د. يوسف حطّيني - التباس.. قصّة قصيرة

أن يأتي رجل إلى بيتك، ثم تعانقه زوجتك بشبق ظاهر أمر لا تستطيع أن تتخيله، وإذا كان خيالك فضفاضاً إلى هذه الدرجة المفزعة، فإنك لا تستطيع أن تتحمله، ولكن، ببساطة، هذا الذي يحدث دائماً:
* * *
قمتُ خفيفاً إلى صلاة الفجر، عددتُ حبات المسبحة عشرات المرات، قرأت جزء تبارك الذي بيده الملك، ثم صنعت فنجانين من القهوة: واحداً لي وآخر لزوجتي المسكينة التي تعبت كثيراً نهار أمس بسبب ضغط العلاقات الاجتماعية، ولكنها آثرتني على نفسها قائلة: اشرب الفنجانين معاً، ثم عادت إلى النوم.
اليوم عطلة وقد أعطتني إجازة من الصباح إلى المساء.
* * *
اشرب الفنجانين معاً قالت تلك المستهترة بعواطفي وضعفي، تلك المرأة التي لا ترحم سهري، بينما تقضي وقتها في بيوت صديقاتها، وما أن أعود إلى البيت حتى تخترع واجبات اجتماعية لا حصر لها، ثمّ تتركني أسير المنزل والأولاد.
اليوم عطلة، ولا أتذكر المناسبة، على كل حال: كل عام وأنتم بخير. زوجتي تستقبل اليوم عدداً من صديقاتها، أين سأذهب؟ ما زال لدي بعض الأعمال:أحضرت الخبز، وجهزت فطور الأولاد، ونظمت أوراقي المبعثرة، ثم انطلقت إلى حيث لا أدري.
* * *
أجد نفسي متحمساً لتنقيح قصيدتي الجديدة، الحمد لله أنني أحضرت معي أوراقاً، ولكن أين سأذهب: مقهى الهافانا لم يعد يستقطب إلا أنصاف الموهوبين الذين ما برحوا يعتقدون أن دخولهم إليه يجعل منهم أدباء من الدرجة الأولى، ومقهى الروضة يغصّ بطاولات الزهر والمسنين الهاربين من أعمارهم وزوجاتهم.
استشرت نفسي الأمارة بالسوء فأشارت عليّ بأن أذهب إلى حديقة بعيدة عن الناس، وبما أنني أحترم وجهة نظري، فقد حسمت حيرتي، واتجهت إلى حديقة البلدية، وهناك اخترت مكاناً تملؤه رائحة القمامة، حتى لا يفكر أحد بالجلوس فيه، ويفسد عليّ خلوتي الشعرية.
أخرجت أوراقي من الحقيبة الصغيرة، كما أخرجت قلماً صغيراً أحتفظ به دائماً في جيبي، ورحت أشطب ، في تأنٍّ، بعض الكلمات، وأكتب مكانها كلمات أخرى أكثر ملاءمة لذوق رئيس التحرير.
فجأة وعلى غير انتظار مني، باغت وحدتي رجل في مثل سني وشحوبي، بادرني بالقول:
ـ هل تكتب قصيدة جديدة؟
ـ لا .. لقد انتهيت من كتابتها تقريباً. إنني أضع الآن عليها اللمسات الأخيرة.
ـ هل تسمح؟
ودون أن أسمح له تقريباً، مدّ يده ، و أخذ القصيدة، وراح يقرؤها في صوت بذل جهداً كبيراً كي يجعله شاعرياً:
ـ من غير مجاملة.. قصيدتك جميلة جداً، وقريبة من قلبي.
ـ هل تحب قراءة الشعر.
ـ وأكتبه أيضاً. ولكنني أستغرب أنك تريد أن تضع اللمسات الأخيرة على قصيدة متكاملة.
ـ بصراحة..هناك كلمات جريئة أخاف أن يشطبها رئيس تحرير المجلة التي أكتب لها.
نظر إلي بعصبية فاجأتني: فليذهب إلى الجحيم.
شرحت له أن الحياة ليست كما يظن، أخبرته بحماس غير معتاد عن حكمتي التي أواجه بها زوجتي بينما أساعدها في أعمال المنزل، ريثما تتم قراءة الأبراج.. حدثته عن الاجتماع التنظيمي الذي أتغاضى فيه عن المصطلحات التي دخلت إليه حديثاً مثل حدود الدولة الفلسطينية، وتقاسم الماء والكهرباء، وتعبيرات مثل "السيد باراك والسيد شارون، والسيد جمال باشا السفاح"، عن محضر الاجتماع الذي أبصم على جدول أعماله وقراراته دون مشقة، حتى لا ينزل غضب رئيس التحرير فوق رأسي، قال مرة أخرى: فليذهبوا إلى الجحيم.
حاولت تلطيف الجو، فرحت أدندن أغنية فيروزية عذبة، قال: أحب فيروز، قلت حفاظاً على شعور زوجتي : أحب صوتها.
هذا الرجل الذي صمت فجأة يحيرني، يجعلني أفكر في كلامه، معه حق، فليذهبوا إلى الجحيم، زوجتي.. رئيس التحرير، والمسؤول التنظيمي، لا أحد منهم يستطيع أن يسلبني الحياة، وإن سلبوها حقاً، فهل أحيا الآن حياة تستحق أن تعاش؟
* * *
أحسست أن انفجاراً يهزني، وأنا أنظر إليه مبشراً، وأقول:
ـ فليذهبوا جميعاً إلى الجحيم.
ولكن الذي أثار غرابتي ودهشتي أنه استقبل بشارتي ببرود، وراح ينقل لي اقتناعه بوجهة نظري، وتصميمه، أن يكون مثلي مسايراً ما استطاع، غير أنني أكدت له أنني إنسان آخر منذ هذه اللحظة. باختصار صار مثل ما كنتُ، وصرت مثلما كان.
* * *
قضينا ساعات طويلة حتى جنّ الليل، وكاد أن ينتصف، ولولا كلاب البلدية التي هرّتنا، لبقينا إلى الصباح: كل منا يحاول أن يغير الآخر: أن أجعله مقاتلاً حقيقياً مثلما أراد لي، وأن يجعلني مسايراً مثلما جئت هذا الصباح. اعترفنا بفشلنا، ثم رحنا، في طريق العودة، نتذكر جوعنا.. تمنى من كل قلبه أن تكون زوجته قد أعدت ملوخية من يديها اللتين تلفان بالحرير، لأن الملوخية كانت أكلته المفضلة، شاركته الأمنية، فالملوخية أكلتي المفضلة أيضاً.
وفي طريق العودة تبادلنا النكات البذيئة التي اكتشفت أنه يحبها مثلي، وقد أدهشني أنه يحفظها جميعها، وأدهشني أكثر أننا نسكن قريبين من بعضنا، لذلك حين أخبرني أنه يسكن في برزة، قرب جامع إبراهيم الخليل، شعرت بالأنس في هذا الليل البهيم، وحين وصلنا قرب المسجد ودعته، وودعني، ولكننا سرنا في اتجاه واحد.
ـ أسكن في البناء رقم (20).
ـ معقول؟ إذاً نسكن في بناء واحد.
دخلنا البناء، صعدنا الدرج متخاصرين، مثل أي صديقين حميمين، وحين وصلنا أمام منزلي تماماً صافحني، وأخرج المفتاح من جيبه، وفتح الباب ودخل..
لم أضيع لحظة واحدة.. دخلت خلفه، سار على رؤوس أصابعه حتى دخل غرفة النوم، ثار الدم في قلبي، ضربته، ولكنه لم يتأثر، وصار يتصرف كأنه لم يكن يراني أو يشعر بي.
جلستُ تماماً قبالة زوجتي التي كانت تلبس، أو لا تلبس تقريباً، تفريعتها الحمراء، وتغمض عينيها نصف إغماضة، قال: ها قد جئتُ يا حبيبتي، أتمنى أن تكوني قد استمتعت مع صديقاتك.
قلت: جهزي لي طعام العشاء، فأنا جائع.
وكأنها لم تكن تسمعني، فتحت له ذراعيها، وراحت تضمه، وتشمه، بنشوة ظاهرة، بينما رحت أرقبهما بكثير من الحسد، وأطل برأسي بين وقت وآخر، حتى غلبني النعاس والبرد والقهر تحت السرير الذي كان سريري حتى أمد قريب.


14/1/2000



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى