابوسى البائس تتولد قصة الحب بين الشاب والفتاة اللذيْن احتضا الصبى، فعل الروائى ذلك من خلال شخصية الأسطى الحداد (العجوز) الذى غنى أغنية من التراث الصينى وفيها ((نسيتْ السنين اللى عشناها مع بعض على الحلوه والمره.. نسيتْ إخلاصى وحبى ليك.. نسيتْ إنى كنت غطا وستر عليك.. ولما ضحكت لك الدنيا رمتنى لوحدى وحيده)) بعد أنْ سمعتْ الفتاة غناء الشيخ الحداد ، تسمّـرتْ فى مكانها وراحتْ تستمع إليه بإنصات تام وعيناها تتابعان حركة حنجرته. هزّ ذلك اللحن الحزين قلب الفتاة. وما أنْ كادت تجهش بالبكاء حتى تغير اللحن إلى لحن جعلها تسبح فى عالم بعيد ، فمالتْ بجسدها فى حركة طبيعية على كتف الشاب ، وراحتْ تـُـداعب بيدها يده ، وعيناها تدمعان متأثرة بما تسمع ، وغرقتْ فى بحر الأغنية ، وأحسّـتْ بأنها تنجذب إلى هالة من النور الذى يـُـطلقه وجه الحداد ، وكأنها قد عثرتْ على نفسها من خلال كلمات الأغنية.
مزج الأديب ولادة الحب بين الشاب والفتاة ، وخوفهما على الصبى من مساعد الحداد ، وهو ما عبـّـر عنه الشاب فى سؤال وجـّـهه لفتاته ((طيب وبعدين ؟ يعنى ح نسيب المسكين دا للحداد الأعور؟)) وبعد ذلك اصطحب الحبيبان الصبى وساروا نحو موقع العمل . وطوال الطريق والصبى ينظر إلى النهر، قال له الشاب ((مش عارف إيه اللى عاجبك فى النهر!؟)) فى هذه الإشارة المُـوحية فإنّ الأديب ترجم – إبداعيـًـا – مشاعر الصبى الذى يرى – بوجدانه - أنّ النهر أرحم من البشر. وعندما أمر مساعد الحداد الصبى ، أنْ يذهب إلى الحقل ويسرق المزيد من الفجل والبطاطا ، فإنّ الصبى ((شعر أنّ هناك الكثير من العيون الحمراء تراقبه من داخل الحقل ، كما تراءتْ له أوراق الفجل وكأنها شعر أسود لامع)) أشفق الحبيبان على الصبى وطلبا منه العودة وخافا عليه ((وكأنه ابنهما))
فى الحقل نزع الصبى فجلة ، وراح يتأملها تحت ضوء الشمس، وتمنى من أعماق قلبه أنْ تبدو شفافة وذهبية كتلك الفجلة التى سقطتْ منه فى النهر، ولكنها خذلته. وفجأة صرخ حارس الحقل ((حرامى)) وبعد أنْ تـمّ القبض على الصبى ((بدتْ عيناه صافيتيْن كالنبع الصافى)) ولكن حالة الرعب جعلتْ دموعه تتدفق من محبسها. ومن حـُـسن حظه أنّ حارس الحقل كان رحيمًـا، فأطلق سراح الصبى على أنْ لا يعود للسرقة من جديد . ولكن هذه (الرحمة) شابها قسوة تمثــّـلتْ فى ((تجريد الصبى من سترته الجديدة وحذائه الجديد وسرواله)) بينما رئيس الحارس عندما رأى الصبى على تلك الحالة ((عاريـًـا كما ولدته أمه ، حتى راح يبكى دونما صوت)) فماذا حدث بعد ذلك؟ ((ألقى الصبى بنفسه وسط الحقول الواسعة ، ليشعر داخلها بأمان وكأنه سمكة تسبح وسط محيط كبير)) وهكذا كانت آخر الكلمات فى تلك الرواية البديعة. حيث تعمّـد مـُـبدعها أنْ تكون مأساة الصبى من خلال عيون الآخرين ، ومن خلال ترجمة مشاعر الصبى الذى لم ينطق بكلمة واحدة – من أول الرواية لآخرها – رغم أنه بطلها ، وكل الأحداث تدور حوله ، وكأنّ (صمت الصبى) هو صمت الشعب الصينى طوال فترة الحكم الشيوعى. وإذا كان الأديب الصينى نجح فى ترجمة مشاعر الصبى (بتلك الكتابة العبقرية ببساطتها وعفويتها) فإنّ المترجم د. حسنين فهمى حسين أبدع عندما جعل ترجمته تتوازى مع الكتابة (الفطرية) للنص، ولعلّ ذلك ما جعله يـُـترجم اللغة الصينية إلى لغة شعبنا المصرى فى حياته اليومية (فى الحوارات وفى أغلب مقاطع السرد) كى تتناسب مع مشاعر الصبى الذى لم ينطق بحرف واحد طوال صفحات الرواية.





أعلى