النقيب محمد فجار - الأحكام القضائية بعد النطق بها والصدور هل هي للنشر أم للنشور؟

عندما نشرت بعض الصحف المغربية خبر تفكير جمعية " حقوق وعدالة " في إعداد مشروع لنشر الأحكام المعيبة والتعليق عليها من قبل متخصصين بطريقة موضوعية ، كشكل من أشكال الرقابة الشعبية على القضاء ، كان هذا الخبر بالنسبة لي خبرا عاديا . من ناحية : لأن هذا المشروع كانت هيئة المحامين بالجديدة قد سبقت إلى الدعوة إليه منذ مدة . ومن ناحية أخرى ، لأن مسألة نشر الأحكام كانت عملية معروفة ومعتادة لدى المشتغلين بالقانون منذ حصول المغرب على استقلاله ، بل وحتى قبل ذلك أثناء فترة الحماية التي كانت مضروبة عليه . فقد كانت بعض الجهات و المجلات تنشر عددا من الأحكام بشكل حرفي وكامل ، أو كانت تقتصر فقط على نشر مقتطفات منها تتضمن القواعد القانونية المعتمدة من قبلها . مثلما كانت تفعل ذلك ، على سبيل المثال ، مجلة la gazette des tribunaux ومجلة المحاكم المغربية ومجلة رابطة القضاة ومجلة القضاء والقانون ومجلة قضاء المجلس الأعلى ونشرة المجلس الأعلى ومجلة المحاماة وغيرها ، قبل أن تصدر بعض هيئات المحامين بالمغرب عددا من المجلات الخاصة بها ، ويصدر عن بعض الفعاليات الحقوقية عدد من المجلات المتخصصة التي تعنى بنشر الأحكام المتعلقة بمجال تخصصها . وقبل أن يزدهر ميدان هذا النشر بطبع مجموعة من الأحكام الصادرة عن محكمة الاستئناف بالرباط ، وصفوة من الأحكام الصادرة عن مجلس استئناف أحكام المحاكم الشرعية ، وبقيام بعض القضاة أنفسهم بنشر منتخبات من أوامرهم وأحكامهم وقراراتهم .
ولم يكن هذا النشر في الواقع يثير من الناحية العملية أية مشكلة تذكر ، لا بل إن الملاحظ على العكس من ذلك ، أن البعض كان يعتبر هذا النشر ضرورة ملحة تقتضيها الرغبة لدى القائمين على جهاز العدالة من أعلى مستوى في نشر وتعميم القاعدة القانونية التي تتضمنها هذه الأحكام على مختلف المشتغلين في قطاع العدالة بهدف توحيد الرؤى والعمل القضائي المغربي بشأنها ، خاصة بالنسبة لبعض القضايا والنقط التي كانت مثار خلاف بين المحاكم جعلت الأحكام بالنسبة لها تتضارب بين محكمة وأخرى . وهو ما كان يخلق ، وما يزال يفعل لحد الساعة ، لدى القضاة والمحامين والمتقاضين نوعا من البلبلة وحالات من التضارب والمفارقات في الأحكام قد تجعل ثقة الناس في القضاء بل وفي العدالة برمتها تهتز .
نعم كانت هنالك بعض المجادلات النظرية تثور بين الفينة الأخرى بين فئة قليلة جدا من المتخصصين بشأن مدى شرعية هذا النشر. كانت تستند أحيانا إلى مبررات حقوقية تتصل بمن له الحق في الاطلاع على هذه الأحكام وأخذ نسخ منها خصوصا عند البعض الذي كان يؤسس موقفه المعارض للنشر على المفهوم الضيق للأثر النسبي للأحكام الذي ينطلق من أن الأحكام عندما يتم النطق بها من طرف القضاة ، فإنها تصير من حق طرفي القضية التي صدرت فيها وحدهما بما تنشئه أو تقرره لهما من حقوق . وعلى ذلك كان يبني موقفه الذاهب إلى أن طرفي هذه الأحكام هما اللذان يكون من حقهما الاطلاع عليها وأخذ نسخ عادية أو تبليغية أو تنفيذية منها . ولا يسمح لغيرهما بذلك ، كما هو العمل جار به لدى كتابات ضبط المحاكم وفقا لقانون الرسوم القضائية . وكانت أحيانا أخرى ، تستند إلى الطبيعية التشهيرية أو الإشهارية التي قد يتخذها هذا النشر عندما يكون متضمنا الإشارة إلى أسماء أطراف الدعوى وإلى أسماء دفاعهم ، بالنسبة لطرفي الدعوى التي بتت فيها هذه الأحكام بالنسبة للحالة الأولى ، أو بالنسبة لدفاعهما بالنسبة للحالة الثانية . ولا سيما بالنسبة للأحكام الصادرة في المادة الجنحية أو الجنائية . التي يكاد يكون الكل متفقا على طابعها الذي يتنافى مع إخراجها إلى العلن بنشرها بالصحف أو بالدوريات بسبب أن نشر الأحكام القاضية بالإدانة ، كما هو معلوم ، يشكل عقوبة إضافية تستوجب صدور حكم بها عن القضاء ( الفصل 36 من القانون الجنائي ) .

بيد أن الملاحظ مع ذلك أن هذه المجادلات ، كانت محدودة في الزمان ، ومقتصرة على نخبة معينة من المهتمين ، حتى صارت أقرب إلى الترف الفكري منه إلى الهاجس الحقوقي ، إذ سرعان ما كان يتم بشأنها تجاوز المقاربة الحقوقية الضيقة التي تقصر الحق في الاطلاع على الحكم أو على تسلم نسخة منه على طرفيه فقط ، بأن الأحكام التي تصدر عن القضاء ليست فقط مجرد سندات أو صكوك منشئة لحقوق أفراد أو مقررة لها حتى تكون ملكا لهم وحدهم ، وإنما هي ، بما تتضمنه من صياغة أدبية ومن اجتهاد قضائي ، منتوج أدبي وملكية فكرية للجهة التي أصدرتها وللقضاة الذين قاموا بإنتاجها . فيكون من حق هذه الجهة وهؤلاء القضاة ، والحالة هذه ، أن يتصرفوا في هذه الملكية الفكرية لمن يشاؤون من الباحثين والمهتمين من طلبة وأساتذة ومجلات ودوريات وغيرها . وسرعان ما كان يتم تجاوز المآخذ التشهيرية والإشهارية بدورها بتلافي الإشارة إلى أسماء طرفي الدعوى ومحاميهم بنشر الأحكام وهي غفل من أسمائهم .
ولكن الملاحظ الآن على هذه المجادلات أنها أصبحت بعد نشر موقف جمعية " حقوق وعدالة " من مسألة نشر الأحكام تتخذ طابعا أكثر حدة وسخونة حتى أنها خرجت في بعض الأحيان عن قواعد النقاش الموضوعي المتعقل والمتزن والحوار الشريف الهادئ ، واشتطت عن أعراف و أصول المجادلة بالحسنى . وتحولت إلى تهديد هذه الجمعية وأحد مستشاريها العلميين بخاصة - وهو محام معروف - بالويل والتبور وعظائم الأمور ، بل وذهبت إلى أكثر من ذلك إلى محاولة تخوين هذه الجمعية واتهامها بالعمالة لجهات خارجية بمقابل لخدمة أجنداتها ، وبمحاولة إقامة ما يشبه محاكم للتفتيش بالنسبة للقضاة المغاربة والتطاول على مؤسسة القضاة وعلى الدستور حتى . ولم يسلم من ذلك حتى بعض القضاة أنفسهم الذين وجه إليهم الاتهام بأنهم مجرد مبتدئين أو شرطة مرور أو من أصحاب التقاعد المريح .

وفي الحق فإنه ، في نظرنا ، لم يكن هنالك من داع أو من مبرر ليبلغ هذا النقاش في شأن هذه المسألة إلى هذه الدرجة من الحدة ، وليصل حتى إلى قيام الطرف المعارض للنشر بكيل الاتهامات المجانية الجاهزة للطرف الآخر الذي لا يشاطره نفس الرأي ولا يتفق معه عليه . كما أنه لم يكن أجدر ولا أليق ، في نظرنا واعتقادنا ، بالناطق باسم ودادية محترمة للقضاة لها تاريخ عريق ، منذ أن كانت رابطة يرأسها المناضل المرحوم حماد العراقي ، في الدفاع عن جميع قضاة المملكة بدون استثناء وفي الذود عن حقوقهم وصونها ( ولم نقل ما كان أجدر ولا أليق بالودادية نفسها لأننا لا نعلم أن مكتبها عقد اجتماعا لتدارس الأمر وأصدر بلاغا بشأنه وعهد للناطق باسمها لنشره وإذاعته بالصحافة ، كما هو معروف في أدبيات وأبجديات الناطقين الرسميين بإسم الحكومات أو الهيئات وغيرهم ) ما كان أجدر ولا أليق بهذا الناطق الرسمي أن يوجه الاتهام إلى من يعارض الودادية في الرأي سواء من القضاة أو المحامين بأنه قاض غير شرعي يدعو إلى الفوضى أو أنه فيروس سياسي أو بكثيريا دماغية ؟؟؟ تفرق صفوف القضاة وتؤثر على استقلالهم وتعمل على تمويل مشروع كحق أريد به باطل من أجل تبرير صرف أوروات ممنوحة من هولندا في غاية لا يعلمها إلا أصحابها . وذلك :
أولا : لأننا ما نعلم أن مسألة نشر الأحكام على النحو الذي كانت تسير به وما تزال تسير به منذ ما قبل عهد الاستقلال إلى الآن وحتى الآن قد نجم عنها أي مس بقدر قضاتنا الأجلاء أو لحقهم منه أي ضرر . لا بل على العكس من ذلك ، فإن الملاحظ لدى العديد من المهتمين بمجال القضاء أن هذا النشر قد ساهم في تعريف الجيلين الأخيرين بأعمال واجتهادات عدد من القضاة المغاربة العظام المغمورين الذين كاد أن يطويهم النسيان . ولعل هذا أن يكون السبب في أن جلالة الملك أصدر أمره الشريف بطبع أحكامهم ونشرها ليستفيد منها الجميع . ولا يمكن أن يعزب على بال أحد أن جلالته ما كان ليصدر امره المطاع بذلك لو كان فيه أدنى مخالفة للدستور أو أدنى مس بالقضاة الذين يرأس مجلسهم الأعلى .

ثانيا : أن نشر الأحكام ، بسبب ما تتضمنه من تأسيس لقواعد قانونية أو تفسير لها أو توحيد لفهمها ، وتعميمها على كافة المغاربة بدون استثناء ليس ترفا فكريا ، كما قد يتوهم البعض ذلك ، وإنما هو واجب يقتضيه ذلك المبدأ الدستوري القائل بأنه لا يعذر أحد بجهله القانون . وكيف السبيل إلى العلم بهذا القانون إذا لم يتم نشره ونشر الأحكام الصادرة عن السلطة القضائية التي أوكل لها الدستور أمر تطبيقه . كما يقتضيه كذلك في بعض الأحيان مبدأ الأثر المطلق للحكم الذي تتميز به الأحكام الصادرة في المادة الجنحية والجنائية عن مثيلتها الصادرة في غيرها من القضايا . ومعلوم ، أن الأحكام القضائية تعتبر قرائن قانونية ( الفصلان 450 و 451 من قانون الالتزامات والعقود ) . وأن من خصائص القرائن القانونية أنها تعفي من تقررت لمصلحته من كل إثبات . ولا يقبل أي إثبات يخالفها ( الفصل 453 من نفس القانون ) . ومن تم كانت ذات قوة مطلقة ( أنظر كتاب الوسيط في شرح القانون المدني للعلامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري الجزء الثاني المتعلق بالإثبات – طبعة بيروت بدون تاريخ - بالبندين 65 و 243 والصفحتين 103 و 470 ) . . وخاصة إذا كانت هذه القرائن القانونية عبارة عن أحكام جنحية . فإن هذه القوة القاطعة المطلقة التي تتميز بها تجعلها تسري في مواجهة الكافة . وهو مقتضى ما أصبح الفقه والاجتهاد مستقرا عليه من أن : " الحكم عندما يصدر عن القضاء الجنائي ، فإنه يصبح حجة ليس فقط على أطراف الدعوى العمومية والمدنية التابعة التي فصل فيها ، بل على الناس كافة عند نظر الدعوى المدنية أمام القضاء المختص . وبغض النظر عما إذا كانوا قد شاركوا في الدعوى العمومية كأطراف فيها أم لا . وهو المبدأ الحديث الشهير في الفقه بمبدإ " موضوعية أثر الأحكام " الذي يقابل المبدأ الكلاسيكي المعروف بمبدأ " الأثر النسبي للأحكام " ( أنظروا في هذا المعنى كتاب " حجية الأحكام الجنائية " للأستاذ عبد الواحد العلمي – طبعة 1998 – ص 27 . وانظروا كذلك قرار الغرفة الأولى بالمجلس الأعلى عدد : 169 الصادر بتاريخ : 12/04/1969 المنشور بالعدد : 104 من مجلة القضاء والقانون السنة الحادية عشرة - دجنبر 1969 - الصفحة 29 ) .

ثالثا : أن نشر الحكم وحتى التعليق على مضمنه لا على شخص من صدر عنه ، إذا لم يحصل منه نفع ، فإنه لا يمكن أن ينجم عنه أي ضرر . وذلك لأن هذا التعليق إما أن يكون مؤيدا له . وفي هذه الحالة لا يكون هنالك من معنى للمعارضة في نشره ، وإما ألا يكون مؤيدا له بسبب ما قد يظهر للمعلق عليه من أنه ينطوي - حسب زعمه - على بعض أوجه الخطإ أو القصور . فإن رأي هذا المعلق في هذه الحالة إما أن يكون صائبا ، أو أن يكون خاطئا . فإذا كان رأيه خاطئا ، فإن ذلك يكون دليل صحة للحكم المعلق عليه ، وإذا كان صائبا ، فإن الخطأ في الحكم لا يعتبر منقصة فيه . لأن الخطأ ظاهرة بشرية . إذ أن كل البشر معرضون للخطأ . وليس منهم من هو معصوم منه أو في منأى منه غير الأنبياء والرسل عند أهل الديانات السماوية . والآيات على ذلك كثيرة ومتعددة والأقوال فيها مأثورة :
ومنها على سبيل المثال بالنسبة للخطإ بصفة عامة ، في الحديث " كل ابن ادم خطاء وخير الخطائين الثوابون" . و: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " . ومنها بالنسبة لأخطاء القضاء بصفة خاصة باعتبارهم بشرا يجوز عليهم ما يجوز على سائر البشر من عدم العصمة وارتكاب الأخطاء .
1 – قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا بشر . وإنكم لتختصمون إلي . ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي على نحو ما أسمع . فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار " .
2 - ورسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري التي أوصاه فيها رضي الله عنهما بقوله : " فلا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه إلى الحق . فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل " .
3 – أن فلسفة الطعون - وهي على ما لها من وشيج الصلة ومتين العلاقة وقوي الارتباط بحق أساسي من حقوق الإنسان ؛ هو حقه في الدفاع عن نفسه - هذه الطعون ذاتها قائمة على فكرة الخطأ . وإن اختلفت أصناف هذا الخطأ بالنسبة لكل طريق من طرق الطعن . فهو :
+ الخطأ المفترض بالنسبة للطعن بطريق التعرض على حكم غيابي ،

+ وهو الخطأ المحتمل بالنسبة للطعن بطريق الاستئناف ،
+ وهو الخطأ في الواقع بالنسبة للطعن بطريق إعادة للنظر ،
+ وهو الخطأ في القانون بالنسبة للطعن بالنقض .
4 – أن دعاوى تصحيح الأخطاء المادية التي قد تتسرب إلى الأحكام قائمة بدورها على أساس الاعتراف بالخطإ القضائي .
رابعا : أن هذا الحكم الذي يتخوف بعض القضاة من مسألة نشره أو التعليق عليه قد يكون احدهم طرفا فيه . وربما كان هذا القاضي أحد الناشرين له أو المعلقين عليه ، بسبب ما قد يكون يعتقد من أنه لم يكن منصفا بالنسبة إليه ، أو أنه ينطوي على تجاوزات إجرائية وموضوعية في حقه . كما أصبحنا نقرأ عن ذلك ونتابعه في الصحف بالنسبة للبعض منهم الذين حركت في حقهم متابعات تأديبية أو زجرية .
خامسا : ولا يمكن أن يعترض على ذلك معترض بأن ما نقل عن جمعية " حقوق وعدالة " يوحي بأن لها نية " مبيتة " في نشر طائفة من الأحكام التي ترى أنها في نظرها أحكام " فاسدة " كما عنونت جريدة الصباح ذلك بالبنط الغليظ بمناسبة ملفها الذي خصته لعدالة ونشرته بالصفحتين 6 و 7 من عددها 4323 الصادر يوم : 11 مارس 2014 . وما أظن أنها تروم ذلك وما ينبغي لها . وذلك :
- لأن هذا النوع من الفكر الذي يفسر كل الأشياء بنظرية المؤامرة قد عفا عنه الزمن . وقد آن الأوان لنبذه والانصراف عنه .

- لأن وصف حكم ما بأنه حكم فاسد ، فعل غير مقبول من أي كان . لأنه يشكل عملا جرميا يعاقب عليه القانون بسبب ما يتضمنه من تحقير لحكم قضائي ( الفصل 266 من القانون الجنائي المغربي ) . وذلك بخلاف أسباب وحيثيات هذا الحكم التي ليس هنالك ما يعصمها عن الوصف بالفساد بمناسبة الطعن فيها بأحد طرق الطعن المعروفة . وهو ما تظل محكمة النقض عندنا بالمغرب تستجيب له وتقضي به في العديد من قراراتها التي كثيرا ما ألغت بمقتضاها عدة قرارات مرفوعة إليها بسبب الفساد في التعليل معللة ما تقضي به بأن الفساد في التعليل ينزل منزلة انعدامه .
- لأنه من الصعب إطلاق وصف فاسد على حكم قضائي بسبب معناه ومضمنه أو حتى بسبب ملابسات صدوره التي قد لا يكون الناشر أو المعلق متوفرا على دليل عليها . وذلك سواء كان هذا الحكم منعدما jugement inexistant أو باطلا jugement nul . وسواء كان هذا الحكم مصادفا للصواب فيما قضى به أو مجانبا له . سيما وأن الأسباب المؤدية إلى وقوع القاضي في الخطإ كثيرة ومتعددة . منها ما يرجع للقاضي نفسه بسبب ضعف تكوينه القانوني وتحصيله المعرفي ،. ومنها ما يصدر عنه بسبب اعتماده على مناورات أو أخطاء الآخرين ممن تكون لهم صلة بالقضاء كما سبق لنا أن أوضحنا ذلك في مقالنا عن الخطإ القضائي الذي نشر مجزءا في حلقتين بجريدة " المساء " : بالصفحة 16 من العدد : 2209 الصادر بتاريخ : 02 - 03/11/2013 و الصفحة 08 من العدد : 2210 الصادر بتاريخ : 04/11/2013. كما أنه من الصعب كذلك إطلاق وصف فاسد على حكم قضائي بسبب عدم توفق القاضي في مبناه وصياغته صياغة أدبية جميلة . وذلك لأن نصيب القضاة من البلاغة والبيان وحظهم من التحكم في ملكة اللغة يتفاوت من قاض إلى آخر . ثم لأن القاضي ليس مطلوبا منه كتابة نص أدبي إنشائي لذوي الذائقة الأدبية من أجل التلذذ والمتعة ، وإنما المطلوب منه أن يصدر صكا يبت ويقطع بمقتضاه في نزاع معروض أمامه ومختص بالنظر فيه .
ولذلك لا يمكن الحكم على منتوجه بعدم التوفق إلا إذا صيغ على نحو لم يتحقق معه الحسم ووضوح الفكرة وجلاء المعنى .
- لأن توفق جمعية " حقوق وعدالة " في أن تخرج إلى حيز الواقع هذا المشروع الذي لا تنطبق عليه البتة مقتضيات الفصل 380 من القانون الجنائي ، لأنه لا يروم التدخل بغير صفة في وظيفة عامة مدنية كانت أو عسكرية أو إلى القيام بعمل من أعمالها ، هو في نظرنا هدف بعيد المنال كما رأينا ، ولا تتوفر له إمكانية الدوام والاستمرار لما قد يتطلبه إنجازه من تفرغ و إمكانيات لوجيستيكية قد لا تكفي مساعدات تأتيها من هنا وهنالك للقيام به بمفردها .
- كما أنه لا يمكن أن يقبل ممن يعارض مشروع نشر الأحكام القضائية والتعليق عليها الزعم بأن هذا النشر ينبغي أن يشمل كذلك مذكرات المحامين وغيرهم . وذلك من جهة ، لأنه ليس هنالك في نظرنا من يعارض في نشر مذكرات المحامين وخصوصا منها تلك المذكرات التي تعتبر من عيون المقالات والأجوبة والتعقيبات والردود . وقد كان المرحوم محمد الطيب الناصري شرع في تطبيق هذه الفكرة بمجلة محاكم المغرب التي تصدرها هيئة المحامين بالدار البيضاء عندما كان نقيبا لها . ولكنها لم تعمر طويلا للأسف . ومن جهة ثانية ، لأن في نشر الأحكام القضائية نشر كذلك بطريقة غير مباشرة لمذكرات المحامين مادام من الواجب على القاضي عند تحريره لحكمه أن يورد موجزا لمقال الادعاء وللأجوبة عليه والتعقيبات والردود المتبادلة بين طرفي الخصومة .وأغلبها من إنتاج المحامين بسبب غلبة المسطرة الكتابية على الإجراءات في المواد المدنية والإدارية والتجارية أمام مختلف درجات المحاكم كما هو معلوم .

وبعد ، فهذه بعض خواطر وأفكار بدا لي نشرها مساهمة مني في النقاش الدائر بشأن مسألة نشر الأحكام والتعليق عليها صغتها بالطريقة والأسلوب وعلى النحو الذي رأيت ، لست أبغي بها ، كما قد يتوهم البعض ، الانتصار لفريق ضد آخر ، أو الانحياز الأعمى لرأي ضد رأي مخالف ، أو الدفاع عن جمعية " حقوق وعدالة " أو عن احد مستشاريها العلميين ، وذلك أولا : لأن لهذه الجمعية أربابا يحمونها ويدافعون عنها وأغلبهم محامون أو حقوقيون ، وثانيا : لأن صديقي وزميلي الأستاذ عبد العزيز نويضي لا يحتاج في نظري إلى من يدافع عنه أو يناصره ؛ من ناحية ، لأنه ليس داخلا في معركة . ومن ناحية أخرى ، لأنه شخص معروف في أوساط المجتمع المدني بماضيه الحقوقي والسياسي الحافل . حيث إنه كان مستشارا في حقوق الإنسان وفي الحوار الاجتماعي للأستاذ عبد الرحمان اليوسفي طيلة فترة توليه للوزارة الأولى بالمغرب ، وما يزال يشغل لحد الساعة منصب عضو في اللجنة الاستشارية لمنظمة " هيومان رايتس واتش " للشرق الأوسط وشمال إفريقيا . ويكفيه فخرا أن جلالة الملك محمد السادس وهو أعلى سلطة في البلاد ورئيس المجلس الأعلى للقضاء والضامن لحقوق جميع القضاة واستقلالهم بدون استثناء ، وقع اختياره عليه ليكون من ضمن لجنة الأربعين التي كلفها بالإشراف على مشروع الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة ووشح صدره بوسام المكافأة الوطنية من درجة ضابط كبير . وهذه اللجنة التي أنيط بها أمر الإشراف على هذا المشروع المجتمعي الإصلاحي العظيم تضم ، كما يعلم الجميع ، صفوة من الحقوقيين ورجال المال والأعمال والسياسة والمجتمع المدني . كما أنني لست أروم منها ، كما قد يفهم البعض خطأ ، التبخيس من قدر الناطق الرسمي بإسم الودادية الحسنية للقضاة الأستاذ نور الدين الرياحي ، فإن هذا الرجل ، الذي تدرج في سلك القضاء الواقف وكيلا للملك بمدينة الجديدة ثم وكيلا للملك بالدار البيضاء ثم وكيلا عاما للملك بسطات ثم مدعيا عاما لدى محكمة النقض ، وأبان عن كفاءات ومقدرات في كل هذه المحطات ، قد تتلمذ بصفة مباشرة أو غير مباشرة عن عدد من القضاة الأفذاذ من طينة المرحوم المكي نوشريف الذي كان من ضمن الهيئة التي شكلت في سنة 1964 لمحاكمة الاتحاديين المتهمين بتدبير ما كان يعرف بمؤامرة 1963 ثم عين بعد ذلك وكيلا عاما للملك لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء ، واستمر في هذا المنصب الرفيع إلى أن توفاه الله إلى رحمته . وبلغ به الإعجاب بهذا القاضي المتميز إلى حد أنه كتب عنه كلمة تأبينية مؤثرة نشرها في كتيب صغير له . ومن طينة الأستاذ والوزير المرحوم مجيد بنجلون الذي كان وكيلا للملك في نفس المحاكمة ثم وزيرا للأنباء فوكيلا عاما للملك بالمجلس الأعلى ثم ملحقا بالديوان الملكي ، والمرحوم الأستاذ عمر دومو الذي كان وكيلا للملك بالجديدة ثم وكيلا عاما بها ثم وكيلا للملك بالدار البيضاء ثم وكيلا عاما بها فمديرا للشؤون الجنائية بوزارة العدل ، والأستاذ الطيب الشرقاوي الذي كان وكيلا عاما للملك بمدينة الجديدة ثم وكيلا عاما للملك بالدار البيضاء ثم مديرا للشؤون الجنائية بوزارة العدل فوزيرا للداخلية . والجدير بالملاحظة ، أن الحكم الذي أصدرته الهيأة سالفة الذكر التي كانت مشكلة من المرحوم الطيب الشرفي رئيسا والمرحومين المكي نو شريف ومحمد الحجوي مستشارين في قضية " المؤامرة " المذكورة ، قد تم نشره بكامله بأحد أعداد مجلة " رابطة القضاة " الصادرة في ذلك الوقت دون أن يلقى نشره وقتئذ أي اعتراض من أحد ، لا بل إن نشره قد اعتبر من قبل السلطات الحكومية في ذلك الحين ، ضرورة ملحة أملاها واجب الرد عمن كانت تعتبرهم مشككين في نزاهة تلك المحاكمة وقائلين بطابعها السياسي .


* نقيب سابق لهيئة المحامين بالجديدة



نشر في هسبريس يوم 19 - 03 - 2014

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى