حوار مع الأديبة صوفي عبد الله

حوار مع الأديبة صوفي عبد الله.. من آرشيف مجلة البيان الكويتية في العدد التاسع بتاريخ 1 ديسمبر 1966.
7 أكتوبر، 2021 سعاد العتابي أضف تعليقا

نقلته سعاد العتابي عن موقع آرشيف الشارخ
حاورها: صلاح الملّا.

زمان … أيام صبانا كانت قراءاتنا متناثرة… ربما بعدت قليلا أو كثيرا عن آرسن لوبين أو روكامبول المحتال لكنها كانت دائما تغذي شيء ما في داخلنا.. تماما مثل تلك الكتب الرخيصة الكثيرة والممتلئة بالجنس والحب معا والتي كنا نتداولها فيما بيننا في حرص بخيل على ثروته… في هذه الأيام عرفنا صوفي عبد الله ربما لأن كوليت خوري لم تكن قد كتبت بعد “أيام معه” وكانت صوفي عبد الله شيئا هاما بالنسبة لنا… وفي طرقي إليها كان رأسي ممتلئا بذكريات أعوام كثيرة مضت وأحلام ضاعت وتصورات اكتشفت مع الوقت تفاهتها… لكن الشيء الأساسي الذي كان يدور في داخلي- كيف سأجدها؟. وحاولت أن أتصور جلستها معي.. وفي هذا اللقاء الذي ستقرأ الحوارالذي تم فيه ستحس يأزمة المرأة. المرأة العربية.. فإذا كانت هي لا تعرف حقا سلمى الخضراء أو نازك الملائكة فلا يعقل نها لا تعرف بنت الشاطئ أو كوليت خوري؟..
هناك أيضا الدفاع غير المعقول عن النسبة العددية للموهوبات من الكاتبات… ثم سؤالها نفسها عن سبب عدم مناسبة أدب الاعتراف للمرأة ورفضها في نفس الوقت لسيمون دي بوفوار.. لكن لماذا لا ندعها هي تتكلم..؟

حوار صوفي 2
س- الفن عموما رؤيا خاصة وفردية من الفنان للعالم وذلك ناتج طبعا من الظروف الشخصية والاجتماعية التي نشأ فيها الفنان أو الفنانة… فما هي أهم العوامل التي أثرت في رؤيتك الفنية للعالم كما تظنين. ولماذا تكتبين عن البنات الصغيرات؟.

ج- طفولتي الغنية بالعواطف وحنان أبي وتعلقي الشديد به. وهذا يفسر اهتمامي كثيرا – وليس دائما كما يزعم السؤال- بالأطفال عموما، وبالبنات الصغيرات خصوصا؟ لأن دواعي الحياة وعواملها الأصلية تبدو صافية خالصة العنصر ببساطة وسذاجة لا تتدخل فيها التواءات المجتمع التي تختزل الطفولة، وتقضي على الكثير من النوازع المباشرة القوية وتصب الباقي في قالب من صنع المطامع والمخاوف والتربية.

س- قفزت البرجوازية المصرية إلى السلطة منذ ما يقرب من نصف قرن بعد ثورة سنة 1919 وما تبعها من حركات تحررية وديموقراطية لعل أهمها فتح الجامعة أمام الجنسين على السواء والدعوة للسفور… وكان نتاجا لذلك ظهور عدة أجيال من الكتّاب الرجال استطاعوا أن يبدعوا حقا في ميدان الأدب… لماذا لم تستطع المرأة المصرية تحقيق نفس المكاسب بالرغم من أنه أتيحت لها نفس الفرصة تقريبا.

ج ـ حقا لماذا؟ لعل النسبة العددية هنا ظالمة…
فالرجل يدخل الجامعة ويعمل غاابا، وهو يضع علمه وعمله في المقام الأول من حياته… أما المرأة فهي حتى الان لم تاخذ ـ في الغالب الأعم ـ العلم على أنه جد الحياة الحاد، بل على أنه (آخر تسريحة) وآخر صيحة لتجميل مظهرها. أنه وسيلة وليس غاية عند 95 على الأقل من النساء، مثل البيانو الذي كان في جهاز أمهاتنا مثلا، وكن يعزفن عليه “سماعي” لا حبا في الموسيقى بل لأنه علامة رقي ومدنية حتى لا تكون ناقصة الوجاهة عن زميلاتها، ومتى تزوجت تحول البيانو إلى قطعة موبيليا للزينة… إلى أن تولى التلفزيون والراديو مهمته وأحيل للمعاش، وتحولت علامة رقي البنت إلى تسريحة الشعر عند الحلاق وتسريحة المخ في الجامعة والقليلات جدا الجادات في الدرس والاطلاع سواء الجامعيات أو غيرهن نبغت منهن نسبة لو قورنت بعدد الجادات فعلا لما كانت ضئيلة، وأظنها لا يقل عن نسبة النوابغ الحقيقيين في الرجال (!) ولعل الزمن يطور المرأة العربية حتى لا تكون الثقافة عندها والأدب في موضع أدوات الزينة المصطنعة والتظاهر.

س- يتصور الرجال دائما أنهم هم فقط المسئولون عن الدنيا كلها، ولذلك فقد تعرّض الأدباء منهم للكتابة عن شخصيات نسائية في أعمالهم.. يوسف إدريس.. يحيى حقي.. نجيب محفوظ .. تيمور .. إلخ. وأعتقد أنهم نجحوا في تصوير هذه الشخصيات.
بينما نجد أن الاديبات يتعهدن ألا يخرجن في كتابتهن عن الدوائر الخاصة بنفس جنسهن وإذا خرجن كانت كتابتهن باهتة… لماذا؟

ج- ليس هذا صحيحا على إطلاقه، فليس هناك تعمد، لكن هناك ألفة لعالم المرأة النفسي ورغبة في التعبير عنه، ولكن هذا لا يمنع أن الكاتبات يرسمن شخصيات كثرة رجالي، وأحيلك فيما يخصني إلى قصص لي أعتز بها وبارزة في مجموعاتي :
(عم عامر أبو كيفه) و(عازف الأرغول) و(على مشارف الصحراء) و(ألف مبروك) و (الواجهة الصماء) و(أبو حنفي في السرك).. وعلى كل حال فالرجال يرسمون المرأة من تصورهم الفني الخاص، وكذلك النساء يرسمن الرجل من تصورهن الفني الخاص …
وأذكرك أن الرجال لا يرسمون النساء فقط، بل يرسمون الرجال بالأكثر، والنساء غالبا (مادة إضافية). وهذا طبيعي وبيني وبينك أن الفنان – رجلا أو امرأة ــ إنسان مزدوج الجنس في مزاجه النفسي غالبا، مما يجعله فوق التخصص الجنسي في فنه، ومما يساعده على صدق الإحساس بنفوس الرجال والنساء، من حيث هم بشر لا من حيث هم فئات جنسية.
و( الانسان) هو الموضوع الصميم لكل أدب عظيم.

س – في اعتقادي أن كثيرا من القصص الذي تكتبه أديبات يمكن أن يتغير صفته من أدب نسائي إلى مجرد أدب بدون أي صفة ملصقة به لو أعطينا الشخصيات أسماء رجال أو الاولاد بدلا من أسماء سيدات وفتيات فما العمل لتحديد سمات الأدب النسائي إذا كان ذلك صحيحا؟
ج ـ للمرة الألف أو الألفين في حياتي الأدبية أجدني مضطرة للتأكيد أنه لا يوجد شيء اسمه أدب رجالي وأدب حريمي، وأن هذا من مخلفات (مقصورة الحريم) ومن رواسب الفضول (المعين) الذي يلازم المراهقين في مجتمع انفصالي بحيث يرتبط كل ما تفعله المرأة بجنسها، مع الرغبة دائما في الوصول إلى تحديد “علامات التأنيث” في كل عمل تقوم به حتى ولو كان لا علاقة له إطلاقا بالأنوثة والذكورة.
س- لا شك أن التجربة التي عاشتها سيمون دي بوفوار مع سارتر غريبة تماما على المجتمع العربي… بل يمكن أن تكون مرفوضة تماما… لكننا يخيل إليّ – إننا يمكن أن نقبلها لو كانت هذه التجربة مجرد رواية مكتوبة مثلا… فهل يمكن أن تقبلي شخصية كشخصية سيمون دي بوفوار؟

حوار صوفي 1

ج – شخصية سيمون دي بوفوار كأمرأة أرفضها أولا لأني أرفض أن أكون أي شخص غبر ذاتي المتميزة.
وثانيا لأن ظروفها غير ظروفي، ونظرتي للعلاقات البشرية غير نظرتها تماما. وأما ما نقبله في الروايات ونرفضه في الواقع فهذا صحيح، ولكن القبول في الروايات ليس معناه الرضا أو الإعجاب حتما، بل معناه الاقتناع بالصدق الفني أو الإمكان الجائز نظريا هذا إسقاطه على أنفسنا. فمن المعروف دون أن يعني أن للقراءة أو النظر إلى العمل الفني – أي التذوق أحدهما التعاطف أي الشعور إجمالا – مستويان “بإن ما نقرأه أو نراه في الصورة يحدث لنا شخصيا فنتألم للمؤلم ونفرح للسار ونلتذ للذيذ. وهذا هو المستوى غير الفني في فهم الفن.
أما المستوى الآخر الفني، فهو تقمص الموضوع بحيث نسقط أنفسنا داخله بدلا من امتصاصه داخلنا كما في الحالة الأولى، وبذاك يكون إحساسنا به في صميمه ولحساب الفنان ومن باطنه.. وهذا الإحساس يوسع حياتنا ويعمقها ويرتفع بها، ولكنه لا يدور في مستوى واحد مع واقع حياتنا اليومية المشروطة بظروفها الخاصة وقوانينها الأخلاقية.

س- يقول جان بول سارتر في كتابه «ما الأدب؟»
ما معناه أن الأدب هو السلعة بين طرفين… منتج هو الكاتب ومستهلك هو القارىء، لذلك فالأديب يحيا دائما على هامش الظروف الاجتماعية… أنت ما رأيك في وظيفة الأدب؟

ج- الأدب هو التعبير عن وقع الوجود على وجدان الأديب، هذا من حيث أن الأدب فن، فهذه هي وظيفة الفن عموما كما أتصورها. أما حكاية السلعة هذه فناحية أخرى تخص المستهلك أو القارىء الذي يقبل الانتاج الذي يروقه حسب ذوقه وظروفه، فالعمل الفني – من حيث هو فن – يعبر عن رؤية صاحبه الوجدانية أساسا، وقد تجد هذه الرؤية أو أسلوب الفنان في التعبير عنها استجابة لدى القارئ كثيرة أو قليلة، أو لا تجد، وهذا شان القارىء، ولذلك لا أقبل تعيير سارتر عن الأدب أنه سلعة أساسا على التعريف الذي ساقه السؤال ـ وإنما هو رؤية أساسا ثم أي شيء بعد ذلك بصفة ثانوية ليست في صميمه وجوهره٠
س- إذا كان من غير المعقول أن يكون نصف الناس زبدا فقط، فإنه لا يمكن أيضا أن يكون النصف الآخر سكينا حادة، فالنفس الإنسانية محتوى غريب للخير والشر معا ومن هنا فقد أصبح تصوير أي شخصية إنسانية على أنه الخير فقط، أو الشر فقط ساذجا وبدائيا.. فهل تظنين أن الأديبات العربيات تعدين هذه المرحلة؟
ج- أنأ ضد حكاية (عربة أو مقصورة الحريم) التي انتقلت من الترام والسكة الحديد إلى الأدب هذه الأيام. هناك أدباء مجيدون وآخرون متخلِّفون، وكذلك الحال بالنسبة للأديبات. والتصور الذي أشرت إليه تجد له آثارا في كتابات الأدباء وفي كتابات الأدبيات، البعض من أولئك وهؤلاء ارتفعوا فوق هذا المستوى وأدركوا ما أدركت. وانا ممن يؤمنون بالنسبة لنفسي – إن إخراج الخشبة التي في عين المرء أفضل من الإشارة إلى القذى في عين الآخرين، ولذا أؤثر أن أراجع نفسي وأحاسبها ما استطعت، فتكميل عملي أولى باهتمامي.
س – هل يشترط في الكاتب أو الكاتبة أن يكون متعادلا حتى يكتب (كنجيب محفوظ مثلا)، أم أنه يكفيه أنه يعبر تعبيرا صادقا عن شيء جديد، وبـالتالي يضيف إلى التراث الإنساني شيئا جديدا (بودلبر وبائع الزجاج) وهل يناسب أدب الاعتراف المرأة … ولماذا؟
ج- أرجح أنك تعني بالتعادل الموضوعية وأن ينتزع المؤلف ذاته من شخصيات فنه القصصي، وهذا طريق (بلزاك) ومعاصرنا العظيم نجيب محفوظ، وهنالك طريق آخر فيه ذاتية كثرة، وليس هذا مما يعيبه فالمهم أنه (تعبير أمين عن كيان حي له أبعاده الفكرية أو الوجدانية) وسواء كانت هذه الحياة ذاتية أو موضوعية فهي أدب ولا مراء (وكل شيخ وله طريقة) ثم لماذا لا يناسب المرأة أدب الاعتراف أن ما يستهجن من الرجل يستهجن من المرأة والعكس صحيح أيضا ولكني أنبه إلى الفهم المنحرف الذي يربط أدب الاعتراف حتما بالتبذل والعري، وما يسمى بالأدب الفاضح. وهذا الارتباط لا وجود له إلا في بعض الأذهان التي تحتاج إلى عملية تطهر من الانحرافات المعششة بداخلها، وإنما المقصود بأدب الاعتراف الكشف عن خلجات النفس وخواطر الفكر في أزمانه وانفعالاته العميقة… وليس من الضروري أن تكون مكنونات النفس دائما شيئا بذيئا لا يليق بالرجل الفاضل والمرأة المحترمة٠

س- يقول البير كامي في كاليجو لا وأسطورة سيزيفا والطاعون وغيرها أن العبث يسيطر على حياة الإنسان، وأنه لا يفهم معنى لوجود الإنسان طالما هو يموت في النهاية أو يعجز عن تحقيق الخير والعدل لكن كاتبا آخر كـ (برتولد برخت) مثلا في كل أعماله له رأي آخر… أنت.. هل تحبين الدنيا.. ولماذا؟

ج- إني أحب الدنيا طالما تيسر لي أن أحقق ذاتي بدون عوائق تكبلني فنيا وإنسانيا ومن رأيي أن حب الحياة مسألة (مزاج نفسي) أكثر من أي شيء آخر فدواعي التفاؤل والتشاؤم موجودة دائما جنبا إلى جنب.

س- إذا كانت الكتابة هي نوع من تحقيق الذات فما رأيك في الأديبات الآتي أسماءهن.. وهل تظنين أنهن قد حققن ذاتهن فيما يكتبن؟
1- صوفي عبد الله 2- كوليت خوري 3- غادة السمان 4- بنت الشاطئ 5- سلمى الخضراء 6- نازك الملائكة.
ج- فيما يخصني الجواب بالإيجاب، فلهذا أكتب. وفيما يخص غيري لا أحب أن أخوض فيما لم تجتمع لي
أسباب الحكم عليه بتمامها.
س- يلاحظ أنك تصرين دائما على الكتابة بالفصحى مع أنك تكتبين عن مشاكل حياتية يومية… فهل ترين الفصحى أصدق في التعبير عن هذه المشاكل أم العامية؟

ج- المهم هو الصدق في الإحساس والتعبير الفني عن هذا الإحساس الصادق لا يشترط أن يكون باللغة التي تدرج على الألسنة، لأن الصدق الواقعي هنا ليس الصدق الفونوغرافي أو الحرفي، وإنما هو الصدق الفني الموحي بلباب الفكرة والإحساس، ولّلغة رموز لمدلولات في الذهن أو الوجدان والعبرة بما يستثير في القارىء تصورا وجدانيا وفكريا حيا ثم أن لغة الأدب في شكسير وراسين وغيرهما لم يقلل من قيمتها أنها فصيحة، بل كان ذلك أحفظ لها وادعى لنقائها وبقائها. والمسألة مسألة قدرة على التعبير، وأنا ضد (استسهال) فن الكتابة وعدم العناية بتعلم أصوله والاجتراء عليه بغبر دراية بعناصره ومنها عنصر اللغة قطعا مما لا يحدث في أي صناعة أو حرفة، حيث لا يسمح في التجارة مثلا أن يمارسها إلا من يدري أسرارها ووقائعها، فما ظنك بمن لا يحسن تركيب جملة عربية ويزعم نفسه أديبا عربيا؟.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى